}

ماذا ينقص الخيال العلمي العربي ليصبح مرآة مستقبلية؟

باسم سليمان 2 يونيو 2023
أنتجت الثورة الصناعية التي عاشها الغرب في القرن التاسع عشر تبدّلات جذرية في المجتمع الغربي، على مستويات عدة، سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ودينية. ترافق هذا التغيير بظهور أدبيات تعنى بهذا الواقع الجديد، وخاصة بسبب تفاؤل البشرية بمستقبل أفضل نتيجة التقدّم العلمي والتقني، لكن في الوقت نفسه ظهر التخوّف تدريجيّا من منجزات العلم، وخاصة في تطبيقاته العسكرية والسياسية والبيولوجية. هذه الأدبيات أطلق عليها تسمية: الخيال العلمي.
لم تكن كلمة (علم) عبر صيرورتها التاريخية، كما نعرفها الآن، بارتباطها بحقائق العلوم التجريدية والتطبيقية، سواء الفيزيائية، أو الكيميائية، أو الرياضياتية، أو البيولوجية، وغير ذلك، والتي تشكّلت من الاستقراء والاستنتاج من خلال المناهج النظرية والتجريبية، بل كانت ترتبط، أيضًا، بالأسطورة والسحر والدين؛ وهي معارف بقدر ما هي مؤثّرة في المجتمع، إلّا أنّ موضوعيتها ذاتية تتعلّق بالمؤمن بها، فموضوعيتها ليست مستقلّة، كما الجاذبية الأرضية التي اكتشفها نيوتن، على سبيل المثال، آمنت بها أم لم تؤمن، فهي ستظل حقيقة قائمة! ولربما كانت صرخة غاليليو: بـ"أنّها تدور"، على الرغم من تراجعه عن الحقيقة العلمية بدوران الكرة الأرضية حول الشمس، حفاظًا على حياته، والذي نقض به كون بطليموس، ورأي أرسطو والكنيسة بأنّ الأرض مركز الكون، دليلًا على استقلالية الحقيقة العلمية. إنّ المعرفة العلمية ذاتية الوجود عن مكتشفها والمعتقد بها، فقوانين الكون لا تخضع للأدلجة، والجدول الدوري للعناصر الكيميائية لن ينقص فيه، أو يزيد عليه، صاحب الأيديولوجية الشيوعية، أو الرأسمالية، أو الدينية، شيئًا، أمّا استخدام تلك الحقائق العلمية من قبل البشرية، فهو أمر نسبي، ومع ذلك، لا يغير من ذاتية وجود الحقيقة العلمية الموضوعية شيئًا.
ابتدأنا بهذا الكلام، ما دمنا سنقارب أدب الخيال (العلمي) الذي تمتد جذوره عميقًا في تاريخ الإنسان، فارتباط الخيال بالعلم قديم؛ والعلم هنا، أصناف محايثة لما يضاف إليه، فهناك العلم الناتج عن الأسطورة، والعلم الناتج عن السحر، والعلم الناتج عن الدين، ولم ينفك يومًا هذا الارتباط، حتى نبدي دهشة من ارتباط المتناقضين: العلم والخيال في زمننا الحالي، في هذا المذهب الأدبي الذي ظهرت إرهاصاته في أوروبا مع فرانسيس بيكون صاحب المنهج التجريبي العلمي في متخيله اليوتوبي: "أطلنتس الجديدة"، وأصحاب الرحلات اليوتوبية إلى مدن طوباوية تجد جذورها في مدينة أفلاطون الفاضلة، وكثير من قصص الرحلات إلى عوالم جديدة غريبة، بدءًا من لوقيانوس السميساطي(1)، الذي حطّ رحاله على القمر، وصولًا إلى السندباد الذي ارتاد مناطق مجهولة في العالم القديم. ومع ذلك، لم تكن تلك اليوتوبيات الحديثة في صف العلم البيكوني، نسبة إلى بيكون، بالمعنى الذي يريده هذا المذهب الأدبي، بل كانت من الأدبيات المناهضة للعلم، تخوفًا من نقضه للعقائد الدينية. وعندما نمعن النظر في "رحلات غوليفر" لجوناثان سويفت، نجد أنّه ينتقد الرأسمالية الصاعدة وثورتها الصناعية، وكذلك ماري شيلّي في: "فرانكشتاين والإنسان الأخير"، كانت تحذّر من مغبة التطورات غير المسؤولة للعلم، فالأصول السردية للخيال العلمي لم تكن من المهلّلين للنهضة الحاصلة فيه. وعلى الرغم من ذلك، تعد روايتا ماري شيلّي مبتدأ أدب الكوارث، ومن ثم ألحقتا في ما بعد بالأصول العديدة للخيال العلمي.
