}

اتجاهات الشعر في لبنان اليوم (2 ـ 2)

ليندا نصار ليندا نصار 19 نوفمبر 2023
هنا/الآن اتجاهات الشعر في لبنان اليوم (2 ـ 2)
أعلى اليمين: محمد ناصرالدين/أحمد نزال/يسرى البيطار/علي نسر/هنيبعل كرم/محمود عثمان
لا شك في أن الراهن الشعري العربي يعيش مخاضًا عسيرًا أمام تحولات مفصلية تشهدها القصيدة العربية، ونضوب منابعها، وذلك في ظل هيمنة قصوى لجعل الحياة ترتبط على نحو خاص بثقافة الاستهلاك وتسطيح الوعي الجمالي بفعل تأثير الوسائط على الذهنيات والعقليات.
إنّنا أمام إشكال يتعلّق بأزمة كل واحد من الشعراء والنقاد والأكاديميين الذي يحمل قلقه الخاص تجاهها ومدى مدّ الساحة الشعرية العربية بتجارب شعرية جديدة يكاد يكون متخيلها متشابهًا في سياق تثوير الإمكانات الجمالية ومدى الوعي بسؤال الخصوصية والتفرد ومساحات الوجدان والدهشة الفلسفية واشتغالها على جمالية الشعر وارتداداته التي لطالما كانت تشكّل نورًا في خريطة الشعر العربي. فالواقع الشعري العربي ليس في معزل عما يتشكل في لبنان باعتباره رافدًا مهمًا من روافد التأسيس لحركية الإبداع الشعري، وخصوصًا حين نقارن بين المشهد الشعري في مرحلة ليست ببعيدة، (أعني هنا الشعراء الذين تخطوا سنّ الأربعين مثلًا والذين حرّكوا المشهد الثقافي في مناطق لبنانية عدة)، حيث ننتبه إلى خفوت أو انحسار الأصوات الشعرية الجديدة وحضورها في المشهد الثقافي العربي.
من هنا نفتح هذه الإشكالية مع مجموعة من الشعراء والأدباء والأكاديميين اللبنانيين المواكبين للمشهد الثقافي: إلى أين يتجه الشعر في لبنان اليوم؟ أين شعراء العشرين؟ إلام يحتاج الشعراء الشباب اليوم؟ ما الأسباب الكامنة وراء غياب حركية المواهب الجديدة؟ وهل من أسباب الأخرى؟
هنا القسم الثاني والأخير:

