}

عبد الحسين شعبان: القضية الفلسطينية أنبل وأعدل قضية بالكون

ليندا نصار ليندا نصار 20 أبريل 2024
حوارات عبد الحسين شعبان: القضية الفلسطينية أنبل وأعدل قضية بالكون
عبد الحسين شعبان

 

يحمل الأكاديمي والمفكر العراقي، عبد الحسين شعبان، رسالة إنسانية فكرية في مساره الأكاديمي والإبداعي الثقافي. إنه المثقف الأصيل الذي يتميز برؤى خاصة تجاه الحياة والمجتمعات، ومستقبل الشعوب، انطلاقًا من تطلعه إلى مناصرة حقوق الإنسان، وحقه في العيش الكريم في مجتمع مبني على القيم، وإيمانًا منه بأنّ المحبة والتسامح وتقبل الآخر تشكل صلة الوصل والترابط بين الأفراد والمجتمعات السوية الناجحة في علاقاتها ببعضها بعضًا.
عبد الحسين شعبان هو الكاتب المتحرر الداعي بدوره إلى تحرر المجتمعات عبر الثقافة والكتابة التي جعلها تحمل قضايا فلسطين والصراعات الطويلة وما تعيشه المنطقة، خصوصًا ما يحدث اليوم من قتل وإبادة وعنف تتعرض له فلسطين وغزة خصوصًا.
يجمع في شخصه بين حبه للأدب، ونشاطه السياسي الثقافي. كما يرى أنّ الحرية والجمال والإبداع رسالة الثقافة والأدب تتناقلها الأجيال على الرغم مما وصلنا إليه من استلحاق المثقف بالسياسي، وتحكم السلطة به.
لكاتبنا العراقي أكثر من خمسين مؤلفًا في قضايا الفكر والفنون والسياسة والأديان، وهو قامة أدبية ثقافية سياسية، وناشط في الدفاع عن حقوق الإنسان. حاز على أوسمة عدة، وكتب وحاضر في عشرات الدراسات والمؤتمرات حول فلسطين والدول العربية. بالإضافة إلى أنه أسس اللجنة العربية لمناهضة الصهيونية والعنصرية مع نخبة من الزملاء عام 1986.
التقينا الدكتور عبد الحسين شعبان بمناسبة صدور مؤلفين أدبيين له: مظفر النواب: رحلة البنفسج ــ دار النهار، وجواهر الجواهري ــ دار سعاد الصباح للثقافة والإبداع، وكان معه الحوار الآتي حول تجربته الطويلة:


(*) تقول في كتاب "مظفر النواب: رحلة البنفسج"، وتحديدًا تحت عنوان "سيرة لم تكتب"، أنّ سيرته اختلطت بسيرة الآخرين. ما هي أهمّيّة أن يكون المثقف كونيًا حرًا منفتحًا على الجغرافيات المجاورة والعالمية؟
الأهمية تكمن في أن هويّة مظفر النواب متعدّدة الأبعاد، وطنية عراقية وعروبية وأممية إنسانية، علمًا بأنه لا توجد هويّة نقيّة، أو صافية. هكذا تكون الهويّة مركّبة ومتفاعلة مع محيطها، وهي ليست مغلقة أو جامدة. إنها أقرب إلى الأرخبيل المفتوح، وليست بركة راكدة. الهويّة ليست نهائية، أو سرمدية، وإنما هي مفتوحة ومتغيّرة مع مرور الوقت، لأن الأساس في الهويّة هو اللغة والثقافة والتاريخ والدين، وهذه أقرب إلى الثبات، أما العادات والتقاليد والفنون والآداب فإنها تتغيّر بالتدرّج والتفاعل مع الهويّات الأخرى، وعبر تراكم طويل الأمد.
كان مظفّر النواب ينظر إلى الآخر من خلال ذاته، ويرى ذاته في الآخر، وذلك في بحث إنساني عن التكامل. وبصفته مثقفًا حرًّا، كان يواجه العنف بقوّة الحق وعمق المعرفة وصدق الأخلاق ونبل الغايات وشرف الوسائل. وبهذا التوازن الضروري، قدّم رؤية جديدة للمثقّف الكوني، لا سيّما قدرته على الفعل، إلى جانب التنظير.
وعلى الرغم من انتمائه السياسي الأول، فإنه كان أبعد ما يكون عن الانحيازات الضيقة، والمصالح الأنانية، والاعتبارات الظرفية والطارئة. كانت نظرته بعيدة المدى إلى ما هو استراتيجي وجمالي وإنساني. لقد نظر مظفر إلى الدور الحيوي الذي يمكن للمثقف أن يمثله خارج الدوائر النسقية، سواءً كانت أيديولوجية، أو قومية، أو دينية، أو غيرها. وإذا كان منحازًا إلى الفقراء وفلسطين، فذلك لاعتبار أخلاقي أولًا، ولاعتبار العدالة بمعناها المطلق ثانيًا. وهكذا، كان مترعًا بالجمال والفن والإبداع، لا سيّما بإدراك ضرورات التنوّع والتعدّدية، والبحث عمّا هو جامع، مؤاخيًا بين القلب والعقل، برهافة حسّ وبصيرة وأمل.
يمكننا هنا الحديث عن إدوارد سعيد كأنموذج أيضًا للمثقف الكوني المتجاوز للجيوبوليتيك والأيديولوجيات، متمسكًا بقيم الحريّة والعدالة والسلام. وكنت قد كتبت عن نموذجين آخرين للمثقف الكوني هما هادي العلوي (العراقي)، ومحمد سيد سعيد (المصري)، بما يمتلكان من فضيلة وحكمة، تلك التي جسّدها مظفر النواب، بعد أن نزع ثوب الأيديولوجيا.
وحسب ميشيل فوكو، فإن مهمة المثقف هي صنع البيئة التحتية للثقافة، فهو صانع الأفكار. وكان أنطونيو غرامشي يرى أن خلاص الأمم يقع على عاتق المثقف. وقبله بشّر بليخانوف بدور الإنتليجنسيا والتكنولوجيا في إحداث التغيير المطلوب.

