}

شعر المرأة وشعر الرجل: هل لا يزال هنالك فرق؟

حسين بن حمزة 31 ديسمبر 2023
هنا/الآن شعر المرأة وشعر الرجل: هل لا يزال هنالك فرق؟
(Getty)
لماذا تُعامل المرأة الشاعرة كمواطنة درجة ثانية في عالم الشعر والكتابة؟ ولماذا يتم التفريق بين الشعر الذي يكتبه الرجل، والشعر الذي تكتبه المرأة؟
هل الشاعرات يُعاملن بنوع من التمييز من قبل القارئ، أو الناقد؟ هل كون صاحبة القصيدة أنثى يُقلّل من أهمية هذه القصيدة أم أن الأنوثة تلعب دورًا في حصول القصيدة على مديح مبالغ فيه؟ لماذا نجد نُدرة في تغزل الشاعرات بجسد الرجل، مقابل كثرة وإسراف أحيانًا في تغزل الشعراء بجسد المرأة؟
وأخيرًا، ما المطلوب (من الشاعرات ومن القراء والنُّقاد) حتى يُنظر إلى القصائد التي تكتبها النساء على أنها قصائد فحسب؟
هذه هي الأسئلة والاستفسارات التي طرحناها في هذا التحقيق. وفي ما يلي شهادات شخصية من خمس شاعرات: وئام غداس (تونس)، مروة نبيل (مصر)، سمر دياب (لبنان)، عائشة بلحاج (المغرب)، مناهل السهوي (سورية).