الشاعر هنيبعل كرم:
نعيش مآزق اجتماعيّة وسياسيّة ووجوديّة



لن أتوقّف عند تعريف الشّعر ووظيفته، فربّما كان من الأجدى أن نتحدّث عن الأدب بشكل عامٍّ، شعرًا ونثرًا، بصفته كائنًا ينمو بنموّ الحياة واطّرادها في مسار يعلو ويهبط عبر التّاريخ، فيرسم لنا صورة واضحة عن الإنسان، عن همومه وهواجسه، عن المجتمع في قيمه وثقافته وتطلّعاته وأحلامه وعقده وإشكاليّاته الحضاريّة واللغويّة والإنسانيّة...
أين هو الشّعرُ الآن؟ بل أين هو الأدب اليوم في لبنان والعالم العربيّ؟
يجب أن نفهم أنّ الأديب والشّاعر، أو الرّوائيّ والكاتب بشكل عامّ، هو كذلك لأنّه يمتلك المعرفة والموهبة واللّغة التي تمدّه بمفردات نورانيّة تستطيع أن تقلب الدّنيا رأسًا على عقب. إنّه صاحب رؤيا في ما يقول، أو يكتب، أو يصوّر، بالعلاقة مع مجتمع يعيش فيه وعالمٍ مبسوط على راحتيه يشاركه الآمال والآلام ويختلف معه في كثير وكثير. إنّه ليس شاعرًا أو أديبًا لأنّه اختار هذه التسميات ليزيّن بها صفحاته على مواقع التّواصل الاجتماعيّ، بل لأنّه يشارك النّاس همومهم ورؤاهم، ويعبّر عنها بطريقة قادرة على اختراق جدران الإسمنت والفولاذ، ليطلق من خلفها الرّوح الإنسانيّة، ويعتقها في سعيها إلى الحريّة، وإلى المعرفة. ولا ننسى أنّ الشّاعر ـ ليكون شاعرًا ـ يحتاجُ إلى قارئ أيضًا لديه ما يكفي من المَلَكات اللغوية والمعرفيّة والثّقافيّة، فيسمّيه شاعرًا بحقّ، مختلف شكلًا ومضمونًا عن "شعراء الصّالونات"، وشعراء المناسبات...
لماذا خفت صوت الشّعر، والشّعراء؟ وأين هم الشّعراء الشباب اليوم، وحول ماذا يكتبون؟
بالنّسبة للسؤال الأوّل، لا شكّ في أننا نعيش مآزق اجتماعيّة وسياسيّة ووجوديّة، وتبدّلًا كبيرًا على مستوى القيم والثقافة تخطّى، في السّنوات القليلة الماضية، مسألة كونه مجرّد صراعٍ بين الأجيالِ تاريخيّ وطبيعيّ، ليطلَّ بنا على نظام حياة أخرى مختلف بشكلٍ شبه جذريّ ومخيف أحيانًا عمّا ساد في السّنوات الثلاثين الماضية. ونحن لم نشهد حتّى اللحظة تعبيرًا واضحًا، شعرًا ونثًرا، عمّا سيؤول بنا إليه هذا المطاف.
أمّا بالنّسبة للسّؤال الثاني: أين هم الشّعراء الشّباب اليوم، وحول ماذا يكتبون؟ فعلى الرّغم من اعتبار كثيرين أنّ الإجابة عن السّؤال بسؤال آخر، أمرٌ قليل اللّياقة والتّهذيب، إلّا أنني أودّ أن أسأل: هل بحثت الوزرارت المعنيّة والحكومات والجمعيّات والنّوادي المحليّة، وتلك التي على صعيد الوطن، عن هؤلاء الشباب؟ هل اهتمّ أحدٌ ذو باعٍ طويلة في عالم الثقافة والتربيّة واللّغة والأدب بهؤلاء المغمورين تحت طبقة الضّجيج الإعلاميّ وبلبلةِ الصّفوف الأماميّة وتصدّر الشّاشات والبرامج المصوّرة؟ هل اهتمّ المعنيّون، من إعلاميين وشعراء وسياسيين وأحزاب وفعاليّات "عابرة للقارات"، بإطلاق هؤلاء الشّباب الذين هم، بالقوّة، قادة هذا الوطن ومفكّروه وأدباؤه والمخترعون والباحثون فيه... ولكنّهم بالفعل، وللأسف، مسحوقون بمنطق المناطق ومركزية العاصمة، وببعض أمسيات المقاهي الثقافيّة الخجولة، كما وبمنطق المتربّعين على كراسي الاعلام ووزارتَي التربية والثّقافة الذين تنقصهم فعلًا الرّؤيا التي لدى كثيرين من أولئك الشّباب؟!
بصفتي أستاذًا على تماس مباشر ودائم مع الشباب في المرحلتين: الثانوية والجامعيّة، وما بعدهما، أتجرّأ على القول إن "الشعراء الشّباب"، أو على الأقلّ من لديهم خميرةَ الإبداع الأدبيّ، موجودون حتمًا. ربّما يحتاج هؤلاء إلى الخبرة والمعرفة اللازمتين لنضج التّجربة. لكن، ومن دون أدنى شكّ، إنّهم موجودون هنا، بيننا، لديهم ما يودّون قوله لجيلٍ، ولأجيالٍ سبقتهم، وللأجيال اللاحقة. إنّهم في هذا المشهد كمن يشدُّ قميصَ مَن يدير ظهره للعالم باحثًا عنه وقد صار العالم وراءه. حبّذا لو يستمع إليه، إنّه يريد أن يقول لهذا الأعمى أمرًا بعيدًا عن التّنظير الذي شغله عشرات السّنين. تنظيرٌ لم يقدّم شيئًا مهمًّا للعالم في صراعه مع الحياة، ماضيها، حاضرها ومستقبلها. والدّليل على هذا هذه الحفرةُ العميقة التي نتلمّسُ حوافيها في الظلام.