(*) سيرة النواب هي سيرة من انتمى إلى مثلث الإبداع والفن والجمال. فأن ينتصر الشاعر المبدع للفقراء والمهمشين، وأن ينظر إلى قيود السجن ويرى فيها احتمالات الحياة هو انتصار للحلم المتحقق والأمل المرتجى أيضًا، الذي لا يحرقه طاغية. كما أنه تحرر من سطوة الزمن، وطرح المستقبل الذي سيكتبه التاريخ. فما هي الرؤى التي دعا إليها وكان يتمناها مظفر النواب في هذا العصر إثر رحلته إلى هذه الحياة؟
كان مظفر حالمًا كبيرًا، وكانت أحلامه تتجدّد على الرغم من أن هنالك من حاول أن يرمي أحلامه/ أحلامنا على قارعة الطريق. وحتى بعد أن تبدّدت الأحلام الكبيرة، فقد ظلّ متمسّكًا بخيط الحلم لا يريد له أن يفلت من بين أصابعه، أو أن يصبح وهمًا، وإن رأى بعينيه كيف أن كثيرًا من الحالمين أصيبوا بالوهن وضياع البوصلة وإضاعة الطريق، أو تُركوا ليواجهوا مصيرهم حدّ اليأس والقنوط، يقول مظفر: لقد تعبت عيوني من كثرة ما رأيت.




كان مظفر يسقي حلمه الكبير ليُزهر في فضاء الحريّة، وطوال أكثر من سبعة عقود من الزمن وهو يداريه وينقله معه في حلّه وترحاله، فقد تعاهد مع التمرّد والرفض، وظلّ حلمه صاحبه الوفي، مثلما ظلّت الحريّة هاجسه الأول والأخير، والقاسم المشترك الأعظم في قيمه. و"رحلة البنفسج" التي مثّلها هي رحلة الحريّة والجمال، بكلّ معانيهما خارج دوائر الأفكار المسبقة والأيديولوجيات المعلّبة. وتلك هي أمنيته الأثيرة.

(*) جمعتك بالشاعر مظفر النواب صداقة لخمسة عقود تقريبًا. وقد ذكرت أنك تتذوّق الشعر، ولديك بعض القصائد التي تسمّيها "خربشات"، وتقول إنك لا تريد دخول "مملكة الشعر". وحين كتبت هذا الكتاب أحطت إحاطة شبه كاملة بالنواب، إذْ لم يقتصر الأمر على أعماله فقط، بل تطرّقت إلى حياته وشخصيته وطباعه الشخصية. هل يمكن القول إن ثمة ما لم يكتب بعد في هذا الكتاب، وفضّلت السكوت عنه رغبة منك، أو رغبة من النواب نفسه؟

هنالك ثلاث حيوات يعيشها الإنسان؛ الأولى: الحياة المعلنة، وهي المعروفة والمتداولة بين الناس؛ والثانية: الحياة الخاصة، وتلك لا يتوصّل إليها إلّا المقرّبون، ومن عرفوا مظفّر وعاشوا معه وظلوا على علاقة به؛ والثالثة: الحياة الخاصة جدًا، كما يسميها الروائي الكولومبي الكبير غابرييل غارسيا ماركيز، وهذه قد لا يريد صاحبها، أو من خاصته الخصوصية جدًا، أن تظهر إلى الملأ، وهي أقرب إلى الأسرار، والبوح بها من حقّ صاحبها وحده. وأعتقد أنني دخلت عالم مظفّر النواب بخصوصياته، وهو ما حاولت أن أدوّنه تصريحًا، أو تلميحًا.
منذ اللقاء الأول، وبعد ساعة أو ساعتين، شعرت وكأننا تلميذان في المدرسة الابتدائية، على اختلاف المرحلة، فهو من جيل الخمسينيات، وأنا من جيل الستينيات، ثمّ افترقنا لنلتقي في دروب الأحلام والخيبات والمرارات. وكان مظفر غالبًا ما يستعيد قول ماركيز "لو تعلمين كم يزعجني هذا العالم... أريد الفرار... أن أمضي بعيدًا عن هذه القذارة... إلى أين يا أمي؟".