إنّ الانتقال إلى المديح المباشر للتطورات والاكتشافات العلمية في القرن التاسع كانت مع إدغار آلان بو(2) في قصيدتيه: "سوناتا إلى العلم"، في عشرينيات القرن التاسع عشر، و"يوريكا" عام 1848، التي تمثل صرخة أرخميدس المشهورة. وبعدها، تتالت قصص وروايات كل من جول فيرن الفرنسي، وهـ. ج، ويلز البريطاني في الصعود إلى القمر وحرب العوالم أوروبيًّا.
في المقلب الآخر من العالم، نمت على يد هوغو غيرنسباك(3) في الولايات المتحدة الأميركية مجلات الخيال العلمي، إلى أن وضِع مصطلح الخيال العلمي عام 1929، وفيه طرح التصنيف الإجناسي لهذه النوعية من السرود. ففي مجلته "قصص مدهشة"، بدأ الاقتصار على القصص ذات الاستقراء والاستنتاج العلمي ومغامرات الفضاء بعيدًا عن الفانتازيات وقصص الرعب والماورائيات وقصص التأمل الصوفي. وفي هذه المجلة، تم صك المصطلح التجنيسي: science fiction، الذي يرمز له اختصارًا (SF)، حيث تمت دعوة الكتّاب إلى إبداع قصص على منوال سرود جول فيرن وهـ. ج، ويلز، وإدغار آلان بو، حيث أصبحت الفكرة العلمية وما ينتج عنها بناء على السؤال التالي: (ماذا لو) وما استتبعه من أسئلة علمية (ماذا قد كان)، و(ماذا سيكون) المحركات الرئيسية لأدب الخيال العلمي والدافعة له إلى حدّ الآن.
استقطبت هذه المجلات رؤساء تحرير عظام، من مثل جون كامبل وابنه، اللذين مدّا السرود الخيالية العلمية بجمهرة من الكتاب، من مثل: إسحاق عظيموف، وهو واضع القوانين الثلاثة التي تحكم عمل الروبوتات، وروبرت هاينلاين مبتكر شخصية المهندس البطل القليل الكلام، والذي يحلّ المشكلات العلمية بهدوء ورباطة جأش، مستخدمًا التفكير المنطقي العلمي، وغيرهما كثير.
استطاعت تلك المجلات أن تؤمّن ساحة للنقاش، وتطوير هذا النوع الأدبي من قبل المتابعين لها، حيث أن كثيرًا من كتّاب الخيال العلمي كانوا من القرّاء لها. ورويدًا رويدًا تسنّمت الولايات المتحدة راية هذا الجنس الأدبي، وتبعتها أوروبا في ذلك.
حرص كل من غيرنسباك، وكامبل، على تواجد ثيمات عدة في سرود الخيال العلمي: المتعة، التنبؤ، التعليم، والتحذير من نتائج العلم غير المنضبط. وتبعهم الكتّاب في ذلك، مستوعبين الأدبيات الرافضة للتغوّل العلمي عبر ديستوبيات سوداوية عن مستقبل الإنسان، لكن في الوقت نفسه أشرعوا الفضاء للسفر والاكتشافات في مجاهل الكون.

