}

عن سينما التركي نوري جيلان: أفلام بمذاقات روائية

حسين بن حمزة 17 فبراير 2024
سينما عن سينما التركي نوري جيلان: أفلام بمذاقات روائية
لقطة من فيلم "عن الأعشاب الجافة"
في فيلمه الجديد "عن الأعشاب الجافة"، يكاد لا يتغير شيء بالنسبة لشخصيات المخرج التركي نوري بيلج جيلان، ففي عدد من أفلامه السابقة أيضًا تكون هذه الشخصيات عالقة في مكان ما، في مشكلة ما، وتبدو حائرة بين ما هو مُقدّر ومتاح، وبين ما مُشتهى ومأمول. إنها عالقة في لحظات مصيرية، حيث الخيارات قليلة، وحيث القدرة على الاختيار نفسه مصحوبة بصعوبات معقدة.

يبدأ الفيلم بمشهد صامت وطويل يدوم دقيقتين ونصف الدقيقة، ونرى فيه "صمد" معلم المدرسة ينزل من حافلة، ويبدأ بالسير وسط ثلج يغطي كل شيء في اتجاه القرية الصغيرة التي يُعلّم فيها. المشاهد سيعرف أنه عائد بعد انتهاء عطلة النصف الأول من العام الدراسي، حيث ينضم صمد إلى بقية زملائه في غرفة المعلمين الذين يشاركون أهل القرية المناخ القاسي، ويتعرفون عن كثب على معاناة هؤلاء من الفقر والبؤس في مكان ناءٍ وشبه منسي. صمد يسمي المكان "مكب القمامة" في حواراته في الفيلم، ولديه رغبة مستمرة بالمغادرة. سنعرف لاحقًا أن المكان هو تفصيل صغير من المنطقة الشرقية المعروفة بقسوة مناخها ونُدرة الخيارات فيها، وأنه أشبه بالنفي الاضطراري لكثير من المعلمين الذي يُجبرون تقريبًا بعد تخرّجهم على بدء مسيرتهم المهنية من هناك. وهذا التفصيل يحضر أيضًا في سياق فيلم آخر لجيلان، وهو "شجرة الكمثرى البرية" (2018)، حيث البطل الشاب "سنان" يُنهي دراسته ولا يجد عملًا، ويعيش تحت تهديد فكرة أن يذهب للتدريس في المنطقة الشرقية، المكان القاسي والنائي الذي ذهب إليه والده في بداية مهنته كمعلم، قبل أن يعود ويستقر في بلدته في شمال غرب تركيا.
بطريقة ما، يشعر المشاهد أن هنالك أجزاءً من شغل وموضوعات جيلان يتم ترحيلها من فيلم إلى آخر، إما من خلال تكرارها والتأكيد عليها، أو من خلال توسيعها ودسّها في سياق آخر مناسب للشخصية، أو لأحداث الفيلم.
بالطريقة ذاتها، فإن المشهد الافتتاحي للثلج في "عن الأعشاب البرية"، والثلج الذي سيحضر في كامل مدة الفيلم تقريبًا، سيُذكّرنا بالبيئة المماثلة والقاسية التي احتضنت شخصيات نوري جيلان في فيلمه "السبات الشتوي" (2014) الحائز على السعفة الذهبية لمهرجان كان، وكان بطله "آيدن" وأخته وزوجته يعيشون أوضاعًا مصيرية مشابهة، وتتنازعهم حزازات مواربة، وسوء فهم متبادل، وسط خيارات صعبة بين الاستسلام للواقع وبين البحث عن طرق للخلاص من هذا الواقع، أو على الأقل للتخفيف من ثقله وعبثيته. ورغم أن الشخصيات في فيلم "السبات الشتوي" تعيش في ظروف أفضل، حيث البطل يُدير فندقًا، وينتمي إلى طبقة ميسورة ماديًا، إلا أن الشخصيات في الفيلمين عندها رغبة وتوق في الخروج من أسر المكان، أو الظروف الذاتية، والحلم بأمكنة أفضل وظروف أقل تعقيدًا وصعوبة.