وئام غداس:
جودة النص أولًا


كتبت المرأة الشِعر وبرعت فيه منذ العصر الجاهلي. وعلى مرّ الزمن، ازدهر الشِعر الذي تكتبه المرأة، ولمعت فيه أسماء بلا حصر، حيث نافست قصائدهن منذ البداية، وحتى يومنا هذا، قصائد الرجال، وتفوقت عليها في أحيان كثيرة.
لا شك في وجود اختلافات بين النص الأنثوي والذكوري، لكن هذا الاختلاف لا يكمن في القيمة، بل في الموضوعات، وطرائق خوضها. لا أنكر أنه في مرحلة زمنية معينة، بدا شِعر المرأة أقلّ جرأة وأكثر اجتنابًا لكثير من الموضوعات، مما اتسمت به على سبيل المثال قصائد الرجال، من تغزّل بأجساد النساء، وجرأة في وصفها، ولم تتسم به قصائد النساء... لكن ذلك تلاشى مع الزمن الحديث، حيث باتت الشاعرات أكثر جرأة، وأكثر قدرة على خوض كل الثيمات في قصائدهن، والشقّ الحسيّ جزء من ذلك. لكني ما زلت أظن أن كثرًا لم يستسيغوا ذلك، سواء من القراء، أو النقاد، الذين لا يمكنهم رؤية نص المرأة إلا متّسمًا بالضعف. ولكن من مكاني، كشاعرة، أؤكد أن في مقدوري الكتابة في أي شيء أحبه، وبجرأة أرى أنها ملائمة لنصي، مهما بدا فاضحًا لغيري. فعلت ذلك في بعض القصائد، ولاقيت الإعجاب والاستنكار على حد سواء، ولكن كثيرًا من التصرفات اللاأخلاقية أيضًا من أشخاص لا أعرفهم بدا لهم أنه من الطبيعي التجاوز مع امرأة تكتب نصًّا "بذيئًا" كهذا! نعم، للأسف. لكن، ولأكون منصفة، هنالك من يكتبن اليوم ويتعمدن حشر العبارات الجنسية والإيحائية لإنجاح نص هزيل، وغالبًا ما ينجح، ولكن مع جمهور أكثر تفاهة من صاحبة النص، وهكذا نحن في حلقة مفرغة، إلى ما لا نهاية، وهو ما يجعل الكفاح للارتقاء بمنزلة ما تكتبه المرأة أمرًا أصعب.
لست ممن تزعجهن عبارة "الشِعر النسائي" على غرار "الأدب النسائي"، على الرغم من أني لا أوافق عليها، إذْ يمكنك بقليل من الوعي والتعمق في قراءة الأدب القديم والحديث أن تستنتج أنه لا يوجد أدب ذكوري وأدب نسائي، هنالك إنسان، وهنالك قضايا تشغله. هنالك موهبة، وعلى أساسها فقط تجوز التفرقة.
الشعر تحديدًا لا يرتكز على جنس الشخص، بل على مدى حساسيته تجاه الحياة ونظرته إليها، هذا الشخص يمكن أن يكون ذكرًا، أو أنثى، ما الفرق؟ كلاهما يمكن أن ينشغل بما قد يشغل الآخر، وكلاهما يمكن أن يشعر بما يشعره الآخر، أما التقسيمات الجندرية هنا فأظنها وُضعت من قِبل أشخاص مهمومين بالحطّ من نص المرأة، وليس بنقده نقدًا موضوعيًا.
هذا الحطّ والانتقاص الذي طاول كل مجالات الحياة والأدب جزء منها، بذرته الأولى بالنسبة لي كانت في مصطلح "الأدب/ الشِعر النسائي"، وهو فصل واضح بين قصيدة المرأة وقصيدة الرجل، فصل غرضه التفضيل ـ ولو ضمنيًا ـ قبل المقارنة الموضوعية، إذ ما علاقة جودة أي نص بجنس صاحبه؟ هل لأن نصوص المرأة تتميز بالأنوثة؟ لكن الأنوثة مثل الرجولة صفات إنسانية قد يتميز بها الذكر والأنثى على حد سواء. أظن أن شاعرًا كبيرًا كنزار قباني كان أشدّ أنوثة من شاعرات كثيرات، وأن كاتبًا مثل يوسف ادريس كتب ببراعة منقطعة النظير عن عالم الأنثى أفضل مما كتبت نساء كثيرات، وأن طاغور كان يحمل من الرهافة ما لم تحمله الشاعرات، وأن رقّة رينيه شار تضاهي وتتجاوز رقة الإناث. لذلك لا يوجد فرق بين شعر المرأة والرجل إلا في العقول التي لا تزال ترى أن تفوّق النصوص التي تكتبها المرأة هو انتقاص من منجزهم، وأن جرأة هذه النصوص ليست سوى "محاولة للإغراء".
تجربتي في كتابة الشِعر لاقت نوعين من الانتقاص، إيجابي وسلبي، الإيجابي كان مباشرًا عبر التهجم على ما أكتبه بشكل مباشر، ومن دون مناقشة النص. كان ثمة تهمة لاحقتني، ولا أشك في ملاحقتها لشاعرات كثيرات، وهي الربط المباشر بين نجاح نصي وجسدي. يحب بعضهم ويستمتع بإقناع نفسه أنه لا توجد شاعرة جيدة، بل امرأة جميلة، ويفضّل تنصيع الأنثوية. أما الانتقاص السلبي فيكون عبر الشِق الآخر، الذي يبالغ في مديح نص شاعرة قد تعرف أحيانًا ـ لو كنت على قدر من النضج ـ أنه عادي، وأحيانًا ضعيف، فيكذب كذبًا مكشوفًا، لأنها امرأة، ولأنه يعتقد أنه ممرّ سهل إليها، عبر تضخيم منجزها. وعلى أي حال، فكلا الموقفين لم يثيرا يومًا سوى أسفي، لأنهما على القدر نفسه من الدناءة.




بالنسبة لي، من تريد كتابة الشِعر عليها نزع عباءة سطوتها الأنثوية، ضعفها، أو جمالها، أو غيره. تصرّفي وانظري إلى الشِعر كإنسان كامل لا يحتاج إذنًا ليكتب، ولا يحتاج خصوصًا إلى النظر إليه بشفقة، أو بشهوة، لينجح أو يستمرّ. إن لم تستطيعي ذلك فاتركي الأمر، واعرفي ببساطة أنكِ لم تُخلقي له. أما من يريد قراءة أو نقد شِعر المرأة فعليه أولًا التخلص من كل ما يعيق موضوعيته من تقسيمات جندرية لا معنى لها حين نتحدث عن الأدب والشِعر.

