}

مهرجان سيدي بوسعيد: نقطة ضوء في حداثة الخطاب الشعري

ليندا نصار ليندا نصار 6 مايو 2024
هنا/الآن مهرجان سيدي بوسعيد: نقطة ضوء في حداثة الخطاب الشعري
الشعراء والشاعرات المشاركون في مهرجان سيدي بوسعيد

يخترق الشعر المناطق الحساسة والمجهولة في هذا العالم، ويقول الممكن والمستحيل في آن ليعبر الحدود ويسكن الجغرافيات التي تصبح متقاربة من بعضها بعضًا بالتبادل الثقافي... هكذا يضيف الشعر إلى الكون جمالًا وإبداعًا.
أمام طقوس شعرية امتدت من الحضارة الفينيقية إلى الرومانية، وإلى حضارات لا تعدّ وصلتنا اليوم، حلّق الشعر عاليًا بإيقاعات عزفت على أحاسيس وصور متخيلة خطفت قلب الجمهور في مهرجان سيدي بوسعيد العالمي.
هكذا هي بعض المهرجانات، تفتح آفاقها الرحبة للتجارب الأدبية الحاضرة في المشهد الثقافي بكل ما فيها من إبداع، لاكتشاف المناطق العميقة، وما يخبئه المبدع بين أوراقه، حيث تتشكّل لديه مساحات واسعة، فيقول كل شيء، ويفتح مدى أفكاره الشاسعة على العالم.
هذا العام أيضًا، تجدد نشاط المهرجان، ما أتاح بفضاءاته الواسعة الكتابة والتفكير والأداء والإلقاء والعرض. وقد تمكنت الترجمة من أن تكسر الحواجز، وأن تصل قصائد الشعراء بعضها ببعض، وتحلق في عوالم إنسانية حاملة قضايا وانشغالات تمتدّ عبر الزمان.
تنوعت واختلفت المواضيع التي تناولها الشعراء في نصوصهم، والمشترك واحد هو الالتزام، بما يعبر عن الذات الإنسانية الطامحة إلى عالم تعلوه القيم وحياة مليئة بالسلام.

احتكاك الثقافات
التقى شعراء العالم في المدينة الملونة بالأبيض والأزرق، وكان البحر الشاهد، وحارس الإبداع، ونشأ حوار الأجيال والاحتكاك بين الثقافات هناك، فالتقى فيه شعراء من العالم الغربي والشرقي، ما أتاح المجال لتبادل التجارب والخبرات بتخطي الحواجز، فالشعراء قطعوا آلاف الكيلومترات لقول قصائدهم، والتعبير عن هواجسهم وأفكارهم الملتزمة، وقد شاركوا الشعر الصادر عن ذواتهم، والمستوحى من تفاصيل حياتهم اليومية، بمواضيع مختلفة متقاربة ومتباعدة في آن.
من بين الشعراء، نذكر: فرانسيس كومب (فرنسا)، الذي كانت مواضيع قصائده ملتزمة، فهو شاعر ومناضل شيوعي منذ سبعينيات القرن العشرين. كومب قرأ قصائد مناصرة للقضية الفلسطينية ولغزة، كما قرأ قصيدة مهداة لزوجته المريضة.
أما الكنديون، فمنهم فرانسيس كاتالانو بقصائده الملتزمة بقضايا المناخ والاحتباس الحراري والمحافظة على البيئة، والإيطالي كلاوديو بوتزاني قرأ قصائد تتحدث عن الصراع الموجود في الشخصية الغربية بين ظلمات التوحش الفاشي وثقافة التنوير. أما الإسباني خوسيه ساريا فقصائده تتحدث عن الحرية والحب... كما ألقت الشاعرة المصرية ديمة محمود قصيدة تحاكي فيها "غزّة".
لا يمكن الحديث عن مهرجان الشعر العالمي في سيدي بوسعيد في دورته التاسعة من دون التفكير في التلاقح الفكري والفني الأدبي الحضاري، فقد جمع هذا المهرجان بفضل منظميه، الشاعر والمترجم التونسي معز ماجد، والشاعرة الإعلامية التونسية آمنة الوزير، بين مختلف الجنسيات. وعلى الرغم من الإمكانيات المحدودة، فقد تمكن المهرجان من فتح الآفاق واللقاءات، واحتكاك التجارب الإبداعية من حضارات وثقافات تكاد تكون مختلفة عن بعضها بعضًا من جهة أنماط الحياة والعادات والتقاليد، وقريبة تشترك بنقطة التماس هي الكتابة والاشتغال والإبداع بالفن.




