}

تأملات قارئ متطرّف

حسين بن حمزة 10 يناير 2024
آراء تأملات قارئ متطرّف
عمل بصري للفنان العُماني محمود الزدجالي

 

كثيرًا ما أحكمُ على الكُتّاب وتتكوّن انطباعاتي عنهم وعن جودة أعمالهم ليس من خلال ما يكتبونه، بل من خلال حديثهم عن الكتابة وعن الأدب، من الطريقة التي يُروّجون بها لهذا الأدب، ومن الطريقة التي يقدمون بها أنفسهم كلما سنحت الفرصة، أو حين يفتعلون هم هذه الفرصة إن لم تحدث لوحدها.

أعترفُ بأن هذه الانطباعات تتكفّل أحيانًا بلجم أو تأجيل أي حماسة لقراءة أعمال بعض أولئك الكُتّاب، مع إحساس غريب بالاطمئنان بأني، حين أفعل ذلك، أكاد لا أخسر شيئًا ولا يَفُوتُني شيء مهم أو ضروري. وأحيانًا تضطرني الظروف أن أقرأ شيئًا لهؤلاء، فأتأكد أن انطباعاتي كانت، إلى حد كبير، صحيحة.

لا أفعل ذلك بشكل متعمّد طبعًا، ولكني – كقارئ يعطي الأولوية للكتب أكثر من مؤلفيها – بتُّ أنتبه إلى ما يفعله بعض الكتّاب تجاه مؤلفاتهم، وكيف يضعون أنفسهم وأسماءهم قبل مؤلفاتهم، وكيف يحتفون بما يُنشر عنهم، وكيف يتحسّرون على عدم حصولهم على الجوائز، وكيف يفرحون ويتباهون بأي مديح حتى لو كان فضفاضًا ومجانيًا، بل حتى لو كانت فيه مبالغاتٌ إنشائية تتكرّر في الكثير من المقالات ولا تنطبق على ما يكتبونه. كل هذا صار يخلق لديّ شكوكًا في قيمة ما يكتبونه، وأحيانًا يتولّون هم خلق هذه الشكوك ويُخفضون من تلك القيمة أثناء حديثهم أو كتاباتهم وحواراتهم في الأدب، حيث يصعب العثور على جملة ذكية أو على توصيف ثمين في طريقة وأسلوب تلك الأحاديث والكتابات.

ربما يكون حكمي هذا غير صائب أو غير منصف. هذا وارد طبعًا. وربما تكون انطباعاتي متسرعة أو حصيلة مزاج مُتشدّد في القراءة وفي مراقبة تصرفات الكتاب. وهذا أيضًا وارد. ولكني لا أستطيع تجنّب الايمان بهذه الأحكام والانطباعات، أو أن أُدير لها ظهري ببساطة. إن تأمل ومراقبة ما يُصرّح به الكتاب في حواراتهم مثلًا، أو في تعليقاتهم الأدبية والثقافية، أو في إعلاناتهم عن صدور مؤلفاتهم، أو في تكرار ترويجهم – بطرق وأساليب بائسة ويائسة – لهذه الإصدارات. هذا أيضًا قراءة. إنها تشبه القراءة الحقيقية للكتب، مع فارق أنها قراءة غير ملموسة وغير تقليدية وغالبًا لا يمكن إثباتها لأحد آخر أو إقناعه بها. إنها مسألة شخصية ومزاج فردي لا يصلح تعميمه طبعًا، ولكن الإخلاص الشخصي لهذا المزاج فيه نوع من المتعة التي لا يمكن مقارنتها أبدًا بتلك "المتعة" الآلية المتفق عليها والمتأتية من مشاركة الجمهور العام بنفس الأحكام والانطباعات عن الكتب المقروءة.

كقارئ مُزمن ومتطرّف... أميل إلى تصديق نفسي أثناء قراءة أي نص أدبي، وأفضّل الاحتكام إلى ذائقتي. وهذا يسري بطريقة ما على "قراءة" تصرفات أصحاب النصوص الأدبية. بالنسبة لي ما يفعله الكتاب بجوار نصوصهم ومؤلفاتهم هو كتابة أيضًا. صحيح أنني أسمع وأقرأ انطباعات الآخرين وآراءهم. وصحيح أن ميول الأكثرية لها ضجيج مؤثر، إن لم يكن في تغيير انطباعك، فهو قد يعمل على تشتيته، وزعزعة إيمانك به، إلا أنك في النهاية ينبغي أن تصدّق نفسك أولًا، ويجب أن تحتكم إلى ذائقتك ثانيًا. إن القراءة مسألة شخصية مثلها مثل الكتابة. إنها هوية وذائقة ومزاج. والاحتكام لها، حتى ولو كان يخالف المنطق، أمرٌ منطقي أيضًا. في القراءة عليك أن تكون متطرّفًا، كما هي الحال في تطرّفك في الكتابة أيضًا.

أتذكر أني في سنوات الجامعة، كنت أستعير أحيانًا بعض الروايات من المكتبة الشخصية لأحد الكتّاب المكرّسين. كان يفعل هذا بطيب خاطر ما زلت ممتنًا له، ولكني لا أزال أتذكر أنه أحيانًا كان يضع بخطّ يده هوامش على صفحات الروايات التي قرأها أو خلاصاتٍ في نهايتها. وكان انطباعي الفوري تجاه خلاصاته تلك أنه لم يفهم الرواية جيدًا أو أن شيئًا مهمًا في أسلوب ولغة صاحب الرواية قد فاته.

أسوق هذا المثال من زمن سابق، لأقول إن معرفة آراء الكّتاب وذائقتهم الأدبية باتت مكشوفة ومتاحة أكثر في زمن وسائل التواصل، حيث يُزودنا كثيرٌ من الكتاب والشعراء، ومن دون أن نبذل جهدًا، بأفكارهم ونوعية قراءاتهم والأساليب الدعائية التي يستخدمونها في تقديم أنفسهم، وهو ما يمكّننا، كقرّاء، من أن نكوّن انطباعاتنا عنهم وعن أهمية ما يكتبونه بسهولة ويُسر. القصد مرة أخرى، أن ما يفعله الكُتّاب بجوار نصوصهم نفسها، هو بطريقة ما نوعٌ من الكتابة أو شيء متصلٌ بها، ويمكن الاحتكام إليه كدليل إضافي له وجاهته في تقييم نصوصهم أيضًا.

أحد هذه الدلائل المهمة هو الطريقة التي يتحدث بها الكاتب عن الكتابة. الكاتب الجيد هو من يستطيع أن يتحدث عن الكتابة بشكل جيد أيضًا. بالنسبة لي كقارئ... لطالما كان هذا أحد المعايير الشخصية لجودة الكتابة.

ذات يوم نشرتُ على صفحتي في الفيسبوك عن لقاء لي مع شاعر عربي (كبير) في أحد مقاهي بيروت... أرسل لي الشاعر سعدي يوسف يومها رسالة في الماسنجر: هل قال الشاعر جملة ذكية واحدة طوال لقائك به يا حسين! نعم... هذا السؤال ليس مسألة ثانوية أو نافلة: هل يتكلم الكاتب بذكاء عن الكتابة أم لا؟. وأكثر من ذلك، الكاتب الجيد هو من لا يتكلم كثيرًا، هو من لا يضع نفسه أمام أعماله ولا يكون بصحبتها دائمًا، هو من يُفضّل أن يتوارى تاركًا أعماله وحيدة في مواجهة القارئ. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.