مروة نبيل:
هنالك نظرة دونية للمرأة الشاعرة


السؤال حول ما إذا كان هنالك فارق بين الشعر الذي يكتبه الرجل والشعر الذي تكتبه المرأة يثير أحاديث ذات شُجون؛ ترتبط بشجون وآلام أخرى لا تخص الشعر وحده؛ بل تخص الثقافة والمجتمع بشكل عام. إذ لم تزل النظرة الدونية للمرأة تتحكم في المشهد الثقافي؛ فمثلًا؛ وفي تصديره لترجمة ديوان "رسائل عيد الميلاد" لتيد هيوز؛ حاول الدكتور ماهر شفيق فريد توضيح الفارق بين شعر سيلفيا بلاث، وشعر هيوز قائلًا: "ولكنني، وعلى عداوتي للنزعة النسوانية، وازدرائي لأغلب ما تجود به قرائح النسوان، بدءًا بـ"سافو"، وانتهاءً بشواعر قصيدة النثر المعاصرات؛ لا أملك إلا أن أسجل ـ بكل أمانة، وبحيرة غامرة ـ أني لست واثقًا من أن سيلفيا بلاث هي أدنى الاثنين.."، يقصد بالثاني هيوز. والغريب أنه قصد بما قال الثناء على بلاث، وتفضيل شِعْرها على شِعْر زوجها؛ ونحن هنا يُمكننا تمييز حالة "شيزوفرينيا" مألوفة؛ وجدنا مثلها عند العقاد، وتوفيق الحكيم، وغيرهما. إذًا، يظل الفارق موجودًا في النظرة إلى الشعر العربي الحديث؛ ارتكازًا على هذا الازدراء للمرأة، وعلى النظرة إلى التقليد الشعري العربي كشعر عاطفي جمالي أكثر من كونه شعرًا تأمُليًّا خالصًا. لكننا في هذه الحال؛ إذا حاولنا أن نكون موضوعيين، وإذا همشنا السُّلطويَّة الذكورية، وتلك الطريقة الانتقائية العرجاء التي دُوِّن بها تاريخنا الثقافي؛ ربما سيُحسِمَ الأمر لصالح المرأة؛ بوصفها المخلوق الأكثر حساسية ورهافةً وعاطفية.
إن الشعر المعاصر، في معناه العالمي والأكثر حداثة؛ تنصهر فيه مثل هذه الفوارق، وينظر فيه إلى الذات الشاعرة ـ سواء لرجل أو امرأة ـ بوصفها رائية، أو وسيط، أو مرآة تعكس ما تيسر لها إدراكه من جوهر الشعر؛ ومن خلال وجهة النظر هذه يمكن أن يجد الرجل ذاته في ما تكتبه المرأة؛ كأن يجد روحه الحائرة، وتساؤلاته، ودهشته، ومحاولاته لفهم العالم. وبالنسبة إليَّ، ومن خلال تجربتي؛ يبدو أن التمييز كان إيجابيًّا. وكثيرًا ما سمعتُ عبارة "هذا ليس شعرًا نسائيًّا"؛ على سبيل الإطراء. من دون أن يُدرك قائل العبارة إنني لم أفعل شيئًا سوى العيش وفقًا لما أمْلته عليَّ حُريتي الداخلية، التي كما جلبت لي تميُّزًا مفترضًا؛ جلبت كثيرًا من العناء؛ في مجتمع لا يسمح لامرأة بكثير من الحريات. وإنني حرصتُ على ألا أُمارس الذكورية على نفسي. ولا يُدرك أيضًا أنني كما تأثَّرت بـ رامبو، وباول تسيلان، وبرونو. ك. أويَّر، وحلمي سالم؛ تأثرت أيضًا بـ غابرييلا ميسترال، وشيمبورسكا، وفروغ فرخزاد، وإيمان مرسال.
شُجون أُخرى يُثيرها التساؤل عن الفارق المزعوم حول حُرية المرأة في الكتابة، والتنقل بين الموضوعات والأغراض الشعرية المختلفة... فكتابتها عن الألوهية ـ مثلًا ـ قد تتسبب في قذفها بالكُفر، وكتابتها عن السياسة قد توصف بالسذاجة، وكتابتها عن الجنس تُصنَّف عُهرًا وإغواءً. ربما يحدث ذلك كاستمرار لواقع قديم ـ عربي وغربي ـ يُرجِّعنا إلى عصر الحريم والجواري؛ حيث نصطدم بالأرثوذكسيات والراديكاليات الفكرية في منابعها الأصيلة. إذ لو حاولت شاعرة الخروج عن الإطار؛ صارت هدفًا للتنمُّر، والتحرُّش، والسخرية، والإيذاء. ولكن، جاء الشعر الحديث ـ مُمثلًا في قصيدة النثر ـ ذاتيًّا، واعترافيًّا بطبيعتهِ؛ لذلك كثيرًا ما يَجِدُ الرَّجُلُ جسدَهُ في قصيدتي، كُلًّا، أو على هيئة أجزاء. كانت القصائد تُتيح لي الحديث عن لِحيَتِهِ، أو صَدرهِ، أو بَشرتهِ، وعن أجزاء أخرى أكثر حميمية مما ذكرت. هذا إذا كان هنالك رجل بالفعل، وكانت القصيدة تعبيرًا عن حالة عشق. أهتم كثيرًا بأن تكون قصائدي "الإيروتيكية" طبيعيةً وحدسيَّة، ليست مُفتعلةً، أو مُتعمَّدة.
"الصدقُ" مطلوبٌ من الشاعرة لإذابة هذا الفارق المزعوم، صدق يعني إخلاصًا كبيرًا للشعر؛ وحرصًا على تجنب عِصْيانَهُ. فإذا تركتُ الشِّعر تركني. وإذا انشغلت عنهُ بحياتي؛ شغلني بها أكثر. القصدُ هنا رعاية "الوعي" بالقراءات، وإطعامه بالناصع والطيب من الفنون والآداب والعلوم؛ كي يتعافى من الحياة اليومية والثرثرة. عليها ـ وباستمرار ـ تلميع جوهرها الإنساني، ومقاومة التدجين الذي يُمارَسُ عليها من اتجاهات عدة. وقتئذ؛ هي من سيُحدد لـ"القارئ" الطريقة الأفضل لقراءتها، في عمليةٍ تُشبِهُ "التفكيك" لما رَسخَ في ذهنِه من أحكام مُسبقة على شِعر النساء. أما "الناقد" فلديه من التأسيس النظري ما يكفي لقراءة شاعرة تكتُب في القرن الواحد والعشرين. عليه تفعيل النظريات الأكثر جِدة وحداثة؛ المسألة ترتبط هنا أيضًا بتربية الناقد لوعيه، ولرؤيته الخاصة، والراسخة؛ للشعر، والمرأة، والحياة، والعالم.