في هذا المهرجان تأكيد على الهوية الإبداعية، حيث تميزت النصوص بجماليتها العالية، وارتقائها بالفن ليحقق رسالته الكونية، ورؤية السلام العالمي. وهنا دعوة إلى التفكير باللغة أيضًا، تلك التي تحاكي القارئ، وتسعف الشاعر، ليفتح آفاقًا جديدة بالتفكير بإمكانات الكتابة، حيث يضم الأدب هذا العالم.

انفتاح الأجناس الأدبية

المشاركون فيي مهرجان سيدي بوسعيد للشعر


تتابعت الفعاليات التي أقامها المهرجان في الفضاءات المفتوحة والمغلقة في حديقة النجمة الزهراء، وفي المركز الثقافي الفرنسي، وفي غاليري سلمى فرياني، وفي السفارتين السويسرية والكندية، لمدة أربعة أيام، امتزجت فيها التجارب الشعرية، وانفتحت الأجناس الأدبية على بعضها، خصوصًا الأدب الذي ضمّ الموسيقى والفن التشكيلي والسينما. وقد حضر عدد كبير من الناس المهتمين بالتجارب الحاضرة، والتي منحت الشعراء حيوات أخرى يصطحبونها معهم كذكرى، ويحتفظون فيها دائمًا.
وهنا تأكيد على أن الشعر روح، والشعر نور، تمكن من أن يخترق القلوب، إذ ترى جمهورًا من التونسيين والسياح الذين عرّجوا على سيدي بوسعيد اهتمامًا منهم بالشعر، وتأكيدًا على أنه ما زال بخير. وطالما أن الشعر موهبة في الإنسان لا يمكنه أن يزول، فهو يواكب الحداثة والتطور. يبقى الشاعر الوكيل الأمين الوحيد الذي يحمل القلم، ويملك سلطة الكتابة وسط كل الاستسهال والتزييف والتقليد الذي نعيشه بتفاعل السرقات الأدبية، وانفتاح وسائل التواصل على بعضها بعضًا في هذا العالم. فالشاعر الحقيقي يواكب ويستفيد من التطور والتقدم، ويسير حاملًا الإرث الثقافي والإبداعي في طريق نهايته مكللة بالأحلام.
اللافت هو المسابقة الشعرية التي حددها المهرجان، وقد ربحتها إحدى الطالبات، ونصها تحت عنوان "رسالة إلى رامبو"، بحضور المخرجين مانويل سانشيز، وريشارد دندو، ما ساعد على تشجيع الجيل الجديد الشاب للكتابة، واكتشاف وإيقاظ مواهب الأجيال الصاعدة.
يعد هذا المهرجان نقطة نور وإعلاء للقيم التي أسس لها الشعراء منذ السنوات الماضية، وحتى اليوم، وهو لحظة فرح وإشراق وسط ما نعيشه من حروب وإلغاء للإنسان، وتقاتل من أجل اللاشيء، ما سيهدد في استمرارية البشرية. كذلك إنه تأكيد على أن الثقافة تندفع نحو الأمام، وأن المثقف ليس إنسانًا منظرًا حالمًا، بل هو صاحب قلم ورسالة تغييرية إصلاحية.

