}

منارة حلب: "الفنون عتبة لتجاوز الآلام"

عزيز تبسي 4 نوفمبر 2023
هنا/الآن منارة حلب: "الفنون عتبة لتجاوز الآلام"
(شيرين العلو)
برعاية وزارة الثقافة والأمانة السورية للتنمية، وإشراف من ملتقى حلب للفنون التشكيلية، وتحت شعار "الفنون عتبة لتجاوز الآلام"، دعيت مؤخرًا مجموعة من الفنانين التشكيليين المقيمين في مدينة حلب للرسم الحي في باحات وإيوان منارة حلب، وتقديم لوحتين فنيتين في نهاية الملتقى، بعد حصول الفنانين على مكافآت مالية عن أعمالهم. وسيجري في وقت آخر عرض اللوحات للبيع في معرض مشترك مع لوحات فنانين آخرين شاركوا في ملتقيات مشابهة في مدن سورية أخرى، وتحويل ثمنها الى متضرري الزلزال الذي ضرب الشمال السوري في أوائل فبراير/ شباط 2023.

(1)
منارة حلب اسم مستحدث لثلاثة بيوت متجاورة في حي الفرافرة، المكان الأثير لسكن البيروقراطية المدنية والعسكرية العثمانية، جمع المكان دورًا على طبقتين توزعت بينهما ثلاث باحات، لتكون في أوائل القرن التاسع عشر قصر إبراهيم باشا قطر آغاسي، الذي عينته السلطة العثمانية واليًا على حلب.
وبمنهج نزع التاريخ عن الأمكنة، كما حصل في تغيير أسماء مئات القرى والبلدات، تحول القصر الواسع في أواسط ستينيات القرن الماضي، كما غيره من القصور والبيوت الواسعة، تعبيرًا عن قرار إلزامية التعليم ومجانيته، إلى مدرسة إعدادية حملت اسم سيف الدولة الحمداني، وعادت لتتحول بعد استردادها من وزارة التربية وترميمها لتكون مقر لجنة حماية حلب القديمة واللجنة الفنية المنبثقة عنها، لتنتقل بعدها الى هيئة مشروع إحياء حلب القديمة الذي تموله ميزانية من الحكومية الألمانية، وتشرف عليه وكالة التعاون التقني GTZ، بالمشاركة مع بنك الإعمار الكويتي للتنمية الاجتماعية. تغيرت أسماء القصر ووظائفه، لكنه بقي هو هو، بعمارته الشاهقة، وهندسته المتقنة التي أفصحت عن جمالية آسرة، وترف مالكه، بتوزيع أقسامه ووظائفها الاجتماعية التي حددها تقسيم القرن التاسع عشر وما قبله إلى حرملك (مكان إقامة النساء)، وسلاملك (مكان إقامة الرجال واستقبال الضيوف)، وخدملك (مكان عمل الخدم وإقامتهم). يعود اليوم القصر باسم جديد، بعد ترميمه من آثار تخريب ونهب الجماعات المسلحة التي استولت عليه: منارة حلب.