ألّفت ماري شيلّي رواية الخيال العلمي "فرانكشتاين والإنسان الأخير" (Getty)

ما نريد قوله إنّ الخيال، وفق ما يضاف إليه، كان متجذرًا في ثقافة الإنسان، ففي رحلة جلجامش إلى جدّه أتونابشتيم بحثًا عن الخلود، تجاوز المألوف من الأرض إلى حدّ الغرابة، حيث مسكن الخالدين، أليست الغرابة، أي نزع المألوف عن الكون، بارتياد مناطق جديدة في أدب الخيال العلمي هي أحد خصائصه، وهناك أخبره أتونابشتيم عن عشبة الخلود. وهذه العشبة تحيل بدورها إلى المعرفة الطبية التي بنى عليها الخيال العلمي الكثير من أدب الكوارث والديستوبيات من خلال تغيير بيولوجية الإنسان عبر الهندسة الوراثية. وفي "أنساب الآلهة" يرى هزيود أنّ الإنسان انحدر من عصر ذهبي (يوتوبيا) أسطوري إلى عصر حديدي (ديستوبيا) نتيجة فساده الأخلاقي المعبّر عنه حاليّا بالفساد الأخلاقي للعلم، الذي سيقود إلى رقابة الأخ الأكبر كما في رواية 1984، ما دامت أنساب الآلهة قد كتبت من قبل هزيود نتيجة معاملة أخيه السيئة له، كما يذكر جان بيير فرنان(4). وعندما يناقش جيمس فريزر(5) السحر بنوعيه التشاكلي/ المحاكاة والاتصالي، نكتشف بأنّ الخيال السحري الذي ملأ "ألف ليلة وليلة"؛ من البساط الطائر، إلى البلورة السحرية، ورحلات السندباد، إلى عوالم غريبة، كان منطق ذلك الزمان. ولربما الذكاء الاصطناعي، الذي نعيش إرهاصاته الآن، قد انطلق من مرآة خالة بياض الثلج التي كانت تجيبها عن سؤالها: من أجمل امرأة في الكون، بأنّ أجمل فتاة في العالم: هي بياض الثلج. أمّا على صعيد الخيال الديني، سواء كان في "رسالة الغفران" للمعرّي، و"الجحيم" لدانتي، حيث تمنحنا الرحلة القدرة على خرق الحواجز الطبيعية إلى ما وراء الطبيعة، وحيث تمثل كل من الجنة والنار مخيالًا يوتوبيًا وديستوبيًا. وحتى الكلمة التي بها خلق الكون نجد لها في الأسطورة جذرًا، فلم تمنح الآلهة الثائرة على الإلهة تعامة السلطة المطلقة لمردوخ إلّا بعد أن امتحنوه، بأن يفني رداءً طرحوه أمامه، ثم يعيده إلى الوجود بمجرد أن يقول كلمته.
نستطيع أن نعد رواية هـ. ج. ويلز "آلة الزمن" الفرع المؤسّس لروايات وقصص الخيال العلمي لارتياد الأزمنة، ماضيها ومستقبلها، مع أنّ ويلز لم يتطرق إلى افتراضات أينشتاين الفيزيائية عن السفر عبر الزمن، فقد سبقتها قصة النائمين السبعة في التراث الإنساني، كطريقة لتجاوز الزمن الحاضر. والنوم كوسيلة للسفر عبر الزمن استخدمت كثيمة أصيلة في الخيال الأسطوري والسحري والديني. وإذا اعتبرنا رواية ماري شيلّي "اليوم الأخير" كأدب كوارث وبائية، أو ديستوبية، عن نهاية البشرية، نجد في المتصور الديني يومًا أخيرًا يحل نتيجة فساد الإنسان الأخلاقي. أمّا روايات عظيموف عن الروبوتات، فنجد في الإلياذة وصفًا شبيهًا لبشر كأنهم آلات.