(*) يقيم الأديب في المسافة الفاصلة بين ذاته والعالم، لكنك استطعت أن تخترق شخصية النواب من الناحية السيكولوجية عبر التعمق في قصائده، وعبر علاقة الصداقة معه، ونجدك تتحدث عنه كمن يتحدث عن روح أخرى، فامتزجت الدراسة بين الذاتية والموضوعية. ما الذي أردت أن تضيفه إلى هذا الكتاب أيضًا؟ وكيف تقيّم هذه التجربة؟
الصديق هو أنت، لكن بجسم آخر حسب الفيلسوف اليوناني أرسطو، والصداقة مثل الصحة لا تشعر بأهميتها إلّا حين تفقدها. ويقول المثل العربي: ثلاثة أفضلهم العتيق، الخلّ والحمّام والصديق، وقيل النبيذ بدل الخل. وقالت العرب أيضًا "الصديق وقت الضيق".
الكتابة عن مظفر إنما هي شراكة بينه وبيني، بين "الهو" و"الأنا"، وبين "الآخر"، و"النحن" بمعناها "المفردن" و"المجمعن". وهكذا فإن هذا الامتزاج إنما هو تعبير عن المشترك الفكري والثقافي، الحياتي والنضالي، وقد سعيت في هذا الكتاب إلى الإضاءة على بعض المحطات المهمة في تجربته الشعرية وشاعريته.
نشأت شاعرية مظفر النواب في أجواء التمرّد والرفض، وتعاشقت موهبته مع رسالته الشعرية، وهذه الأخيرة تتعلّق ببحور الشعر وأغراضه والشواهد الشعرية واللغة ودلالاتها، في حين أن الشاعرية تمثّل روح الشعر، تلك التي تلامس الجوهر، وهو ما جاء عليه غوستاف باشلار.
والشعر حسب ابن رشد، وتلك هي قناعتي أيضًا، أوفر حظًا من الفلسفة، وأسمى مقامًا من التاريخ، حتى وإن كانت الأولى أم العلوم، والثانية أباها، لأن الشعر، وهو ما أمسك مظفر بتلابيبه، يتحدّث عن الكلّي من الأشياء على نحو مدهش، فلا شعر من دون دهشة، مثل لا شعر من دون صور ورؤى وأفق وفضاء وخيال. وعند أدونيس، يجيء الشعر من أفق لا ينتهي، ويتّجه إلى أفق لا ينتهي. وقد جمع مظفر الصورة والصوت، بحيث لا يمكنك أن تتخيّل أصواته من دون صور معبّرة وموحية، فالصورة تكتسب صوتًا، والصوت يحمل صورة.

(*) الهوية والانتماء وهموم الوطن والدعوة إلى الديمقراطية والتحرر أمور جمعتك بالنواب، فما الذي اختلفت به معه، وعلى أي صعيد؟
الاختلاف من طبيعة الأشياء، والبشر مختلفون، حتى وإن اقتربوا من بعضهم بعضًا، فهم لا يتطابقون. وحسب ابن عربي، فالطريق إلى الله ليس واحدًا. لذلك يختلف البشر في ما بينهم، وفي تقديراتهم ورؤاهم وأصولهم وألوانهم وأذواقهم وطباعهم وألسنتهم وأفكارهم وانتماءاتهم.
كنت معجبًا بمظفر النواب وشعره أيما إعجاب، ومع مرور الأيام ازددت إعجابًا بشخصه وخلقه وقيمه الرفيعة، فقد مثّل لي النواب حلقةً جديدة وغير مسبوقة في الشعر الشعبي الكلاسيكي (الشعر المحكي ــ بالعامية)، وهذه الحلقة هي امتداد لمدرسة الشعر الحديث التي مثلها بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وبلند الحيدري، وعبد الوهاب البياتي، ومن جاء بعدهم من مجايلي مظفر النواب، أمثال سعدي يوسف، وأدونيس، وفي ما بعد محمود درويش.
وحينها كنت من المتابعين والمتذوقين للشعر الشعبي الكلاسيكي والجديد، خصوصًا وأن الأخير لقي رعايةً يساريةً. وقد اختزنت ذاكرتي وذائقتي الشعرية كثيرًا من قصائد مظفر منذ قصيدته الشهيرة "للريل وحمد" (1959)، ناهيك عن أخباره السجنية، وما كنّا نتناقله عنه، على الرغم من الافتراق الرفاقي، فاللقاء طال انتظاره بالنسبة إلي، فقد كنت أتوق إلى التعرّف عليه شخصيًا، وما إن تعرّفت عليه حتى ازددت محبةً لشخصه ولشعره. يومها كان هو على ملاك القيادة المركزية للحزب الشيوعي، وخارجًا لتوّه من السجن، وأعيد إلى الوظيفة، وأنا على ملاك اللجنة المركزية، وكنت قد تخرجت من الجامعة حديثًا.