أختم هذا الموضوع الواسع والكبير، بطرفةٍ مبكيةٍ، عمرها سنوات، تدور حول أحد النّاشطين على مسرح الثّقافة، بصفاتٍ وألقاب طنّأنة رنّانة: الأديب، الشاعر، الدكتور، الباحث...، الّذي قاطع يومًا متعتي الصّباحيّة بقراءة نصّ جميلٍ جدًّا لطالب جامعيّ لم يسمع به أحد، ليطلب منّي خدمة بمناسبة إطلاق كتابه الخامس، أو العاشر، من كتبه التي لم يحفظ منها أحدٌ، لا في الشرق ولا في الغرب، عبارةً واحدة، وبعد تكريمٍ من وزارات عدّة، وعلى رأسها وزارة الثّقافة. كان سؤاله حول بطاقات الدّعوة: "كلمة حضرات؛ تكتب بالتّاء المبسوطة، أو المربوطة؟".
لم يكن السّؤال هامًّا أو مفاجئًا... بل كان مؤسفًا... إنّه مؤسف فقط.
أعطوا الشباب فرصة، واخلقوا لهم الفرصَ، وادعموهم وساندوهم، واطرحوا أمامهم، شاعراتٍ وشعراء، أديباتٍ وأدباء، قيمًا تليق بالحياة التي نحلم بها... حياتنا وحياتهم...
لا تغاروا منهم، بل عليهم، ثمّ صلّوا... صلّوا كثيرًا لأنّ منهم سيكون ربّان سفينتنا.

الشاعر والأكاديمي محمود عثمان:
الزمن الذي انطلق فيه من سبقنا كان أفضل



نحن في عصر الاستعراض، حيث التافهون، كما قال ألان دونو، قد ربحوا المعركة. ولكني أراهم ربحوا مؤقتًا، فالمواهب الحقيقية هي التي تكسب المعركة في النهاية. تلك هي سنّة التاريخ. فالزيف لا يكبر بالحق، بل بالباطل، أو بالقوة. وهذا ما ينطبق على "جحافل الحمقى" التي تغزو الفضاء الافتراضي. آلاف الأشخاص على مواقع التواصل الاجتماعي يضعون أمام أسمائهم لقب الشاعر، أو الشاعرة، والغالبية العظمى من هؤلاء متطفلون. وفي أحسن الأحوال هم من الغاوين. المشكلة أنّ الغاوين يصنّفون أنفسهم شعراء، ويملأون الفضاء ضجيجًا. والشعراء الحقيقيون يعتريهم الشك لأنهم يبحثون عن إبداع أفضل، بينما المتطفلون واثقون جدًا من مواهبهم، أقصد مواهبهم الاستعراضية.
في كل جيل شعراء وأدباء، ولكنّ الزمن الذي انطلق فيه من سبقنا كان أفضل. ففي الخمسينيات والستينيات مثلًا كانت بيروت عاصمة الثقافة العربية. الآن انتقل الثقل إلى عواصم أخرى، حيث الإمكانات المادية وغيرها. ولذلك لاحظنا بعض البرامج الاستعراضية التي فرضت نفسها مرجعية شعرية، وراحت تفرّخ لنا أمراء، حيث تحول الشعر إلى سلعة جماهيرية، وحيث لعبة الجوائز في عالمنا العربي تخضع لكثير من الاعتبارات والمصالح. وبالرغم من هذا المشهد المحزن، فأنا على ثقة من "حملة النار". فالشعلة تنتقل من يد إلى يد، ومن جيل إلى جيل. المعركة صعبة وسط هذا الغبار الكثيف، ولكنّ الموهبة التي تصقلها الثقافة والخبرة ستنتصر.
شعرنا الحديث، سواء الموزون، أو غير الموزون، متشابه. فالشعراء والغاوون لم "يغادروا من متردم".
النظّامون يبعثون على الملل، وكتّاب النصوص السردية والخواطر  يثيرون الضجر. ولكن هنالك أصوات واثقة تنطلق من تراثها لتتجاوزه.
على الشعراء الجدد أن يقرأوا تراثهم ليقفوا على أقدامهم وليواجهوا العالم وينفتحوا على ثقافته. صحيح أنّ هنالك استخفافًا بالشعر من قبل النقاد، وعزوفًا عنه من شريحة واسعة من الناس، ولكنّ المسؤولية لا تقع فقط على المجتمع، أو على الناشرين، بل على الشعراء أنفسهم، فليكفّوا عن المجاملات والاحتفاء بالنصوص المبتذلة.