هذا يعني بأنّ الخيال بخصائصه النبوئية والحدسية والكشفية والتعليمية والمتعية لعب دورًا حاسمًا في معرفة الإنسان، أكانت أسطورية، أو سحرية، أو دينية، وأخيرًا علمية. والإنسان في كل مرحلة كان ينتج خيالًا مضادًا للخيال السابق، ويتهمه بعدم المعقولية، فالفلاسفة اليونانيون عندما ثاروا على الأسطورة الإغريقية أوجدوا منطقًا معقولًا، وفق نظريتهم عن الوجود على سبيل المثال: عالم المُثل لأفلاطون. كذلك رفض الدين الخوارق السحرية، وأقرّ المعجزة الدينية. ولكي نوضّح أكثر، فعندما نقض كوبرنيكوس نظرية مركزية الأرض عارضت الكنيسة ذلك، لكن عالم الفلك يوهان كيبلر كتب قصة فانتازية تأملية استنادًا إلى مركزية الشمس في المجموعة الشمسية، وبالتالي هنالك ليل ونهار على القمر، لكنّه خمّن بأنّه إنْ كان من أناس هناك، فقد تأقلموا مع ليل ونهار القمر الطويلين جدًا، لنا أن نفسر قصة كيبلر، بأنّه رويدًا رويدًا سيتأقلم المجتمع مع نظرية كوبرنيكوس، وهذا ما حدث. إنّ ما قصده كيبلر يكمن في أنّ الحقيقة العلمية مستقلة وجوديًّا، كُشفت أم لم تكتشف، كذلك المعقولية العلمية في الخيال العلمي هي ما تميّزه عن غيره من متخيلات أسطورية وسحرية ودينية. هذه المعقولية المنطقية المدعمة بحقائق العلوم فتحت الباب على مصراعيه للسؤال: (ماذا لو يحدث ذلك؟). وفي الوقت نفسه، شرعنت البحث في النتائج، أكانت سلبية، أم إيجابية، فالخيال العلمي إن صحّ لنا القول، هو تجربة مفترضة مأمونة العواقب يتم بها استشراف مستقبلنا العلمي، أكانت نتائجه كارثية، أو طوباوية، وهذه الصفات للخيال العلمي، بقدر ما تقطع مع غيرها من تخيّلات، تصل ذاتها من جهة أخرى، بالمتخيّل الأسطوري والسحري والديني عبر تأويلها.
هذا التناص بين ثيمات الخيال العلمي ومناقضاته من ثيمات أسطورية وسحرية ودينية، تم استيعابها من قبل الخيال العلمي، بناءً على قاعدة الممكن والمستحيل والمعقول وغير المعقول، فالمنطق العلمي أساسي في هذه السرود الخيالية، وذلك يعود إلى الصدمة الحضارية والعلمية والاكتشافية التي قادت إليها الثورة الصناعية والتقنية في أوروبا في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، حيث أصبح الخيال العلمي رديفًا للمنجزات العلمية، وفي الوقت نفسه محذرًا من تبعاتها. إنّ قراءة خريطة إنتاجات السرود الخيالية العلمية نجدها تتركز في أميركا، وتليها في ذلك أوروبا والاتحاد السوفياتي سابقًا، وشذرات هنا وهناك في بعض الدول. إنّ هذا التمركز الغربي للخيال العلمي ناتج من البيئة العلمية الواضحة للعيان هناك، على عكس غيرها من مناطق العالم كالوطن العربي.
وإذا أردنا أن ننتقل إلى دراسة كشفية استنتاجية لواقع السرود الخيالية العربية، يجب أن نأخذ في الاعتبار البيئة المجتمعية الخاصة لهذه المنطقة، لكي نفهم الأسباب التي تفسر قلّة الإنتاج الأدبي في هذا المخيال العلمي، وعدم انتشاره بين القرّاء، وحتى عزوف النقّاد عنه.
تُعد سرود الخيال العلمي في الوطن العربي نادرة، وقد امتدّت على مدى قرن كامل. ونستطيع أن نذكر بعض السرود المميزة كرواية "القارة المفقودة"، للتونسي الصادق الرزقي، وتوفيق الحكيم في مصر في قصته "سنة المليون"، ونهاد شريف في "قاهر الزمن"، و"الأزمنة المظلمة" لنبيل فاروق، والمغربي عبد السلام البقالي في "الطوفان الأزرق"، والسوري طالب عمران في "العابرون خلف الشمس"، ولينا الكيلاني من سورية، وطيبة أحمد الإبراهيم من الكويت، وهؤلاء منهم من كتب قصة أو رواية واحدة وتوقف بعدها، ومنهم من استمر كنهاد شريف، وطالب عمران، ولينا الكيلاني، على سبيل المثال.