لم يحدث أن فتحنا هذا الموضوع في علاقتنا قط، حتى بعد مرور سنوات، إلّا من باب الاستذكار، أو إعادة قراءة بعض الأحداث، وتقييم بعضها الآخر، بما فيه بعض الشخصيات. وكم كان لسانه معطّرًا وقلبه خاليًا من الحقد والغلّ والكراهية. وفي لقاءات الشام، أو بيروت، أو لندن، أو طرابلس، أو غيرها، كان الهم العام هو الغالب، ولم يبدّد مظفر وقته في الثرثرة و"القيل والقال"، مثلما كان يفعل عدد من المعارضين والمثقفين. وأود أن أشير هنا إلى أنني في كل مرّة كنت ألتقيه كان معه كتاب جديد، وهو ما كان يتبادله مع صديقه الحميم رياض النعماني. وكان مقهى الهافانا في الشام أحد أهم أماكن ملتقياته الصباحية.
لقد وضع مظفر النواب مسافة بينه وبين العمل الحزبي والسياسي الروتيني اليومي، لكنه لم يتوان عن النقد الفكري والثقافي للمواقف والتوجهات، ضمن اجتهاداته وقناعاته، وهو ما فعلته لاحقًا.
للأسف، فإن الأحزاب الشمولية لم توفّر فرصةً إلّا وحاولت النيل من المعترضين والمنتقدين، ودلّلت في سلوكها ذلك على قصر نظر وضيق أفق من جانب الإدارات الحزبية، سواءً بما له علاقة بحجب ما ينشر لهم في صحفها ومجلاتها، أو في بعض أساليب الدعاية السوداء ضدّهم. وقد تعرّض عدد من المبدعين إلى إساءات مباشرة وغير مباشرة من جانب الإدارات البيروقراطية. وأذكر، على سبيل المثال لا الحصر، ما لاقاه السيّاب، وصلاح خالص، وشمران الياسري (أبو كاطع)، وكاظم السماوي، وسعدي يوسف، والقائمة تطول، إضافة إلى مظفر النواب.
لقد انتمينا طوعًا إلى القيم ذاتها، واختلفنا في سبل الوصول إليها، وهو اختلاف حضاري. وكان المشترك المعظّم بين مظفر وبيني هو قبول الآخر، واحترام الخصوصيات في إطار الثقافة والإبداع والإخلاص للقيم الإنسانية.

(*) كيف يمكن للشاعر أن يجمع الحب والثورة في صورة شعرية ضمن قصيدة واحدة مثلما فعل مظفر النواب ذلك؟

قل لأهل الحي
هل في الدور من عشق لهذا المبتلى ترياق
نأمة في العشق تكفي
نقطة تكفي
فلا تكثر عليك الحبر والأوراق
كل من في الكون تنقيط له إلّا الهوى
فاحذر فبالتنقيط (نهوي)
واسأل العشاق...

هكذا عبّر مظفر عن عشقه، وعن طريقته في الحب، هو الذي صدح صوته بالدعوة للثورة في العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه، واجتمعت لديه دائمًا قصائد الغزل والتمرّد في هارموني موحّد جمعتهما قواسم مشتركة، وكلاهما ينهض وفيه توق لتجاوز ما هو قائم إلى حال مشتهى.
في الحب طاقة خلّاقة روحية تسعى لإشباعها عند الآخر. أما الثورة فهي تغيير في العمق، وليس نقرًا في السطح، بحسب المفكر ياسين الحافظ. إنها تهدف إلى التغيير والخلق، بعد أن يصبح ما هو قائم غير مقبول، وكلاهما يمثّل الحب والثورة وملتقاهما في مصبّ واحد، فالحب ثورة على نطاق الفرد، والثورة تغيير على نطاق المجتمع. وهكذا يتداخل الخاص بالعام. والشاعر يعبّر عن همومه العامة عبر همومه الخاصة، فما يتناوله في الحب هو تطلّعه إلى الحريّة والثورة على الأوضاع.
لقد تغنّى محمود درويش بعيون ريتا، مثلما تغنّى بمقاومة الاحتلال والتشبّث بالأرض. وكانت رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمّان ثورة أخرى في الحب. وجمع نزار قباني الحب والانتفاض على الواقع، لاسيّما في مرحلته المابعد حزيرانية (1967). وهكذا يندغم الحب بالثورة بكل ما تعنيه من رومانسية وعمق وجمال وحق وأمل. وقد عبّر مظفر النواب عن ذلك بقاموس جديد للغة المحكية في الحب والثورة، منذ ملحمته الأولى "للريل وحمد" كما أشرنا، ومن يومها عُرف فيها شاعرًا مبدعًا وصاحب مدرسة شعرية تمتلك شاعرية ملهمة وإحساسًا وروحًا دفاقة، وهو ما قال عنه سعدي يوسف: أضع كلّ شعري على أعتاب قصيدة "للريل وحمد".