الشاعرة والأكاديمية يسرى البيطار:
لا خوف على الشعر عمومًا



إن شعراء كثيرين، وأنا منهم، لم ينشروا قصائدهم إلا بعد تجاوزهم الثلاثين؛ وطالما أعلنت أن النشر مسؤولية وليس ارتجالًا. لهذا أعتقد أن العمر لم يكن يومًا معيارًا للحركة الشعريّة، أو سواها. لكن الخفوت النسبي الراهن، على الساحة الأدبية عمومًا، مردُّه إلى الأزمة الاقتصاديّة ـ الاجتماعيّة التي ترخي بثقلها خصوصًا على جماعة المثقفين؛ ومعلوم أن الشعراء أشد حساسية وتأثرًا بالظروف.
لذا نلاحظ أن شعراء لبنانيين مخضرمين لا يكتبون الآن، ومنذ حوالى أربع سنوات، وكأنّ المزاج الثقافيّ العامّ ليس صافيًا هذه الفترة؛ فكيف ستتفجر المواهب الجديدة؟
أما المتخيَّل، والإمكانات الشعريّة، والاشتغال بالجمال، فالمتوقع أن تتغيّر معاييرها في القادم من الأعمال الإبداعية، لأن الجيل التالي، شاء أم أبى، واقع تحت سطوة الإنترنت، والذكاء الاصطناعيّ، ومحاولات تغيير وجه الكوكب... وأعتقد أن هذه الأزمة، أو الصراع، بين مثاليّة الشاعر وعملانيّة العصر، ستكون موضوع الأبحاث المقبلة في النقد الشعريّ.
ونعلم أن الشعر مؤثّر ومتأثّر، وهو بهذا يحافظ على مصداقيّته في التعبير عن الحياة. لذا فلا جدوى من عمليّة "تشجيع" تخرِج المواليد قبل أوانها، فالنبع يتفجر في حينه، وكذا الثمار.
لا خوف على الشعر عمومًا، فمنذ كم محطة ظنّ العرب أن الشعر انتهى؟ ثم بقي. ولا خوف على الشعر في لبنان خصوصًا، لأن ساحتنا الثقافية مدججة بآلاف السنين من الحضارة، وبطبقات عالية من الحرية لا تكاد تبلغها أي دولة عربية أخرى.
ربما ما يمكن فعله هو الضغط على أنفسنا لمحاربة الحالة السياسيّة ـ الاقتصاديّة المحبِطة، وإعادة النبض إلى أمسيات الشعر بالرغم من الظروف، من أجل إعادة تهيئة المكان لولاداتٍ جديدة. فالمواهب الجديدة ليست غائبة، لكنها حسب نظريات الفلسفة موجودةٌ بالقوة، ولا تزال تنتظر.
إن فكرة الغاية، أو نوعيّة التلقي، تشكّل اعتبارًا مهمًّا في تشكيل الإبداع، مهما حاولت نظريات الفن للفن، أو الإبداع لأجل الذات، أن تقلل من تأثيرها؛ ولهذا قيل منذ القِدمِ إن الأدب هو ابن بيئته، ولا يمكن فصله عن معطياتِها الاجتماعيّة التي تأتي على درجة المعطيات النفسيّة الذاتيّة؛ أو قل إن المعطيات النفسية والاجتماعية متداخلة في الشخصية الإنسانية عمومًا، بحيث لا يمكن تخيّل الحد الفاصل بينها.