برنامج المهرجان
أُنجزت في التظاهرة الثقافية فعاليات عدة من 25 إلى 28 نيسان/ أبريل 2024. وخصص المركز الثقافي الفرنسي عرضًا بعنوان "رامبو على الشاشة"/ Arthur Rimbaud – Une biographie، بحضور المخرج السويسري Dindo Richard، مع نقاش وأسئلة حول الفيلم. كذلك تم عرض فيلم Voyage en Rimbaldie، للمخرجين Muriel Harrar وManuel Sanchez، مع نقاش وأسئلة من الجمهور، وتوزيع الجوائز للرابحين. هذا بالإضافة إلى القراءات الشعرية في سهرة بعنوان سهرة الصداقة (الكيبك ــ تونس) في سفارة كندا بالبحيرة 2.
وبحسب البرنامج المحدد، تم الافتتاح في النجمة الزهراء من تقديم الشاعرة الإعلامية آمنة الوزير، بقراءات ترافقها موسيقى، بالإضافة إلى الأداء الغنائي لكل من محمد علي بن الشيخ، وهيفاء عامر، ثم قراءات شعراء وشاعرات من المهرجان بعنوان "شعر في الحديقة" في فضاء الحديقة الفارسية في قصر النجمة الزهراء. وخصص المهرجان قراءات للشاعرات بعنوان "شاعرات من كل صوب" في المكان نفسه. وفي غاليري سلمى فرياني بالبحيرة 3، أقيمت أيضًا قراءات شعرية وحفل موسيقي مع مجموعة Zanzana Live Band. أما حفل الاختتام الرسمي فتم في قصر النجمة الزهراء، حيث قرأ الشعراء نصوصًا تكريمية لروح الشاعر محمد الغزّي (1949 ــ 2024).




وفي كلمة للشاعر التونسي معز ماجد عن المهرجان، وما يميزه، وانفتاح القصيدة العربية على الغربية والمثاقفة وتأثير ذلك في حداثة الخطاب الشعري قال: منذ تأسيسه سنة 2013، لم يتغيب المهرجان إلا في فترة جائحة الكورونا، أي سنتي 2020 و2021. وسرعان ما عاد إلى سالف نشاطه في دورة متميزة سنة 2022 كان خلالها الشعر السعودي ضيف الشرف. ونظرًا لأهمية الجانب التنظيمي، وتأمين التمويلات التي تلائم حجم المهرجان وسمعته، فإننا نتجه منذ عودة نشاطه إلى أن يكون موعده كل سنتين.
أما في ما يخص ما يميز هذه الدورة التاسعة، فهنالك نقطتان بارزتان، هما:
شعر مقاطعة كيبك في كندا، ضيف شرف هذه الدورة، بحضور ستة شعراء كنديين، وصدور أنطولوجيا لشعر الكيبك مترجمة إلى العربية من طرف الشاعر والمترجم أشرف القرقني، وسوف تصدر عن سلسلة "ش" للشعر التي هي الذراع النشري لمهرجان سيدي بوسعيد.
النقطة الثانية البارزة في هذه الدورة هي الاهتمام الخاص الذي أوليناه للعلاقة التي تجمع الشعر بالسينما. وفي هذا السياق فقد دعونا مخرجيْن لهما مكانة كبيرة عالميًا في مجال السينما الشعرية، وهما السويسري ريشار ديندو، صاحب عدد مهم من روائع السينما الشعرية، مثل "سفرة باشو"، و"حياة آرثر رامبو" وكذلك دعونا لمواكبة المهرجان المخرج الفرنسي مانويل سانشيز، مدير مهرجان "رامبو في السينما"، الذي يقام سنويًا في مسقط رأس الشاعر.
منذ تأسيسه في 2013، أصبح مهرجان سيدي بوسعيد محطة وازنة في جغرافيا الشعر العالمي، إذ أنه أصبح اليوم الموعد الدوري شبه الوحيد الذي يلتقي فيه شعراء العالم العربي بشعراء بقية العالم.
في سيدي بوسعيد يعيش الضيوف مع بعضهم بعضًا لمدة خمسة أيام في النزل نفسه، ويتقاسمون الوجبات، ويحضرون قراءات بعضهم بعضًا، وتنشأ صداقات بينهم كثيرًا ما تتجسد في مشاريع مشتركة، مثل ترجمات، ومشاريع إقامات أدبية، وغيرها. هذا من شأنه أن يطعم التجارب برؤى مختلفة تثري نسق الكتابة.
في سيدي بوسعيد، يخرج الشعر العربي لملاقاة شعراء العالم، كما أنه يحتك بتجارب فريدة ومختلفة عما هو متداول، مثل كتابات أميركا، والهند، وأوروبا... هذا في ظني يساهم في دعم حداثة الخطاب الشعري العربي. وأنا متأكد من أن تاريخ الشعر العربي سوف يشهد لمهرجان سيدي بوسعيد أنه ساهم في تطوير الخطاب الشعري العربي، وفي فك عزلة الشعراء العرب، والتعريف بهم، بالرغم من سياسات الفيزا المجحفة التي تمارسها الدول الغربية على المثقف العربي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.