لا تختلف كثيرًا مواضيع السرود لدى هؤلاء الروائيين العرب والقاصين عن مثيلاتها في الغرب، لكنها أشبه بشهب ما إن يظهر في سماء الأدب حتى يختفي، فلقد ظل نتاجهم متفرقًا مغفلًا إلّا على الدوائر الضيقة من المختصين والمتابعين، فلم يشكّلوا حالة قرائية لدى القرّاء العرب. وهذا لا يعود لضعف مستوى تلك السرود أبدًا، بل لموقف تشكّل من عوامل عدة، سياسية ومجتمعية وعلمية واقتصادية. فعلى الصعيد السياسي كان الوطن العربي يخوض غمار الثورات التحررية، وبعد ذلك وقع في براثن ديكتاتوريات جعلت الهمّ السياسي طاغيًا، بحيث أصبح التفكّر بالمستقبل العلمي رفاهية لا يطولها من يصارع للحصول على حق التعبير. أمّا اجتماعيّا، فقد جعلت الأمية وسيطرة العادات البالية والتخلف الاجتماعي من مقول الخيال العلمي كحديث الخرافة. إلى جانب أنّ البيئة العلمية ومختبراتها ومصانعها التي صدمت المجتمع الغربي في القرن التاسع عشر لم توجد أبدًا في مجتمعاتنا، فلم يشاهد العربي صاروخًا يخترق السماء إلى الفضاء الخارجي، ولا مكوكًا فضائيًا يهبط في إحدى القواعد كما في (ناسا)، مضافًا إلى ذلك الهمّ المعاشي، فمن يكون قلقه الأكبر تأمين رغيف الخبز، لن تعنيه الكائنات الخضراء التي تسكن المريخ، أو سيطرة الحواسيب على أدمغة البشر!

نمت على يد هوغو غيرنسباك في أميركا مجلات الخيال العلمي


لا نستطيع القول بأنّ الواقع العربي تغيّر كثيرًا في السنوات العشرين الأولى من الألفية الثالثة، وخاصة من الناحية العلمية، حتى ينتشر لدينا الخيال العلمي، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، أدّى اضمحلال الاستشراف المستقبلي في الخيال العلمي لما سيستجد من تقنية، لو تم مقارنته بما تحقّق على أرض الواقع في الغرب، إلى خسارة أحد مميّزات التخييل العلمي، ألا وهو غرابة الطرح، أسواء في اكتشاف الفضاء، أو علم الجينات والحواسيب، فالتطور المتسارع للاكتشافات العلمية والتقنية، يأكل المتخيّل العلمي، فكيف لدى من لم يتجاوز نتاجه القليل من سرود الخيال العلمي! ومن ناحية أخرى، أمّنت السوشيال ميديا بانوراما مشهدية لكل التقنيات الجديدة، بحيث يأتي القارئ العربي إلى سرود التخييل العلمي، وهو متفوّق عليها في الاستشراف المستقبلي، فما الحلّ أمام هذا الجنس الأدبي القيّم، لكي يكون له موطئ قدم ثابتة في نتاجنا الأدبي.
هنالك فروع عديدة للخيال العلمي نستطيع أن نوجزها بما يلي: قصص المخلوقات الفضائية ـ التاريخ البديل/ الإيكرونيا ـ العوالم البديلة ـ الحياة فوق الكواكب الأخرى ـ مدن الغد ـ تطور تقنيات الاختراق/ Syperpank ـ اليوتوبيا والديستوبيا ـ السفر عبر الزمن ـ نهاية العالم. ونستطيع أن نختصرها إلى قسمين: التاريخ البديل كأن نتصور بأنّ قناة السويس لم تشق، فماذا سيكون تأثير ذلك على المنطقة العربية، أو أن فلسطين لم تحتل من قبل إسرائيل. والقسم الثاني الخيال العلمي البحت؛ والذي نستطيع أن نجمله بكل ما تم ذكره أعلاه من فروع الخيال العلمي ماعدا التاريخ البديل.
