}

الضحيّة التي تقاوِم: غزة بين المأساة والفِداء

مليحة مسلماني 18 ديسمبر 2023
هنا/الآن الضحيّة التي تقاوِم: غزة بين المأساة والفِداء
وائل الدحدوح: مَعْلِش (محمد سباعنة)
الأم: "أولادي ثلاثة يا عالم، دوروا بلكي بلاقيلي واحد عايش"

تنطلق الرؤية إلى غزة أثناء الحرب من تلك الشمولية للفلسطيني خلال مسيرته النضالية ضد الاحتلال، والتي تراوحت في الوعي الجمعيّ ما بين كونه ضحية وبطلًا؛ فهو الشهيد، والجريح، والمعتقل، واللاجئ. وهو أيضًا الصامد على أرضه والثابت على حقوقه، المقاوِم في التظاهرات، والفدائيّ منذ انطلاق حركات التحرّر في الستينيات، وطفل الحجارة في الثمانينيات، وهو الذي أصبح يصنع الأسلحة والصواريخ، ويخوض حاليًا اشتباكات في غزة، في مواجهة الآلة العسكرية والاستخباراتية الصهيونية المدعومة أميركيًا وغربيًا.
غير أن صورتي الفلسطيني، البطل والضحية، تصلان إلى أقصاهما في غزة خلال العدوان الأخير، وذلك من حيث واقعية الصورة المأساوية ومن حيث الرؤية إليها؛ كارثة محقّقة تذكّر بالنكبة، عشرات آلاف الضحايا بين شهداء، وجرحى، ومفقودين، ومعتقلين عُذِّبوا وصُوّروا عراة وفي وضعيات لاإنسانية، إضافة إلى الدمار الهائل، ونزوح مئات الآلاف من المواطنين. وفي مقابل هذه الصورة للفلسطيني الضحية، تبرز أيضًا صورة المقاوِم، الذي يفجّر الدبّابات والآليات العسكرية، ويشتبك مع الجنود من المسافة صفر.
غير أن روح المقاومة والصمود تجلّت أيضًا في حكايات المواطنين المدنيّين من غزة؛ فمقابل مشاعر الفجيعة والخذلان والغضب، وآلام فقدِ أحبّةٍ استشهدوا، أو فُقدوا، وبيوتٍ دُمّرت، ومعاناة النزوح، أكّد المنكوبون على ثباتهم وصمودهم ورفضهم لمخططات التهجير، وعلى رسائل تؤكّد على تحرير فلسطين كبوصلة جامعة، وعلى إسنادهم ودعمهم المعنويّ للمقاومة، كما يقول شابّان يرفعان علم فلسطين على ركام منزلهما المدمّر "فداء لفلسطين... وفداء للمقاومة... كلّنا مع المقاومة، والمال معوّض".



أكد الغزّيون أيضًا على اعتقادات إيمانية، كالصبر، والرضى والتسليم بقضاء الله، ورِفعة درجة الشهادة، ما أثار فضول نشطاء أجانب تفاعلوا مع الأحداث وتأثروا بها، وبدأوا في التعرف على الإسلام والقرآن باعتبارهما مستندًا عقائديًا جوهريًا في ثبات أهل غزة، الذين ما زالوا يحمدون الله رغم أنهم فقدوا كل شيء، كما يقول نشطاء أجانب.


"روح الروح"

يحكي الجد خالد نبهان عن حبه لحفيديه "روح الروح" وأخيها طارق، ويظهر في مقاطع فيديو أخرى يساعد المصابين ويواسيهم 


خالد نبهان، رجل ملتحٍ يرتدي جلّابية، يعتصب بكوفيّة لونها يميل إلى البني، يودّع حفيدته ريم التي استشهدت وأخوها طارق في قصف إسرائيلي، يحتضنها ويفتح عينها ليقبّلها، وقبل أن يسلّمها للمُكفّنين يقول مكررًا جملته الشهيرة "هذه روح الروح"، في حين أنه يبدو ثابتًا ومتقبّلًا حقيقة استشهاد حفيديه.
لحظات إنسانية من غزة وثَّقتها الكاميرا، لتصبح من أكثر القصص التي شهدت تفاعلًا واسعًا على مواقع التواصل الاجتماعي؛ عبر نشر مقاطع فيديو من حياة الطفلة ريم قبل رحيلها، إضافة إلى رسوم كثيرة تصور الجد أبو ضياء محتضنًا حفيدته، ليتحول إلى أحد وجوه غزة الحاضرة في الحرب والدالّة على قيم إنسانية، كالحب، وأخرى وطنية، كالصمود. كما تُنشر له مقاطع فيديو يظهر فيها ثابتًا ومبتسمًا، يحكي عن حبه لروح الروح وأخيها طارق، ويظهر في مقاطع فيديو أخرى يساعد المصابين ويواسيهم.
كلمتان بسيطتان لكنهما تحولتا إلى رمزية وحكاية؛ تستخدم "روح الروح" في العامّية للتعبير عن مشاعر حب خالصة للأبناء والأحفاد، ولمن لديهم محبة خاصة لدى القائل. وفي السياق الفلسطيني الغزّي، تختزل هاتان الكلمتان حكاية الإنسان الفلسطيني التي مسّت وجدان الإنسان بعامة، بغض النظر عن جنسه ودينه وعرقه، وأيقظت آلام الفقد لدى جميع من شاهد حكاية الجد أبو ضياء، الذي يحتفظ بحَلَق حفيدته كوسامٍ يذكّره بها.
تحطم صورة أبو ضياء، التي خرجت بشكل عفويّ من واقع الحرب في غزة، أفكارًا تشويهية عن الفلسطيني في البروباغندا الصهيونية، وكذلك أفكار الإسلاموفوبيا وشيطنة المسلم، التي تم تعزيزها في المخيال الجمعي الغربي، حول المسلم "الإرهابي"، الملتحي، معصوب الرأس، والذي يرتدي جلابية؛ ليظهر هنا بصور مغايرة تمامًا لما هو متخّيل عنه، إنسانية وواقعية ومأساوية إلى أبعد الحدود.
"روح الروح" هي رمزية الطفلين الضحية، وتنطوي أيضًا على صورة الجد الثابت المتقبّل لحقيقة الفقد، الذي يواصل حياته كما تشترط ظروف الحرب. كما تذكّر حكاية "روح الروح" بمأساة استشهاد آلاف الأطفال في غزة، الذين لكل منهم حكايته الخاصة التي لم توثقها الكاميرات، فما يظهر على الشاشات يبقى جزءًا يسيرًا من حجم الكارثة، وصفحةً من فصول مأساة هائلة.