(*) المشترك بين الشعراء هو الشعور بالغربة، وهذا ما عرفناه عن النواب والجواهري. في رأيك، لو أنهما هنا اليوم، كيف كانا سيعيشان الغربة وسط هذا التدافع غير المسبوق للهويات الافتراضية؟
عاش النواب نحو 53 عامًا في المنفى، وهذا يمثّل ما يزيد على ثلاثة أرباع عمره الإبداعي، ونحو ثلثي عمره البيولوجي. كما عاش الجواهري، وإن بصورة متقطعة، نحو أربعة عقود في الغربة، وهي تمثّل نحو نصف عمره الإبداعي، وأكثر من ثلث عمره البيولوجي، لكن ما هو أصعب عليهما أنهما عاشا حالة اغتراب، حتى وهما في الوطن، بوصفهما مثقفين يعانيان من الاستلاب وشح أجواء الحريّة.
وإذا كان المنفى معاناةً وألمًا، فإنه في الوقت نفسه كان بالنسبة لمظفر النواب فضاءً رحبًا وواسعًا، وفرصةً لاستكمال أدواته، فازدادت لغته جمالًا، وتعمّقت رؤيته للعالم، وقد عكست قصيدة "وتريات ليلية" مرحلته الشعرية الثانية، التي امتازت بالرمزية، واتسمت بمسحة صوفية، ولا سيّما في مجموعة "المساورة أمام الباب الثاني"، في حين أنه لم يضف كثيرًا بالنسبة إلى الجواهري، لأن أدواته كانت مكتملة، وشخصيته الشعرية كانت قد نضجت بمرحلة صعودها منذ الأربعينيات، التي مثلّت سدسه العبقري، على حدّ تعبير الكاتب حسن العلوي.
لنلاحظ ما كتبه النواب الذي اتّجه بعد قصائد الشعر المحكي إلى قصائد التفعيلة بالفصحى:

في تلك الساعة من شهوات الليل
وعصافير الشوك الذهبية
تستجلي أمجاد ملوك العرب القدماء
وشجيرات البر تفيح بدفء مراهقة بدوية
يكتظ حليب اللوز
ويقطر من نهديها في الليل
وأنا تحت النهدين
إناء

وأعتقد أن أي مبدع حساس سيعيش اغترابًا، أو يضطر إلى الغربة، في ظل غياب الحريّة، ناهيك عن التمترسات التي شهدتها الهويّة، وتذرّرها، ولا سيّما في الثلاثين عامًا ونيّف المنصرمة، حين انفجرت مشكلة الهويّات الفرعية، إثر هدم جدار برلين (1989)، والإطاحة بالكتلة الاشتراكية، وامتدّت هذه إلى العالم أجمع، حتى أن هويّات مجهرية أخذت تطفو على السطح، وليس المقصود بذلك الحد من حقّها في التطوّر المستقل والمحافظة على خصوصيتها، وهو أمر مشروع، بل في المساعي التي استخدمت لهدم الدولة الوطنية، خصوصًا في ظلّ تدخلات خارجية.




لم يفكر النواب والجواهري إلّا في هويّات جامعة، ولذلك كما قلت كان مظفر فلسطينيًا وسوريًا ومصريًا ويمنيًا و... أي أنه كان عربيًا منتميًا بوعي إلى العروبة الحضارية، التي هي رابطة حقوقية ووجدانية، بل كان أمميًا صافيًا، خارج دوائر الأيديولوجيا، وتلك رسالته المتميزّة، وكما كان الجواهري منذ البدايات عابرًا للهويّات الفرعية مع تقديره لها، وهو الذي يقول في عام 1929 في قصيدته بعنوان "الرجعيون"، التي وقف فيها إلى جانب فتح مدرسة للبنات في النجف، عارضها بعض رجال الدين:

سَتَبقى طويلًا هذهِ الأزَماتُ… إذا لمْ تُقصِّرْ عُمرَها الصَدَّمَاتُ
تحكَّمَ باسمِ الدِّينِ كلُّ مذَمَّمٍ… ومُرتكِبٍ حَفَّتْ به الشُبُهاتُ
وما الدِّينُ إلَّا آلةٌ يُشهِرونَها… إلى غرضٍ يَقضُونَهُ، وأداةُ

وفي عام 1945، كتب قصيدته الموسومة "طرطرا"، وهي بمثابة نقد لخريطة الهويّات التفريقية، التي يريد بعضهم التمترس خلفها لمصالح أنانية خاصة. وعلى الرغم من أن أكثر من ثلاثة أرباع القرن مرّت على نظم هذه القصيدة، إلّا أنها تحاكي أوضاعنا الراهنة، يقول فيها:

أَيْ طَرْطَرا تَطَرْطَري… تقدَّمي تَأخَّري
تَشيَّعي تسَنَّني… تَهوَّدي تَنَصَّري
تكرَّدي تَعرَّبي… تهاتَري بالعُنصُرِ...