أيًّا كانت الجهة، أو الطريق، الذي سيختاره الذاهب الى المكان، سيعبر على مساحات من حطام العمران، وتحول العمارات إلى ركام، لتتضاءل أعداد المشاة كلما اقترب منه... يتلبس الزائر خجل ثقيل يهوي على كتفيه كعباءة من حجر وهو يستعد لجولة بين رسومات ولقاء أصدقاء يرممون انكساراتهم ويأسهم بأرياش قزمة تعبر على مسطحات القماش الأبيض، بينما عقولهم وعواطفهم رابضة في بيوتهم المعتمة وثلاجاتها الفارغة، وأحبابهم الذين تبددوا في غفلة من الزمن على بلاد ومدن لم يتقنوا لفظ أسمائها بعد.
يصل الزائر بعد عدد من انعطافات الأزقة إلى بوابة ذات قوس حجري عال، تفضي إلى رواق طويل ينتهي ببوابة متوسطة الارتفاع تنفتح على مساحة واسعة يتوسطها حوض مائي مستحدث كبديل عن فسقية خربت في السنوات الماضية، الإيوان يتصدرها، وتتوزع حوله وتعلوه الغرف. توزع الفنانون المشاركون على أطراف الحوش، وتحت ظلال الأشجار، واقفون خلف حوامل لوحاتهم، وكلٌ منهمك في رسمه، أو مزج ألوانه، أو مسترخ في استراحة يدخن ويحتسي فنجان قهوة سريعة التحضير. تحوم حولهم مجموعة من الشبان ارتدوا ألبسة موحدة تحمل شعار الهيئة المشرفة على المكان. ومجموعة من الزائرين موزعين بين مهتم بالفنون البصرية، ومن إداريي المعاهد التعليمية والكليات الجامعية التي يشغل الرسم جزءًا من مقرراتها التعليمية. يلتقي الزائر في جولة متمهلة بوحيد قصاص جالسًا أمام لوحتيه المنجزتين بحرفية الخبير، وقد اختار لهما لون القهوة، وحشد داخلهما عشرات العناصر التي لا تجتمع إلا في لوحة الجسر المؤدي الى القلعة، وفخاريات لشرب الماء، ورجال بلا ملامح، وأعزاق زهور مستنبتة من جوف الخرائب، وببشار البرازي يدخن وهو ينظر إلى لوحته التي جسدت رجلًا يقرأ جريدة وقد أخفى وجهه، وبجواره أصلان مامو بلوحتيه ترى في أولهما قلعة المدينة من بعيد وأمامها شجرة انكشفت جذورها... ولوحته الأخرى، ظهرت فيها أشجار زيتون متباعدة، وقد تصدرتها شجرة مجردة من أوراقها وثمارها...

بشير بدوي 

بينما بدت شيرين العلو منهمكة في إتمام لوحتها التي تظهر قناطر لبناء بعيد يتناثر حولها بياض بلون الكلس، أو السكر المطحون، وتشعر من يقترب منها بقلقها على الفوات السريع للوقت المقرر، ومثلها الفنانة ماري مرقص المنهكة في إتمام لوحة عن أمومة طافحة بالحياة كأنها آتية من زمن ماض، في حين تضع لوسي مقصود لمساتها الختامية على لوحتها، وقد أسندت لوحتها الأخرى على ساق الحامل الخشبي لتجف... وينقل الفنان علي حسين لوحته الأولى المنتهية ويركنها على الجدار، ويحمل لوحته الجديدة ويعاجل في رسم محددات عناصرها، لتظهر رؤوس ثلاث نساء متداخلة مع أسماك يترقبن مشهدًا بعيدًا ويتهيأن للعبور إليه.... ويضع بشير بدوي بريشته نقاطًا خفيفة على لوحته، التي تظهر وجه امرأة تطل بوجل من بين درفتي باب، أو نافذة، وتستريح سوزان حسين قرب لوحتي كاتدرائيتها المطوقة بحشد من الأشجار الثرية، وزقاقها الخالي من الناس وأبوابه الموصدة، ويحيا على ذكرى نباتاته المتدلية من الشبابيك والضوء المسكوب كمياه من أعلاه وزواياه.

(2)
اجتمع ما يزيد على خمسة عشر فنانًا تشكيليًا، تبادلوا الكلام في حوارات مقتضبة، والصمت بتأملات طويلة، بما فكروا به أو قرروا نقله الى القماش المشدود على الإطارات الخشبية، التي حملت إليهم من دمشق... أو بما هم غارقون فيه وقد أبقوه في بيوتهم، بتفاصيل حياتهم اليومية ومصائر أولادهم وعائلاتهم، ومراقبة أنفاق لا نهاية لها، وترقب الضوء الذي انتظروه طويلًا في نهايتها...

بشار برازي 

غاب عنهم الخراب الذي يطوق "منارة حلب" من جهاتها الأربع، وغابت الشوارع الخالية والأزقة الموصلة إليها من العابرين، غاب نعيق الغربان المختزل الآمر، كما تغريد العصافير التي لا تكترث بأحد... يعود الزائر إلى بيته عابرًا شوارع معتمة، يضيء طريقه مصباح يدوي، ليتجنب الحفر المتربصة به، وقد وعد من ينتظرونه أن يعود كما ذهب بلا كسور أو جروح.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.