"مَعْلِش" ــ الصحافيُّ الخبر

يصبح وائل الدحدوح، مراسل الجزيرة في غزة، أيقونة إعلامية في زمن الحرب؛ لتحيل إلى حكاية صحافي ترسّخت في ذاكرة الشعوب، ولم تبدأ خلال الحرب الأخيرة، بل تراكمت عبر الحروب المتكررة على غزة، والتي انخرط فيها الدحدوح إعلاميًا وإنسانًا. لكن الحدث الأكثر مأساوية في تلك الحكاية هو فجيعته باستشهاد أفراد من عائلته، من بينهم زوجته وابنته وابنه، في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.




يبكي وائل بجانب جثمان ابنه محمود، ويقول "بينتقموا منّا بالولاد. مَعْلِش"، مشدّدًا على حرف الشين بألمٍ وقهر، ما أعطى الكلمة معاني أخرى؛ تُستخدم "معلش"، في العامية، في سياقات متعددة، كالاعتذار، أو المواساة، أو التهوين من ألم مادي، أو معنوي، وتعني أيضًا "لا يهمّ"، ويقال إن أصلها في العربية "ما عليه شيء". التقط نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي الكلمة من لسان وائل الدحدوح، لتتحول إلى رمزية لحكايته ولمأساة غزة بعامة، بما تحمله الكلمة من دلالات جديدة تحيل إلى مواصلة الصمود والنضال ضد محاولات الإبادة والتهجير.
أما مقولته عن الانتقام من الأبناء، فتحيل إلى ممارسات استعمارية طالما طُبّقت خلال الحروب على غزة، وفي فلسطين بعامة، عبر استهداف المدنيين، وتدمير البنى التحتية، وسياسة العقاب الجماعي. كما أن فشل إسرائيل، وبعد أكثر من شهرين منذ بدء العدوان، في تحقيق هدفها في القضاء على فصائل المقاومة، قابله على الدوام سعيها لتنفيذ مجازر بحق المدنيين، واستهداف البيوت، ومراكز الإيواء، والمستشفيات، ودور العبادة، وغيرها من المرافق المدنية.
وقد تحيل جملة الدحدوح "بينتقموا مّنا بالولاد" إلى الانتقام من الصحافيين أنفسهم، الذين أصبحوا مقاومين على جبهة المواجهة ضد الرواية الصهيونية، بتقديمهم صورة حقيقية عن الواقع في غزة، وكشفهم لجرائم الاحتلال فيها؛ فهم أبرز صُنّاع الرواية الفلسطينية، التي تقف على النقيض من البروباغندا الصهيونية. وبذلك أصبحوا وعائلاتهم في دائرة الاستهداف، ما أدى إلى استشهاد 89 صحافيًّا منذ السابع من أكتوبر.
عاد وائل، بعد أقل من يوم من استشهاد أفراد من عائلة، إلى تغطية أخبار العدوان، وأصيب مؤخرًا بشظايا صاروخ أطلقته طائرة استطلاع إسرائيلية، في حين استشهد زميله سامر أبو دقّة، مصوّر قناة الجزيرة. وهكذا يصبح الصحافي في غزة أيقونة فلسطينية تتحرّر من أحادية البعد الإعلامي، وتخرج عن إطار شاشة البثّ، لتنفتح على اتساع وعمق الحكاية الإنسانية الفلسطينية؛ فالصحافي قد يصبح ذاته الخبر، أو يبثّ حابسًا دموعه خبر استشهاد 21 فردًا من عائلته، كما فعل مؤمن الشرافي مراسل الجزيرة. ولا يقتصر عمل صحافيي غزة خلال الحرب على التغطية فحسب، بل يشاركون بشكل فعّال في العمل الإنساني، كمساعدة ومواساة ونقل الجرحى، وتخفيف الصدمات على الأطفال، ورفع المعنويات، كما في مقطع فيديو يصوّر وائل الدحدوح وإعلاميين آخرين ونشطاء ينشدون "سوف نبقى هنا".