سمر دياب:
المطلوب هو إنصاف الشّعر


حققت المرأة الشاعرة في الأعوام الأخيرة إنجازًا بديعًا على مستوى تطوّر قصيدتها، فقد نجحت الحداثة ومحاولات تغيير الواقع المختلفة في تحريك وإرساء وعي المرأة الشاعرة بذاتها ومحيطها، وبالتالي بقصيدتها. تكتب المرأة اليوم بكلّها الذي عانى الاستلاب والتهميش الاجتماعي والثقافي على مرّ السنين، كما تكتب أيضًا بجزئها الغامض الموارب الذي يليق بماورائيات الشعر، لا أجد فروقات اليوم بين الشعر الذي يكتبه الرجل، وشعر المرأة، فاختلاف تقنيات الكتابة الشعرية وموضوعاتها لا تعني أن هنالك "فرقًا" طالما أن الشعريّة محققة. فلنأخذ مثلًا الإشكالية المفترضة لقصائد الغزل الحسيّ عند المرأة الشاعرة، وتغزلها بتفاصيل جسد حبيبها، قد يكون من الأسهل للوهلة الأولى القول بأن النشأة والمجتمع والأعراف يتحملون مسؤولية هذا "النقص"، أو "الفرق"، الذي يُشار إليه عادة في المقارنات الشعرية التي تبخس قصائد المرأة الغزلية حقها لأنها لا تشبه قصائد الرجل، لكني أعتقد أن الأمر يتجاوز ذلك؛ فالمرأة في علاقتها مع الرجل تذهب مباشرة إلى ما وراء الجسد، والافتتان شرط من شروط قصائد الغزل، وبينما يفتن الرجل سريعًا بجسد المرأة، تفتن المرأة بالرجل ككلّ، فتتخذ قصائدها شكلًا غزليًا مختلفًا ليس عليه أن يُقارن بشيء، وليس عليه أن يُحشَر في زاوية واحدة مع كتابة الرجل ليحقق شرطه الشعري، وبالتالي الاعتراف به، فهنا نتاج إبداعي لكائن مختلف عن الرجل، ويكتب شعرًا في الحب والحرب والغزل بمفرداته وتجاربه ومقارباته الحسيّة الخاصة. على المستوى الإبداعي، لا أجد فرقًا بين الشاعر والشاعرة في الكتابة، لأني لا أقارن نصّ هذا بتلك، وأرى أن الشعر ندّاه لأصحابه، ولو كتبه كائن فضائي.
من جهة أخرى، قد يكون التمييز في قراءة ما تكتب الأنثى صحيحًا وواقعيًا، فهنالك فضول علنيّ لدى الجميع تجاه المرأة الشاعرة، كما تجاه المرأة عمومًا، فلا يزال بوح المرأة، الذي لم يعتد عليه الجمهور كثيرًا في الشعر، أمرًا مثيرًا للاهتمام، ويستقطب أهل الشعر، كما المتلصصين، لكن هذا التمييز لا يعني شيئًا في واقع الشعر، فالفضول كما الانبهار كما التملّق، أعمارهم قصيرة، فلن أستطيع أن أخدع قارئًا حقيقيًا، أو ناقدًا حقيقيًا، فقط لأني أنثى، ولن يستطيعوا في دورهم إنكار قصائدي لمجرد أني أنثى. أما من يهجون ويمدحون بناء على تصنيفات الأنثى والذكر، فهؤلاء متطفلون لا علاقة لهم بالشعر، ولا يعوّل عليهم في قراءة أو نقد.