الشاعر والأكاديمي أحمد نزال:
غياب النقد الحقيقي من الأسباب التي أدت إلى التراجع



في الحقيقة، تتمثل الإشكالية الأساسية في الإبداع الحقيقي، ونعني بالإبداع، هنا، ليس إنتاج الأدب فحسب، وإنما إنتاج الجديد منه الذي يمثل رؤية جديدة منبثقة من الواقع المعيش ومشكلاته الكثيرة.
ليس من السهل حدوث ذلك في ظل هيمنة ثقافة الاستهلاك على المشهد الثقافي، من هنا نرى أن الشعر، اليوم، بحاجة إلى توافر الشروط الذاتية والموضوعية التي تتيح لأصحاب المواهب أن يبدعوا وأن ينفردوا في التجربة ويعبروا عنها.




في الحقيقة، يمكن للملاحظ المتتبع لمسار حركة الشعراء الشباب أن يرى أن حركة جديدة بدأت تظهر، تنطلق من الواقع ولا تنفصل عنه، فتشكل تجربة شعرية فيها فرادة وتميّز على المستويين الفني والفكري. نرى هذا بوضوح عندما نتابع النصوص الجديدة التي يقدمها الشعراء، في محاولات جديدة على مستوى البنية الكلية للنصوص.
الملاحظ العودة إلى القصيدة التي تعتمد نظام الشطرين بعد شبه انكفاء لما أطلق عليه في مرحلة من الزمن "قصيدة النثر"، وتصدر الرواية العربية للمشهد الإبداعي.
ولا شك في أن احتضان المؤسسات الرسمية والجمعيات والمنتديات للشعراء الشباب من الأمور المهمة التي تغني التجربة وتفتح كوة في الجدار الذي أفرزته حركة الشعر العربي في العقود السابقة. وللأسف هذا الاحتضان لم يستطع أن يخرج من المحسوبيات والعلاقات الشخصية...
إن غياب النقد الحقيقي الذي ينبغي أن يواكب حركة الإبداع من الأسباب التي أدت إلى تراجع كثيرين، خصوصًا عندما ندرك استسهال النشر، وغياب الرقابة على المنشور، فيختلط، حينئذٍ، القمح بالزؤان.

