}

حسين ماضي: رحيل "الابن الرهيب" للمحترف اللبناني

حسين بن حمزة 24 يناير 2024


حين قرأتُ خبر رحيل الرسام والنحات اللبناني حسين ماضي، تناهت إليّ تفاصيل لا تزال تعني لي الكثير من لقائي الأول به. كنت في بيروت، وكان أغلب شغلي في الصحافة الثقافية يتعلق بالكتابة النقدية عن الشعر والأدب عمومًا. لا أتذكر بالضبط كيف بدأت بالكتابة عن معارض الفن التشكيلي، وكيف أصبحت تلك الممارسة جزءًا أساسيًا من عملي كمحرر وناقد في آخر صحيفة كنت أعمل فيها. بالنسبة لي، كنت أجده شيئًا ضروريًا أن يُنزّه الكاتب والصحافي لغته وأسلوبه في ملعب آخر، وأن يعرّضهما لشمس أخرى وهواء مختلف، كي لا يفقد لياقة نبرته وحيوية معجمه. لهذه الأسباب، كانت لي قبل الفن التشكيلي تجربة معقولة في تغطية العروض المسرحية وعروض الرقص المعاصر أيضًا.

أسوقُ هذا التقديم الطويل نسبيًا، لا لكي أتحدث عن نفسي، بل لأن ما ذكرتُه كان شيئًا انتبه إليه حسين ماضي نفسه، وأخبرني به في لقائنا الثاني، فقد أشار بطريقة ما إلى أنه ما كان سيوافق على لقائنا الأول إلا لأنه وجد شيئًا جديًا ونَفَسًا مختلفًا في المقالات التي كنت أكتبها. قال ذلك وهو يبرّر تقريبًا الجفاء الذي أظهره لي في البداية، والذي كان هدفه أن أستخدم الحوار الذي سيدور فيه، لكتابة بورتريه عنه وعن فنّه. لم يكن ذلك مجرد إطراءٍ لي بقدر ما كان إشارة إلى أنه يقابل الجِديّة بجِديّة مثلها. الجدية التي طبعت كل شغله، والإتقان الذي سعى إليه في أعماله. وفي الوقت ذاته، كانت إشارة أراد فيها – في الحقيقة – أن يُعيد فيها تعريف نفسه، ويُظهر بطريقة مواربة، ولكن واضحة، ذاك "الغرور" والتعالي والنفور الذي شاع عنه. وقد كان ذلك حقيقيًا وليس مجرد شائعة أو نميمة، إذْ لا أزال أتذكر حين حصلتُ هاتفيًا على موافقته على اللقاء، أن زملاء لي استغربوا ذلك، وطلبوا مني الاستعداد لجولة متعبة مع "رهبة" شخصيته ومزاجه الصعب وطبعه الحاد.

لا أزال أتذكر أن حسين ماضي تكلم كثيرًا عن الله والطبيعة في ذاك اللقاء. كان ذلك أشبه بتذكير ملحّ بأن الله والطبيعة هما مرجعان أساسيان لفنٍّ شخصي سعى صاحبه باستمرار إلى الاقتراب من الكمال والإعجاز. أتذكر أنه بدلًا من استعادة مقولات لفنانين ونقاد، راح يكرر آياتٍ محددة من القرآن وأقوالًا للإمام علي، ويُشير إلى الفعل الخفي للطبيعة. كان ماضي يقرّب ممارسته التشكيلية من الكمال المتحصِّل من حكمة الله وإبداع الطبيعة. لقد آمن هذا المعلم اللبناني منذ بداياته بأن العمل الفني لا يكون جميلًا ما لم يكن صحيحًا. الجمال هنا هو خلاصة وترجمة للتمكّن الضروري من الأصول والقواعد. بالنسبة إليه، أن يتعلم الفنان من الطبيعة يعني أن يتعلم من الصانع الأكبر. هكذا، يصبح الكمال الإلهي محرّضًا على الوصول إلى كمالٍ فني، ويصبح الرسام تلميذًا للكون.