(*) النضال والتمرد والصراع مع السلطة، هذا ما عاشه النواب كما الجواهري. أين الجيل المثقف المناضل اليوم بقلمه؟ وهل يمارس دوره حقًا كمثقف مسؤول يحمل رسالة الأدب؟
تبقى الحريّة والجمال والإبداع رسالة الثقافة والأدب من جيل إلى جيل، على الرغم من أن فقدان الثقة، وانصراف التفاؤل، واستلحاق المثقف بالسياسي، أصبحت ظواهر سلبية قائمة تميّز علاقة المثقف بالسلطة، سواء كانت سلطة الاستبداد، أو امتداداتها داخل المعارضات والأحزاب، أو سلطة الأنظمة والتيارات الدينية. يضاف إليها سلطة العادات والتقاليد، بما فيها العشائرية والقبلية.
والمثقف حسب كارل ماركس هو ناقد اجتماعي، بمعنى نقده للظواهر السلبية، وللعوائق التي تحول دون التغيير، فضلًا عن التنوير لبلوغ نظام اجتماعي أرقى وأفضل. ربما كان وصف إدوارد سعيد أن المثقف هو البقاء في حالة معارضة ينطبق على مظفر النواب أكثر من انطباقه على الجواهري.
والمثقف ليس مخلّصًا، أو خارقًا، أو بطلًا، لكنه يختلف عن غيره في وظيفته الإبداعية، فهو يستطيع أن يقدم رؤيةً مختلفةً عن الآخرين، بل إنه يرى ما لا يراه غيره بالتحليل والتأمل والرصد والمقارنة، من خلال معرفته وثقافته لفهم الواقع وتفكيكه، والمساهمة في إعادة إنتاجه على نحو جديد، وهو مهموم بالشأن العام ومنشغل فيه، ويقوم بالفعل والممارسة حسب الفيلسوفة حنا أردنت.
إن ظروف المثقف وأولوياته اختلفت اليوم عن ظروف النواب والجواهري، وإن يبقى الدور التنويري قائمًا، لكنّ عناوينه ستكون مختلفة عمّا يمارسه مثقّف اليوم، وإن نكص كثيرًا دور مثقّف اليوم قياسًا بمثقف الأمس.
وإذا كان هم التخلّص من ربقة الاستعمار والأنظمة الموالية له، ومن النظام شبه الإقطاعي، الذي كان قائمًا في العراق في زمن الجواهري والنواب، فإن من أولويات مثقف اليوم هو الحفاظ على الدولة الوطنية، والتحذير من مخاطر تمزقها وتشظّيها، لا سيّما عبر صراعات طائفية ــ إثنية، لم يكن العراق ولا العالم العربي يعرفها بالصورة التي أصبحت مهيمنة اليوم، ناهيك عن مواجهة التحدّيات الخارجية الإقليمية والدولية، التي تريد استتباع العالم العربي، وفرض الهيمنة عليه.
أستطيع القول إن السلطة المعرفية تاريخيًا ارتكزت على الحاكم الذي بيده المُلك، والعالِمْ الذي يمثّل سلطة الفقيه الديني (الوسيط والمؤدلِج)، لما يريده الحاكم، وحلقة الوصل مع الجمهور (الرعية) باستثناء المثقف، أو العالِم المنشق الذي يمثّل سلطة الاعتراض والممانعة. ولكن سلطة المثقف لم تعد مستمدّة من الدين كما كان الأمر في السابق في بلادنا، حيث أخذ دوره يكبر بالتأثير على الرأي العام، والمساهمة في تنمية العقل والوجدان، وفي تجسيد الأخلاق ونشر الأفكار، مع أن هذه المكانة تصطدم أحيانًا بالدور السياسي والديني وموقعه في سلطة القرار.
يواجه المثقف اليوم أربع سلطات:
الأولى: السلطة الحكومية الرسمية، التي تحاول تطويعه وتدجينه بالإقناع، أو بالاقتلاع، بالقمع البوليسي أو الأيديولوجي؛ والثانية: السلطة التقليدية، أو ما نطلق عليه الثيوقراطية الدينية، وهي وإن مثلت أدوارًا إيجابية في تخريج النخب والوقوف ضدّ الاستعمار، إلّا أنها وقفت ضدّ عملية التغيير والتحديث والتجديد في كثير من الأحيان؛ والثالثة: قوة العادات والتقاليد وسكونية المجتمع، وتدخل فيها اندفاعات الغوغاء كعنصر ضاغط تستخدمه السلطات أحيانًا، إضافة إلى التيارات الدينية ضدّ حريّة التعبير وحرية التفكير، فتقوم بالتكفير والتأثيم والتحريم والتجريم، وكل ذلك يتم خارج القضاء؛ والرابعة: هي السلطة الحزبية المتحكمة بمصائر مثقفيها، وغالبًا ما يصل المثقف إلى التمرّد عليها بعد أن يضيق ذرعًا بها، وفي الأحزاب الشمولية، ثمة نماذج صارخة على الاستهانة بدور الثقافة والمثقف، وتحويله إلى جزء من ماكينة الحزب البيروقراطية.
إن سلطة المثقف بالنسبة إلي هي معرفته، والمعرفة قوّة أو سلطة، على حدّ تعبير الفيلسوف البريطاني فرانسيس بيكون. ومن يتنازل عن سلطته فهو يتنازل عن إبداعه، وبالتالي عن دوره، ويرتضي بدور التابع، ولم يكن مظفر النواب، أو الجواهري، من بين من يقبلون بذلك، فقد حرصا على الحفاظ على استقلاليتهما.