الشاعر والأكاديمي محمد ناصر الدين:
لا خوف على الشعر



هذا السؤال إشكالي، وقد لا أجد له إجابة جاهزة. فما مصير الشعر اللبناني الشبابي اليوم؟
أتذكر أنه عام 2015 طرح الشاعران عباس بيضون، وإسكندر حبش، الإشكالية نفسها، وكانا في حينها يظنان أن الشعر الشبابي قد انقرض. فمن سيحمل الشعلة من بعدهما، ومن سيحمل كرة النار من بعد جيل الرواد الذي كتب الحداثة الشعرية، وجيل عباس بيضون، وإسكندر حبش، وعيسى مخلوف، حيث ظهرت ملامح ذلك الجيل في الحمرا...
ظهر جيل الحانات في بيروت، وقد لقّب بذلك لأنه قرأ الشعر في الحانات، وأذكر من بينهم الشاعر فيديل سبيتي، وغسان جواد، وغيرهما... فمن الشعراء الذين أتوا بعد هذه الأجيال الثلاثة؟
أتذكر أنه تم التنظيم لندوة أقيمت في جريدة السفير بحيث انضممت إليها مع الشعراء مهدي منصور، وباسل الزين، وربيع شلهوب، كانت عبارة عن معرفة شخصية بنا لاستطلاع جيلنا الذي كان في الثلاثين من العمر، والصحافي إلياس العطروني دعانا إلى ندوة أيضًا، وأنت كنت فيها، وقال في نهايتها إنه كان يظن أن الشعر قد ضاع في لبنان، وها هو يجد أن القماشة التي يكتب بها، قماشة القصائد لجيل الأربعين هي قماشة ثقافية عميقة بامتياز، وليس كما كان يظن.
المعضلة ذاتها واجهتها منذ سنوات في بداية عملي في جريدة الأخبار، حين طرحت سؤالًا: من هم الشعراء العشرينيون في لبنان. كنت في مأزق فعلًا، وبحثنا عنهم، والآن بعضهم قد شق طريقه، وبعضهم كان يعرف أنه شاعر، مثل محمود وهبي، وبهاء إيعالي، وبعض آخر كان يكتب الرواية ويطعمها بكثير من الشعر، ولا يدرك بأنه شاعر، لكنه الآن في نهاية العشرين بدأ يهتدي إلى الشعر. كذلك هناك شعراء توجهوا إلى الترجمة، وشاعرات في الصحافة، مثل نورهان شرف الدين...
لكي أختم هذه البانوراما أعود إلى بيت عنترة الشهير: هل غادر الشعراء من متردم... هل سينقرض الشعر؟ في الحقيقة لست من هواة المراثي على الشعر، حتى ولو لم نجد جيلًا أظن أن الأطفال الصغار بخيالاتهم وتراكيبهم اللغوية التي يمارسونها بالنظر إلى الغيوم، وبالكلام مع الدمى، يمارسون نوعًا من الشعر، وطالما أن اللغة العربية تدرس في المدارس، وتقرأ في القرآن، وفي الأناجيل، طالما نتعامل بها، ونسمع فيروز بهذه اللغة، ونحس بها، أظن الشعر لن ينتهي.
الشعر بدأ في الكهوف الأولى للبشرية، وسيرافق الإنسان إلى اليوم الأخير من حياته. واليوم ننتبه إلى أنّ الروبوت يكتب الشعر، فلماذا سينقرض هذا الفنّ؟ أظن أن الأجيال الجديدة ستستفيد من تجربة الذكاء الاصطناعي والتكنولوجي، وستطعم الشعر بهذه التكنولوجيا، فلا خوف على الشعر.
هؤلاء الذين ذكرناهم شعراء العشرين. وكما أنت وأنا بحثنا عن جيل، سيأتي دور هؤلاء، وستلمع أسماؤهم، وسيبحثون عمن يحمل الشعلة من بعدهم أيضًا.