يبقى أن الجديّة في التعاطي مع الشعر الذي تكتبه المرأة، والتجرّد من الأحكام المتخلفة التي يلفظها الشعر نفسه هو ما عليه أن يتسيّد الموقف الثقافي وانشغالاته، بعيدًا عن تكريس قصائد الرجل كمقياس للشعر، ونبش فروقات ومقارنات مجحفة لا مكان لها، فالشاعرة تصنعها الموهبة ويكرّسها الزمن، كما الشاعر. قد يُعتقد أنه مطلوب من الشاعرات القيام بشيء لنفي تهمة الأنثى عنهن، وللالتفات إلى قصائدهن وشعريتهن، من دون أن يعلق الآخر في حبائل مجاملات الشكل، أو إنكار المعنى، ربما المطلوب صوت من دون صورة، لأن الآخر للأسف لا يثق بأدوات النقد التي يملكها، بل على الأرجح لا يملكها، لكن... ليس مطلوبًا من الشاعرات أي شيء، وفي إمكان الشاعرة أن تكون ما تريد، وتعبر عن نفسها بالطريقة التي تشاء، المطلوب هو القارىء والناقد الحقيقي الذي يبحث عن الشعر ويميّزه، ويساهم في انتشاره لمن يحتاجونه في حياتهم، ولمن يعنيهم أن يسمعوا ماذا تقول امرأة شاعرة عن الحب والحرب والعالم. المطلوب هو إنصاف الشعر.
أما عنا نحن الشاعرات، فعلينا فقط أن نكتب.

