}

أيّ قصيدة ممكنة في الحرب؟

حسين بن حمزة 31 يناير 2024
يوميات أيّ قصيدة ممكنة في الحرب؟
(Getty, Gaza)

تستيقظ كل يوم، وتجده على الطاولة بانتظارك. إنه العجز نفسه الذي اجتاحك منذ اليوم الأول للحرب. العجز وهو يكبر وينمو كل يوم، يتواصل ويتسع مثل المقابر الجماعية التي تراها على الشاشات. مثل الجثامين والأشلاء التي لا تحظى سوى بلحظات وداع سريعة، قبل أن تُخلي المشهد لمقابر جديدة، وشهداء جدد، حيث المعزوّن والمشيّعون أنفسهم مرشحون للقتل التالي والمجزرة القادمة، وحيث لا أحد بخير ولا مكان آمن.

أنت أيضًا جزءٌ من المشهد. أنت بعيد. أنت في مكان آمن، ولكنك لست بخير. لست مثلهم، ولكنك رغم ذلك لست بخير. وها أنت تجد نفسك عاجزًا، وتجد عجزك صباحًا على الطاولة بانتظارك. ليس على الطاولة فقط بل في كل مكان. في الغرف، في المطبخ، على الشرفة، وحيثما تنقّلت وذهبت. هناك دم يسيل حولك، يغطي يومياتك، يحوّل أيامك إلى تعداد مماثل لتعداد أيام الحرب. لقد تجاوزت الحرب المائة يوم، وعجزك كذلك. الحرب والعجز سيكونان دومًا في العمر نفسه.

هل تستطيع كتابة قصيدة عن الحرب؟ هل يمكنك أن تنجح في كتابة شيء بحجم القتل والدمار الذي يحدث؟ ولماذا ينبغي أن تفعل ذلك؟ ما الذي ستفعله قصيدتك؟ هل يمكنها أن توقف أي شيء أصلًا؟

تتذكر أشياء من هذا القبيل قيلت عن الكتابة أثناء الأحداث الكبرى والساخنة، وعن قدرة الكتابة على مجاراة ما يحدث، أو على وصف ما يحدث وتحويله إلى استعارات وصور ونصوص. أنت عاجز. تتذكر ما قيل سابقًا حول العجز عن الكتابة، أو حول صعوبة الكتابة عن أحداث لا تزال ساخنة، جارية، مستمرة. وعن ضرورة أن يبرد الحدث كي تصبح الكتابة ممكنة. جيدة أولًا وممكنة ثانيًا.

"تعالوا انظروا الدم في الشوارع"... كتب بابلو نيرودا ذات يوم. تُردّد الجملة بينك وبين نفسك. تجدها قوية ومناسبة وهادرة، ولكنها أقل مما تراه الآن، والدم الذي يسيل فيها أقل بكثير من الدم الذي يسيل اليوم. ربما لأنها مكتوبة في الماضي، تقول لنفسك. نعم كُتبت مباشرة عن حدث مباشر، ولكن حدوث الحدث وحدوث الكتابة في زمن سابق، يجعلان الأمر أهون، ويصنعان نوعًا من الإعجاب بقصيدة نيرودا، وهو إعجابٌ لا يزال مستمرًا. نيرودا نفسه كان شاعرًا ملتزمًا، وبالتالي لم تكن قصيدته غريبة عن ممارساته الشعرية كلها. تقول ذلك، وكأنك تبرر عجزك أو تجد له حجّةً ما. لستَ شاعر قضية ولا شاعر أحداث كبرى ومصيرية. لستَ شاعرًا ذا نبرة عالية أصلًا. يمكنك أن تكتب مقالًا. أن تخرج في تظاهرة. أما أن تكتب قصيدة عما يجري. قصيدة... وجيدة أيضًا، فهذا هو العجز بعينه.

تتذكر نداء الشاعر ممدوح عدوان في زمن الانتفاضة الأولى: "أيها الشعراء... أكتبوا شعرًا رديئًا"!. كان ذاك النداء دعوة إلى تهميش الجودة، وإلى الكتابة كيفما اتفق، طالما أن الموضوع هو الانتفاضة. تتذكر أن الدعوة كانت ممزوجة بنوع من الزهوّ لا ينسجم اليوم مع ما يحدث، ولا يسعفك في تجاوز عجزك. لست حياديًا، ولكنك عاجز عن الكتابة، وأكثر عجزًا من أن تقتاد ما يمكن أن تكتبه إلى ساحة الحرب، حيث الأحياء مدمرة، والناس قتلى أو جرحى أو مهجّرة.

تتناهى إليك مقولة برتولد بريخت: "لن يقولوا كانت أزمنة سيئة، بل سيُقال لماذا سكت الشعراء؟"، وبدل أن يحمّسك هذا على الكتابة، تروح تتكوّر أكثر على عجزك وقلة حيلتك، وتسكت!

في الأزمنة التي لا حروب ولا مجازر ولا دمار فيها، يسهل التقليل من مصطلح "الالتزام"، ويسهل الدفاع عن حرية الشاعر وعن مزاج الشاعر، ويسهل التذرّع بضرورة أن تكون القصيدة شعرًا أولا وأخيرًا. ولكن الآن في زمن الحرب والقتل، حيث كل شيء ساخن ومدمّى ومرعب، وحيث المدنيّون يُقتلون بالمئات يوميًا، يتحوّل كل ذلك إلى نوع من الخجل، من العار، من العجز. يصبح الفنّ الصافي ترفًا، وتصبح القصيدة أقل أثرًا من أية قطرة دم مسفوكة.

الأسماء التي يكتبها الأهالي على أيدي وأجساد الأطفال، لكي يسهل التعرف على هوياتهم حين يتحولون إلى أشلاء أو حين يُدفنون تحت الأنقاض، تصبح أبلغَ من أي كلمة مكتوبة. نعم. تلك الأسماء هي الكتابة الأكثر بلاغة اليوم، تقول لنفسك. ولعلّها قصيدتك التي تعجزُ عن كتابتها أيضًا.

أنا عاجز.

يمكنك أن تقولها بصوت مسموع، ثم تمدّ ذراعك التي كتبتَ عليها اسمك!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.