نتذكر هنا تفصيلًا آخر يجمع بين الشاب "سنان" في "شجرة الكمثرى البرية"، و"آيدن" في "السبات الشتوي"، حيث الثاني ممثل سابق وكاتب ينشر مقالات في صحيفة محلية، والأول كاتب في بداياته، ويحلم بنشر كتابه الأول الذي سيحمل العنوان نفسه الذي للفيلم.
التكرار والدوران حول الموضوعات نفسها يتحول في سينما جيلان إلى جزء من أسلوبيته وفنه الشخصي. يتأكد لنا ذلك حين نعرف أنه غالبًا ما يكتب سيناريوهات أفلامه أيضًا. إنها سينما المؤلف، ولكن مع فارق أن الأفلام لا تختصر نفسها في سيرة ذاتية أو ما يُشابهها من تمثّلات. ما نعنيه هنا أن ثمة بصمة تأليفية تطغى حتى على أسلوب الإخراج وعلى أداء الممثلين وعلى مصائرهم وخياراتهم. وهكذا يمكننا بسهولة أن نضع "صمد" بطل فيلم "عن الأعشاب البرية"، و"سنان" بطل فيلم "شجرة الكمثرى البرية"، في سياق واحد ومتماثل تقريبًا. الاثنان عالقان داخل حياة تتراوح في المكان نفسه، ويسعيان إلى الخلاص منها. الأول بالرغبة في الذهاب إلى اسطنبول والتعليم في مدارسها، والثاني بالرغبة في نشر روايته الأولى، وصراعه مع أبيه المديون الذي يبذر راتبه في مراهنات سباق الخيول. ويمكن لشخصيات مثل أخت البطل وزوجته في "السبات الشتوي" أن تنضما إلى الفكرة ذاتها، حيث الأخت المطلقة تعاني من سلطة أخيها وضآلة مساحتها في البيت، وحيث الزوجة تعيش صراعًا مع السلطة نفسها، وتحاول التنفس خارج هواء الحياة الزوجية، وتنفيذ مشروع فردي يخصها من دون أن تنجح في ذلك.
ما يجمع كل ذلك هو الحوارات التي يُؤلفها جيلان ببراعة، ويُديرها بطريقة جذابة. إنه بارع في جعل الحوارات، وبعضها طويل فعلًا، جزءًا من عالمه السينمائي. ولعلّ طول الحوارات هو أحد أسباب طول أعماله، والأفلام الثلاثة التي نتحدث عنها يستغرق كل واحد منها ثلاث ساعات. بعضهم يسوق ذلك كملاحظة سلبية على أفلامه، ولكن هذه الملاحظات تفقد قيمتها ووجاهتها في سياق إخلاص المخرج لفكرته ومزاجه وأسلوبه. بطريقة ما نشعر مرات أن الحوارات هي التي تقود حركة وتحولات الفيلم، وليس الأحداث، بل إن الحوارات تقوم أحيانًا بتلخيص الأحداث، أو تأريخها، أو تأزيمها، خصوصًا أن هذه الحوارات لها طابع فلسفي أحيانًا، أو تحمل إيحاءات ذكية للصراعات الموجودة في الفيلم. أحيانًا يبدو الأمر وكأننا نقرأ رواية، ونشعر أن ثمة كتابة، مواربة ومرئية، في طيات المشاهد التي نراها، وأن الكتابة تتفوق بطريقة ما على الحصيلة البصرية والسينمائية التي تنتج عنها. لا نعني هنا فقط الكثافة التعبيرية الهائلة في الجزئيات والتفاصيل في أمكنة التصوير، ولا الإضاءة وزاوية الكاميرا، ولا الأمكنة والأوقات التي يتم فيها تصوير كل ذلك، ولا كل التقنيات التي ترافق أي فيلم، بل نعني أن ثمة طبقة روائية وسردية تتحرك تحت المشهدية البصرية والسينمائية وخلفها وعلى حوافها، وأن ذلك يُعزّر المذاق الروائي لما نراه. هنالك نفوذٌ كتابي ونصي واضح في أفلام جيلان، وهو ما يجعل كل شيء تقريبًا في الفيلم يعود إليه، إلى توقيعه وبصمته ورؤيته.
كل ذلك يجعل أفلام جيلان مسجلة باسمه. إنه يعمل لدى نفسه. إنه ليس مخرجًا ينفذ نصًا موجودًا سلفًا، أو سيناريو جاهزًا. الإخراج بحسب نوري جيلان هو جزء من عمل سينمائي يتولى هو فقط إنجازه كله. وهذا يعني أنه يكتب ويتدخّل في كل شيء، بحيث يمكننا في النهاية أن نقول: إنه روائي يعمل في السينما!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.