الشاعر والأكاديمي علي نسر:
نعاني أزمة شعر وهي أزمة شاعر ومتلقّ



دوّت أصوات كبار الشعراء قديمًا شاكية من نضوب الموضوعات، إنذارًا في الوسط الشعريّ، بالرغم مما كان يدّخره الشاعر من قاموس مفردات يشكّل أضعاف أضعاف ما يمتلكه شعراؤنا اليوم، وهذا الانتقاص في المخزون اللفظي كان سببًا من أسباب ولادة قصيدة التفعيلة والقصيدة النثرية، بسبب افتقار الشعراء لكثير من الكلمات والألفاظ الشعرية، ما جعل البيت في القصيدة العمودية حشوًا في معظمه، يرصف فيه الشاعر كلماتٍ لا يؤثّر في المعنى غيابُها، بغية الوصول إلى القافية، ونغمات الرويّ. وإذا كانت شكوى الشاعر القديم أنّ الموضوعات قد جفّت، ولم يبق منها ما يمكن رتقه، فإنّ ما يعاني منه الشعر اليوم هو اندثار الألفاظ والصور التي طالما شكّلت روافد اللغة الشعرية التي تتميّز بها القصيدة عادة، وتشكّل مع الصورة برهان المضامين الشعريّة... فليست الأزمة اليوم أزمة موضوعات فحسب، بل إنّ الموضوعات مطروحة في الطرق، والقفزة النوعية التي تشهدها الحياة على الصعيد العلمي والتكنولوجي توفّر للمبدعين، اليوم، حقلًا معرفيًّا لافتًا. ولكنّ الأزمة في تطويع مصطلحات هذه الحياة العلمية الجديدة في الشعر، تشاركها أزمة المتلقّي أيضًا.
يعاني الشاعر اليوم، وفي ظلّ الطّفرة العلميّة، وما يتوافر لدى المتلقّي من الأجيال الحاليّة من وسائل ترفيهيّة، صرفتهم عن الاهتمام بالقراءات الأدبيّة، يعاني من إيجاد الصّور وانتقاء الألفاظ للتّعبير عن رؤية، وهي أوّل ما يسأل القرّاء والنقّاد عنها في أثناء دراسة القصيدة. فالشّعراء، متوسّطو العمر، الّذين وفّرت لهم الحياة الماضية القريبة، مخزونًا من الصور والتعابير، يمرّون اليوم بأزمة مزدوجة، أزمة الارتباط بالماضي شبه المجهول بالنسبة إلى قرّاء جيل اليوم، وأزمة الغرف من الواقع الفعليّ والحقل المعرفي الّذي لا تصلح مصطلحاته وألفاظه لأن تكون مصطلحات شعريّة في المدى المنظور على الأقلّ، رغم قدرة بعض الشعراء على تطويع بعضها لصالح الشعر. وهذا يعود إلى غربة المتلقّي من الجيل الحالي عن واقعيات المراحل الماضية، إذ لم يعد هذا الجيل يفقه معاني قديمة شكّلت مَعين الشعر وخزّانه المتدفّق، كالبيدر مثلًا، أو علاقة الفراشة بأضواء القناديل، أو حوارات البراري المتبدلة بتبدّل أردية الفصول، أو ما تخفيه النسائم من أسرار في عباب الشجر، أو الوشوشات التي يتركها الموج في آذان الصخور... نظرًا إلى انعزالهم واحتجاب أنظارهم عن ذلك... وأزمة التفاعل مع مصطلحات اليوم، تعود إلى ثقلها في استخدام الشاعر لها، كثقلها في الوجود العام، كالحاسوب والخليوي والمول وغير ذلك، ما يؤدّي إلى مضاعفة الجهد لدى الشعراء، حيث لم يعد في مقدورهم أن يقولوا: لماذا لا تفهمون ما يقال، إذا ما تعرّضوا للسؤال القديم الجديد: لماذا تقولون ما لا يُفهم؟... وهذا العبء والتمزّق في تنقية الكلمات والصور يرتاح منهما أصحاب الفنون الأدبيّة الأخرى، كالروائيين، وكتّاب المقالات، وأصحاب الفن المسرحيّ.
وهذا كلّه يؤكّد أنّ أزمة الشّعر الّتي لم يخل عصر منها، هي أزمة شاعر ومتلقّ، خصوصًا لدى شعراء اليوم من ذوي الأعمار الصغيرة، حيث الإقدام الخجول على الشعر. والسؤال الإشكاليّ الأكثر حضورًا: لماذا تغلّب قدماؤنا على رياح الأزمات، بينما شعراؤنا الجدد يقفون وسط العاصفة عراة لا يفكّرون في إيجاد حلول؟ 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.