عائشة بلحاج:
مصطلح الشِّعر النسوي بِدعة


الحديث عن الشّعر من منطلق الجنس يشبه الدخول إلى متجر عطورات من أجل عطر، أو كريم مرطّب، أو شامبو. عشنا وعاش الشّعر حتى صار له نساء ورجال، عفوًا نساء فقط. فهنالك شعر (وهو شعر الرّجال طبعًا)، وهنالك شعر النساء. هنالك أدب، وهناك أدب النساء. ماذا نفعل بأنفسنا يا بنات جنسي الشّاعرات؟ حتى الخنساء وولّادة ورابعة، وغيرهن من الشّاعرات النّادرات في أزمان ذكورية، لم يُصنّفن في فئة خاصة، بل كانت الخنساء سيّدة شعر الرثاء، وولّادة من العاشقات البارزات، في الزمن الذي كان يوضع فيه الشّعر في خانات ضيّقة تشبه رفوف المتاجر، أو علب المربى. لكل فئة رفّ، ولون وماركات معروفة.
مصطلح الشِّعر النسوي بدعة من البدع التي تلصق بالمرأة، رغمًا عنها، ولا يبقى أمامها سوى حل من اثنين، إمّا أن تستغل كونها أنثى، لتستفيد على الأقل من هذا التّمييز، أو ترفضه، فتعيش وهي تنكره كتهمة مؤبّدة، لا فكاك منها مثل تهمة التّفاحة المحرّمة، كل الأدلّة تشير إلى براءة حواء، من تهمة إغراء آدم ليذوق التفّاحة، لكن لا لا بدّ له من كبش ضحيّة يلومه على حماقته الكبرى. وإذا سهُل عليه لوم حواء في هذا الموقف المصيري، كيف يصعب عليه إيجاد تهمة أخرى؟
كأنّه لا يكفي المرأة أن تقف الطبيعة ضدها، لتحكم عليها بفقدان السّيطرة على جسدها، الذي جعلته حصرًا الوسيلة الوحيدة لتكاثر البشر. فيُصبح ساحة معركة لا تنتهي، فهو أيضًا متّهم بالإغراء، عبر الرّغبة الأكثر خطورة، وهي الجنس الذي لا تعود منافعه ومضاره على المعنيين، بل تصل إلى أشخاص آخرين يأتون إلى الحياة نتيجة الإغراء واللقاء اللاحق، في رغبة مثلها مثل باقي الرغبات تأتي في مسارات مختلفة. لكن المذنب في هذه الخطيئة، وهي إحضار مخلوق آخر إلى الحياة، بلا دعوة، هي المرأة. فكيف لا تحمل المرأة تهمة الشّعر كأنّها دورة شهرية تخلقها هرمونات أستروجين فائضة، أو تدفّقٌ دموي، أو انفجار مشيمة، وهي أشياء لا يمرّ منها الرجل الشاعر، النقيّ من شوائب الأنوثة، والمعفي من قالب التّقسيم الجندري في الأدب.
لكن هذا الوضع تقبله بعض الشّاعرات اللّاتي خضعن للغة الذّكورية، فيُخاطبنَ بصيغةِ المجهول لأنّه الأكثر غلبة في الأدب، والأسهل، لأنه أكثر سلاسة للقارئ، ولهن، رغم أنه غير دقيق وغير منصف، في اللغة العربية التي تؤنّث الفعل أكثر من لغاتٍ أخرى لا تجد فيها الكاتبات أنفسهن في هذا المأزق. ويكرّرن بعض المقولات من دون مراجعتها، غافلات عما قد يمسّ بهنّ في العمق.
الحديث عن شعر نسائي، وآخر رجالي، غالبًا ما يكون موجّهًا للانتقاص من نصّ المرأة. فيما يحضر بشكل آلي أحيانًا عند بعض النقاد، لاستسهال التقسيم بالجنس والعمر مثلًا، كسلًا أو عجزًا عن إيجاد مشتركات أخرى.
لكن لماذا وُضعنا معًا فقط لأننا نساء؟ هنالك أشياء مشتركة لنا معًا مع شعراء آخرين أكثر مما بيننا. الشعر أكبر والكلمة أوسع من التصنيفات والتقسيمات. ولطالما حكت الجدّات حكاياتهنّ لنا من منطلق صفاتهن، كجدّات توارثن هذه المهمة الأنثوية. لأنّ المجتمع منح المرأة مهمة الكلام الترفيهي، ولأنّ الكلام العملي محصور بمجال الرجل. وهذا ظلم لكل منهما، للمرأة والرجل. كل منهما يمكن أن يعبّر عن نفسه من دون قوالب سابقة.
حتى في الشعر تقفز القوالب لتسبق الشّاعرة إلى النص، لكن الشّاعرة الواعية التي يعلّمها الشّعر أن تنظر بعين مختلفة أكثر حساسية وفرادة عن كلّ ما حولها، لن تقع في هذا الفخ. فالشّعر يلغي ما يسبقه، ويخلق رؤى جديدة لعين كلّ شاعرة وشاعر.