(*) ما هي أهمية جمع قصائد الجواهري في كتاب شامل منظم تبعًا للإطار الزماني، والذي يعدّ كنوع من وثيقة تاريخية للعراق وللأحداث السياسية في كل مرحلة من المراحل؟
التاريخ لا يكتبه المؤرخون، حسب الروائي الروسي مكسيم غوركي، بل يكتبه الأدباء والفنانون، لأنهم يبحثون في تفاصيل الأشياء، ويقدمونها كجزء من هارموني مع صور للأحداث نفسها. وإذا كان من الصعوبة والاستحالة إعادة أحداث التاريخ، إلّا أنه يمكن استعادتها، بمعنى إعادة قراءتها لأخذ الدروس والعبر منها.
وتعكس قصائد الجواهري، التي هي الشاهد الأهم والأعمق والأغنى على التاريخ، لا تاريخ العراق فحسب، بل تاريخ الأمة العربية والعالم. فقد أرّخ للدولة العراقية منذ نشوئها، وعلى مدى ثمانية عقود تقريبًا، فهذه قصائده عن فلسطين، وعن الحرب العالمية الثانية، ومعارك سيباستبول، وستالينغراد، فضلًا عن تطوّر المجتمع العراقي، وصراعات أجنحته السياسية، ووثباته وانتفاضاته وثوراته وشخصياته.
لقد حاولت توزيع قصائده على عشريات من خلال ذائقتي الشعرية، وهذه القصائد هي مرآة للخاص والعام، في تناسق هارموني "جواهري بامتياز"، لأنه يعبّر بميزان دقيق عن الحقبة التاريخية التي عاش فيها. وبتقديري أن الكتاب يمكن أن يكون عونًا لدارسي الأدب والفن بشكل خاص، إضافة إلى محبي الشعر بعامة، وشعر الجواهري بخاصة، لا سيّما لسهولة الرجوع إليها في كتاب جامع ضمن تبويبها وتأطيرها واختيار أهم ما فيها من درر وجواهر. وقد اخترت بعضها بالاتفاق معه، وذلك في إطار كتابي الأول عنه، والمقصود "الجواهري في العيون من أشعاره" (1986).
زيادةً على ذلك، دراساتي وأبحاثي ومحاضراتي عن الجواهري طيلة ما يزيد عن ثلاثة عقود من الزمن، خصوصًا وأن صداقتي معه (على الرغم من فارق السن) كانت عاملًا مساعدًا في الدخول إلى عالمه وغابته الشعرية الكثيفة، وهو ما عبّرت عنه في كتابي "الجواهري: جدل الشعر والحياة"، المطبوع ثلاث مرات، أولها في عام 1997. ويأتي العمل الموسوعي الجديد، والذي قدّمت له د. سعاد الصباح، ليمثل مرجعًا مهمًا في شعر الجواهري عمومًا، والموسوم "جواهر الجواهري" 2023، وأهميته تكمن في أن هذا الزاد الشهي والمختار بعناية فائقة هو حصيلة تمحيص وتدقيق وبحث وعمل لسنوات طويلة، ولنحو 25 ألف بيت شعريّ، ضمّتها باقات قصائده، وعلى مدى زاد عن ثلاثة أرباع القرن.

(*) كمثقف ومفكر تنويري يسعى للاقتداء، واحترام حقوق الإنسان، وتحقيق العدالة والحرية، كيف يمكن أن يتحقق ذلك والكيان الصهيوني يبيد فلسطين ولا يردعه رادع؟
أعتقد أن أنبل قضية وأعدل مسألة في الكون هي القضية الفلسطينية، وهذه تحتاج إلى محامين بارعين ومدافعين حقوقيين جديرين، كجزء من المعركة القانونية والديبلوماسية الدولية، التي ينبغي على الفلسطينيين والعرب وجميع من يناصرون حق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير مصيره خوضها، لأن إهمالها سبّب خسارة كبيرة كان يمكن استثمارها على نحو صحيح، وبالتراكم والتنسيق مع الحقول الثقافية والتاريخية، بما فيها نقض الرواية "الإسرائيلية". وما يجري في غزّة اليوم من حرب إبادة، وجرائم ضدّ الإنسانية، دليل جديد على أهمية ودور المثقف، والمفكّر، والحقوقي، والقانوني، وعالم الاجتماع، والمؤرخ، والإعلامي، في معركة الحريّة والعدالة.
أظن أن ردع العدو يحتاج إلى تضافر جميع الجهود، ولكن بتوفّر إرادة وعمل مشترك وموحّد، وبتنسيق واستثمار جميع أسلحة المعركة من أبسطها حتى أرقاها، ومن الكلمة والريشة واللون والموسيقى والشعر والمسرح والسينما، وجميع وسائل التواصل الاجتماعي، والقوى الناعمة، إلى الدفاع عن النفس، بما تقرّه القوانين والأنظمة الدولية، باعتباره حقًا من أجل التحرّر الوطني والفوز بتقرير المصير.
وتلك ليست مسؤولية المثقف وحده، بل هي مسؤولية الشعب الفلسطيني، ومسؤولية الأمة العربية جمعاء، دولًا وشعوبًا، إضافة إلى من يناصرونه ويقفون إلى جانب الحق والعدل من الدول الإسلامية ومحبي السلام والعدل في العالم.