"ولّعت"

ولَّعت: وكأن عقود الحصار والحروب المتكررة لم تهزم الطفل الذي بقي حيًا في روح المقاوِم


مقاوم يظهر في مقطع فيديو بثّته "سرايا القدس"، يصور اشتباكاتها مع جنود وآليات الاحتلال في غزة، يقفز في الهواء حاملًا سلاحه، فرحًا بنجاحه وزملائه في تفجير دبابة إسرائيلية، ويصرخ "ولّعت"، أي "اشتعلت"، في إشارة إلى الدبابة. لحظات وثقتها الكاميرا، لتتحول مشهدية هذا المقاوِم وكلمته إلى مرادف لصمود فصائل المقاومة في الاشتباكات، على مدار أكثر من شهرين منذ بدء العدوان. غير أن القفز بذاته تعبير طفوليّ يذكّر بالأطفال الذين يقفزون فرحًا بأمر ما؛ وكأن عقود الحصار والحروب المتكررة لم تهزم الطفل الذي بقي حيًا في روح المقاوِم.
القفز في فيديو "ولعت"، وصور مقاومين يخرجون للاشتباك مرتدين بناطيل بيتيّة، ينتعلون شباشب، وأحيانًا كثيرة حُفاةً ــ لاعتبارات أمنية كما يقول محلّلون، ويعدّون "قلاية بندورة" (الطبق الفلسطيني الشهير) في ساحة الاشتباك، هذه كلها إحالات تشكّل في مجموعها صورة للمقاوم الفلسطيني تحرره من إطاره العسكري والأيديولوجي الحادّ والمنغلق، لتعطيه أبعادًا إنسانية تجعله مألوفًا للناس وقريبًا منهم.
تتشكل مشهدية غزة المقاوِمة عبر عدد كبير من مقاطع الفيديو التي نشرتها فصائل المقاومة، وتعززها خطابات "الملثم" ــ أبي عبيدة، الناطق العسكري لكتائب القسام، وكذلك خطابات أبي حمزة، الناطق العسكري لسرايا القدس. أخبار وصور ومقاطع فيديو توثق تفجير آليات عسكرية واستهداف جنودٍ والاشتباك معهم من مسافة الصفر. لتخلق هذه الصورة البطولية لغزة دلالتها ورمزياتها أيضًا، كالمثلث الأحمر الذي يظهر في مقاطع الفيديو قبل عملية الاستهداف، ليعاد إنتاجه ضمن رسومات وتصاميم كثيرة كدالٍّ على المقاومة، وتنضم كلمة "ولّعت" إلى القاموس الرمزي الفدائيّ في غزة، إضافة إلى مقولات شهيرة أبرزها "وإنه لجهاد... نصر أو استشهاد".
"ما تعيّطش يا زلمة، كلنا شهداء"، "هاي روح الروح"، "اسمه يوسف، ٧ سنين، شعره كيرلي وأبيضاني وحلو"، "الولاد ماتوا بدون ما ياكلوا"، "بينتقموا منا بالولاد؟ معلش"،" فدا القدس... فدا القدس"، "أولادي ثلاثة يا عالم، دوروا بلكي بلاقيلي واحد عايش"، "شكرًا يا إسعاف. بنحبكم كتير"، "صار هدنة يا جماعة... والله... فرحت كتير يا جماعة"، "حَرَقوا الدبابات... كَبْروا يا جماعة"، "ولّعت"، هذه بعض جمل الغزّيين بين منكوبين ومفجوعين بفقد أحبّتهم وصامدين ومقاومين، قيلت في لحظات استثنائية، لتصف أقصى الحالات الوجدانية، التي اختلطت بين ألمٍ وفجيعة وقهر وفرح وفخر وغضب، جمل يجمعها ويوثقها نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، ويعيدون نشرها وسردها عبر الرسومات، لتشكّل بمجموعها حكاية غزّة بين مأساتها وصمودها.


(*) ملاحظة: الرسوم المستخدمة في المقال نقلًا عن مواقع التواصل الاجتماعي.

هوامش:
1 ـ ينظر الرابط: "فلسطينيان يرفعان علم بلدهما على ركام منزلهما المدمر"، الجزيرة مصر، 24/11/2023، https://www.facebook.com/watch/?v=320195474200911
2 ـ ينظر: أحمد حموش، "ما سر ثبات أهل غزة... حملة داخل أميركا لتأمّل القرآن الكريم"، الجزيرة نت، 03/11/2023، https://bit.ly/3GPrAuw
3 ـ ينظر: "لماذا نشاهد مقاتلي القسام حفاة وبدون زيّهم العسكري"، قناة العالم، 21/11/2023، https://bit.ly/3v4wf9x

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.