مناهل السّهوي:
هنالك تمييز ضد المرأة أينما وُجدت


حين نريد التفريق بين شعر المرأة وشعر الرجل فلا يكفي أن نقول تجربتهما مختلفة، بل يجب النظر إلى تاريخ كتابة الشعر، هل تركت لنا جداتنا الشاعرات ما يكفي لنفهم موقعنا كنساء في خريطة الشعر، وهل أصلًا سُمِح بوجود ما يكفي من الشاعرات في ماضينا؟ لا يمكن إنكار الاختلاف عندما نتكلم عن تجارب قاسية للنساء خلال طفولتهن ومراهقتهن ونشأتهن. من يرفض الاعتراف بأن تجارب النساء ككل أكثر صعوبة من تلك الخاصة بالرجال، فهو لا يعرف للآن معنى أن يكون الإنسان امرأة في العالم العربي، ويريد تسطيح المشكلة، أو عدم الاعتراف بها لأسباب لن أغوص فيها هنا. ومن هنا يأتي جوهر الاختلاف في رأيي. اختلاف التجربة وتطرّفها في بعض الأماكن يفضي إلى نوع جديد من الشعر، الذي تلزمه أدوات وصور وموضوعات جديدة، وهذا ما نجحت فيه كثير من الشاعرات.
إن عدم الثقة التي نجدها في كثير من المؤسسات الخاصة والعامة، عند حصول امرأة على مركز قيادي، ومحاولة الاستخفاف بقراراتها التي يعتقد المنظرون أنها صادرة عن تبدل حاد في الهرمونات، هو الأمر ذاته الذي تتعرض له الشاعرات حين ينشرن كتبهن وينجحن، أو يصبحن معروفات. دائمًا هنالك شك في إنتاج المرأة. أعتقد أن هذا هو الفرق في كيفية النظر إلى ما تكتبه النساء، وبين ما يكتبه الرجال.
وضع الشاعرة اليوم كامرأة لا يختلف عن وضعها كموظفة، أو عاملة، في أي مهنة أخرى. لنكنْ واضحين، التمييز موجود أينما وجدت المرأة، ولا يعني التمييز الانحياز ضدها بشكل سلبي، لكن أيضًا الانحياز لها بشكل سلبي أيضًا، وهذا يعني تقديرها بشكل مبالغ فيه فقط لأنها امرأة، أو كتبت في موضوعات جريئة، وكسرت تابوهات من دون النظر إن كانت تملك موهبة حقيقية.
لطالما تساءلت لماذا لا نكتب كثيرًا عن جسد الرجل ولا نتغزل به، وأعتقد أن هنالك أسبابًا جلية، أولًا نحن نكتب عن جسد الآخر حين نمتلك أجسادنا، هل امتلكت المرأة جسدها يومًا؟ بالطبع لا، ولا أتحدث عن تجارب فردية إنما عن سياق تاريخي واجتماعي طويل، أعتقد أن الشاعرات اليوم في مرحلة كتابة أجسادهن وامتلاكها، وحين ينتهين من ذلك أنا متأكدة أنهن سيكتبن كثيرًا عن أجساد الرجال.
على العكس من النساء، شعر الرجال عبر التاريخ بسلطة أجسادهم وقوتهم وأفضليتهم على الجنس الآخر، لذلك كان امتلاك أجساد النساء في الكتابة جزءًا من امتلاكها في الواقع، ونتيجة طبيعية لعلاقتهم مع أجسادهم.
وهذا يوصلنا إلى السؤال الأساسي: هل كتبت النساء ما يكفي من الشعر؟ هل كتبت أنا، أو غيري من الشاعرات، ما يكفي من الشعر؟ أعتقد إلى الآن أن الجواب هو لا، وهذا ليس عيبًا. ما زال لدينا كثير من الوقت.
بشكل شخصي، كتبت القليل جدًا عن جسد الرجل، وإلى الآن لم يكن موضوعًا أساسيًا في قصائدي، ولكني متأكدة أنه وفي الوقت المناسب قد أكتب عنه.
المطلوب حتى يُنظر إلى القصائد التي تكتبها النساء على أنها قصائد فحسب هو الأمر ذاته حين نطلب أن يتم التعامل مع النساء كبشر، وأنهن مساويات للرجال، لا جنسًا أقل مرتبة. لا يزال يُنظر إلى قصائدنا كأمر مستهجن، ويُكتب عنها بطريقة استكشافية كما كان يفعل المستوطنون حين يكتشفون جزرًا جديدة وشعوبًا أصلية، أو كمخلوقات قادمة من الفضاء، رغم أن فعل الاستكشاف في حينه كان يعني تقديرًا، لكن في العمق كان يُنظر إلى الشعوب الأصلية بازدراء فقط لأنهم لا يشبهون العالم المتحضر، وكان التعامل معهم ينبع من رغبة في إجبارهم على أن يصبحوا مشابهين لهؤلاء المستكشفين. في العمق، أعتقد أن أمرًا مشابهًا يحصل مع الشاعرات، هنالك فضول تجاههن أكثر من تقدير ورغبة حقيقية في الغوص في تجاربهن الناجحة والقاسية والملهمة، هذا ما أجده في معظم ما ينشر عن شعر النساء.
المطلوب في هذه الحالة أن تستمر الشاعرات بالكتابة، ومحاولة عدم التأثر بالآراء، أما في ما يخص النقاد والقراء، فيجب أن يصدقوا أنهم يقرأون قصيدة لبشري مثلهم، وأنهم لا يستكشفون جزيرة يريدون إخضاع قبائلها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.