(*) لا تتوقف الحروب إلا بعد دفع قدر كبير من الدماء. كيف يمكن أن يتحقق ذلك في ظل غياب ثقافة الحوار، وغياب المحاسبة الجادة؟
الحرب هي أسوأ ما في هذا الكون، ومن يبدأ الحرب لا يستطيع التحكم بنهايتها، خصوصًا حين يستولي جنونها على العقول، وحوار سنة أفضل من قتال ساعة، وقد جرّبت أوروبا حروبًا طاحنةً، بما فيها حرب اﻟ 100 عام، وبعدها حرب الثلاثين عامًا، التي انتهت بإقرار اتفاقية أو صلح ويستفاليا عام 1648، الذي نص على الاعتراف بالحريّات الدينية، واحترام استقلال الدول (الإمارات) المتفرّقة وسيادتها، ومنع أي اضطهاد ديني، أو طائفي، والتعاون في ما بينها لإزالة الحواجز الاقتصادية، والعوائق التجارية، وإنهاء الحروب الأهلية، وعوامل التفتيت الداخلية، ووضع قواعد عامة أساسها عقد اجتماعي ــ قانوني جديد يستبعد أي إقصاء، أو إلغاء.
إن غياب ثقافة الحوار، وغياب المحاسبة، وفي ظل اختلال نظام العلاقات الدولية والقانون الدولي العام، يعني، في ما يعنيه، أن العالم لا يزال يبحث عن وسائل عملية وواقعية لوضع حدّ للحروب، لا سيّما النووية، التي يمكنها إفناء البشرية. وبالقدر الذي تمكن من استبعاد ذلك حتى الآن، إلّا أنه ما زال عاجزًا عن الردع بمعناه الجزائي، أو القانوني العملي للمرتكبين بسبب الهيمنة والتسيّد للقوى العظمى، الأمر الذي يحتاج إلى إحداث توازن جديد في العلاقات الدولية.

(*) تمّ تكريمك في بيروت، وشاركت شخصيات فكرية ودينية وثقافية متعددة في الحفل الذي حمل "اسم فلسطين والثقافة"، وذلك لمنجزك الفكري والثقافي ومساهماتك العربية والدولية في دعم القضية الفلسطينية، خصوصًا بعد توقيع كتابك في عمان "الزمن والنخب: في أنطولوجيا الثقافة العربية"، وتم توقيع كتابك الموسوم "مظفر النواب: رحلة البنفسج" في عمان كذلك، وبيروت، والنجف... ماذا تقول عن هذا التقدير لشخصك، وما كانت الأصداء على مستوى المتلقي؟
لعلّ الأمر يرتّب مسؤوليات جديدة عليّ، كيما أكون أكثر دقة كباحث، وأكثر حذرًا كصاحب رأي، وإن كان ذلك مصدر اعتزاز، فإن على المثقف بمفهوم غرامشي أن يتماهى مع مجتمعه للتعبير عن طموحاته وآماله في التقدم، وإن عليه أن يتواضع، ولا يكتفي بالكتابة والتنظير من برج عاجي، والتعالي على الآخرين، بل عليه الذهاب إلى حيث القراء في الجامعات والمعاهد والمراكز الثقافية واتحادات الأدباء والحقوقيين وتجمعات المثقفين والفاعلين السياسيين والدينيين والاجتماعيين للاستماع إليهم وتصحيح وتدقيق ما كتبه، وما قال به وما دعا إليه أو بشّر به، والهدف هو إجراء مراجعات ضرورية لكل مثقف وصاحب رأي، وهذا ما أحاول فعله بتواضع شديد، لا سيّما التعلّم من هذه الأوساط جميعها.
أشعر أنني ما زلت تلميذًا أجرّب هنا وهناك نصوصًا وسرديات وآراء، أخطئ، أو أصيب، لكن بوصلتي ما تزال تؤشر إلى ما هو صميمي. وأقول مرة أخرى لا قيمة لأية نظرية، أو أيديولوجيا، أو دين، إلّا بالبراكسيس، أي بالممارسة والتطبيق، والعبرة ليست بتسطير النصوص، بل بتطبيقها لاختيار صحتها من عدمه ولاكتشاف نقاط ضعفها ونواقصها وعيوبها وثغراتها، فالغايات بعيدة وغير ملموسة، أما الوسائل فإنها راهنة ومباشرة، ولا غاية شريفة من دون وسيلة شريفة، وحسب المهاتما غاندي، الوسيلة إلى الغاية مثل البذرة إلى الشجرة، فهناك علاقة عضوية بين الوسيلة والغاية، و"الوسيلة من شرف الغاية"، ولا وسيلة خسيسة توصل إلى غاية نبيلة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.