تتكرر في أغلب أعمال حسين ماضي معادلات القوس والوتر من خلال تجاور الخطوط المنحنية مع الخطوط المستقيمة والعمودية


بذكره للخالق والطبيعة، كان حسين ماضي يُخصص اعترافه بمرجعيتين غير بشريتين، وكان بالتالي يتجنب الاعتراف بأي مرجعية أخرى. كأنه كان يقول إن فنه جاء من هناك، من قراءته للطبيعة ومن إيمانه بالخالق الذي خلقنا "في أحسن تقويم". هذه الآية كانت بالنسبة إليه قاعدة فنية في الرسم وفي النحت. كان غريبًا وغير دارج أن يصرّ ماضي على الوضوح وعلى البنية الصحيحة وعلى التشريح المنطقي في بناء وإنجاز العمل الفني، أكثر من إصراره على المخيلة والموهبة والتجديد. الأصول أولًا، ثم تأتي المتطلبات الأخرى للفن. والأرجح أننا حين نقارن ما يقوله مع لوحاته، لا نجد سوى المتطلبات الأخرى تقريبًا. الأصول موجودة ولكنها ذائبة ومدسوسة في روح اللوحة. هناك مذاقات تكعيبية في شغله، وهناك تجريد هندسي، وهناك غرافيك أيضًا. هناك لعبٌ بالأشكال والأجساد، ولكنه لعبٌ قائم على الاتقان وعلى المنطق وعلى انضباطية صارمة. لا نجد غنائية مائعة ولا بهرجة لونية مجانية في أعمال حسين ماضي. الغناء موجود، ولكن بجرعات تجعله حياديًا وقاسيًا أحيانًا. الألوان موجودة ومتداخلة بكثرة، ولكن بدرجات وخطوط محسوبة بدقة. وهذا ما يذكرنا بممارسة أخرى أساسية في شغله. وهي اعتماده على الخطوط في إنجاز لوحاته ومنحوتاته. أعماله ليست حصيلة رشق ألوان على سطح اللوحة، واللعب بمساحاتها وسماكتها، بل هي حصيلة تجاور الخطوط والمنحنيات وتقاطعها. إنه شكلاني وتصويري أكثر من كونه ملوّنًا. كأن التلوين يأتي لاحقًا كي يأخذ مكانه في جسد امرأة أو حركة حيوان أو في كولاج بصري.

في أغلب أعماله كانت هناك تلك المعادلات الخفية والصريحة التي تتكرر فيها معادلات القوس والوتر من خلال تجاور الخطوط المنحنية مع الخطوط المستقيمة والعمودية. تجلّى ذلك في أجساد النساء المتكررة بكثرة في شغله، حيث نراهنّ حاضراتٍ بأقل ما يمكن من الخطوط، وبأكثر ما يمكن من الشبق والحميمية. نرى ذلك أيضًا في منحوتاته المعدنية المنجزة بالطريقة ذاتها، وفي كولاجاته التي كان يُنجزها بالمقص وليس بالرسم. في كل ذلك، كان ماضي مشغولًا برسم الحركة الخفية المدسوسة داخل التشريح الجسدي لنسائه، أو مقتفيًا الخط التصاعدي لتحليق طيوره في الفضاء، أو الوثبة المتوقعة لثيرانه في مواجهة مصارعٍ غائب.

نتذكر كل ذلك، ونتأكد مجددًا أن حسين ماضي كان معلمًا كبيرًا، وأنه كان معلمًا عند نفسه أولًا. كان ينافس نفسه. يُجاري لوحته ومنحوتته. فكرة الإعجاز والتفرد والخلود شغلته شخصيًا وشغلت فنه كله. لقد جعله ذلك، رغم الدراسة والمؤثرات، تجربة شبه عصامية يخلق فيها الفنان نفسه بنفسه، ولم يكن هذا الخلق يخلو من اللعب والتجريب أيضًا. كان حسن ماضي هو لوحته تقريبًا، ومنحوتته تقريبًا. كان اسمه مساويًا لعمله وفنه.

رحيل حسين ماضي هو غياب لأحد الأسماء الأخيرة في جيله، وأحد الأسماء النادرة التي قدمت مساهمة فريدة في المحترف اللبناني، بل يمكن القول إنه "الابن الرهيب" لهذا المحترف. ابنٌ ومعلّم في آن واحد.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.