قد يكون مجحفًا أن نقول إن الخيال العلمي العربي لا يحتاج إلّا للتاريخ البديل، لأنّه المعقول المنطقي الوحيد في الخيال العلمي الذي من الممكن أن يتجذّر لدينا، فهو الأقرب لواقعنا ومن خلاله من الممكن أن نناقش الكثير من القضايا، والتي تدخل في عالم الخيال العلمي البحت. ولكي نشرح أكثر سنورد إحدى قصص نهاد شريف من مجموعته القصصية "الماسات الزيتونية"، التي أراها، شخصيًا، من أبرز قصص الخيال العلمي التي تناسب واقعنا العربي. تسرد قصة "ابن البرق" حكاية عزمي، طبيب الأمراض الباطنية الطويل القامة والضخم الجثة أيضًا، الذي تصيبه صاعقة، لكنّه ينجو منها، على الرغم من احتراق كل ما حوله. يصبح جسد عزمي مشحونًا بالطاقة الكهربائية التي لا تنضب، ويشرح له صديقه عالم الكهرباء حالته، وفق مقتضيات الخيال العلمي. وهنا لا بد أن يصبح عزمي كفلاش/ FLASH البطل الخارق بسرعته التي تقارب سرعة الضوء، أو يُقاد إلى أحد المخابر كي تجرى عليه البحوث، ويستفاد من حالته الاستثنائية. لكن عزمي يختفي، ولا يعرف مكانه، وفي ما بعد يظهر في إحدى القرى رجل طويل ضخم يشفي الناس بمجرد أن يلمسهم، كأنّه أحد رجال الكرامات الدينية. لا بدّ أنّ هذا الرجل هو طبيب الأمراض الباطنية عزمي. تصنف هذه القصة تحت فرع أدب الخيال الناعم/ التاريخ البديل؛ الذي يهتم بالموضوعات الفلسفية والنفسية والسياسية والاقتصادية، لكنه لا يغفل الناحية العلمية، بل يستخدمها إطارًا ومهمازًا لتبئير الحدث السردي والإحاطة به. وهذا النوع على عكس الخيال العلمي البحت الذي يجعل من الجانب التقني والعلمي جوهر القصة. تكمن أهمية القصة بأنّها تشير إلى عدم تخلّصنا من المخيالات الأسطورية والسحرية والدينية، فما زالت من المعقولات المنطقية في مجتمعاتنا، وهنا لعب نهاد شريف على التناقض، بين مبتدأ القصة ونهايتها، كي يبيّن كيف بإمكان المخيالات الأخرى غير العلمية أن تلعب دورًا في تحريض المنطقية العلمية، فحتى القارئ الذي لا يتبع المنطقية العلمية ستدهشه تلك النهاية، ويجدها لا تتناسب مع مقدماتها، ممّا يؤدي إلى استغرابها، ورفض نهاية عزمي حتى مع قدراته الشفائية الغيبية، فعزمي لو لم يكن طبيبًا بالأساس، لما كان قادرًا على شفاء المرضى.




ولو أجرينا مفاضلة بين هذين النوعين من أدب الخيال العلمي: البحت، أو التاريخ البديل، أيهما أصلح لواقعنا العربي، فماذا سيكون الجواب؟ يشترك الأدب البوليسي في الوطن العربي مع الخيال العلمي بذات النظرة التبخيسية من النقّاد والقرّاء، والسبب في ذلك يعود، لأنّ أكثر كتّاب هذين النوعين يصرّون على استنساخهما كما هما في الغرب، من دون حساب أن البيئة الواقعية لدينا لا تسمح بتجذر ذلك التخييل بعناصره كاملة كما في الغرب. ومن هنا يكمن نجاح السرد البوليسي وسرد الخيال العلمي لدينا في إيجاد النسخة الخاصة بما يتلاءم مع مجتمعاتنا.
وعودة إلى قصة نهاد شريف "ابن البرق"، نجدها أكثر متعة كمخيال علمي من روايته "قاهر الزمن"، مع أنّ الأخيرة على درجة عالية من الفنّية.
هنالك رأي سلبي للروائي نجيب محفوظ بحقّ الخيال العلمي، فقد جاء في مجلة (المجلة) وصفه الخيال العلمي بأنّه أدب يفتقر إلى العمق، وهو خاوٍ، ولا جدوى منه! فهل أخطأ؟ لقد ردّ عليه الروائي عبد السلام البقالي صاحب رواية "الطوفان الأزرق" طالبًا من الأخ الأكبر للروائيين أن ينظر بعين أخرى لهذا الجنس، ولو أنّه قرأ لعظيموف، وبرادبوري، وأورويل، لكان غيّر رأيه. رفضت مارغريت إتوود أن تعد روايتها "حكاية خادمة، 1986"، التي تصوّر عالمًا ديستوبيًا نتج عن حرب إشعاعية أدت إلى قيام مجتمع ديني، تدهور فيه وضع المرأة جدًا؛ خيالًا علميًا. لأنها ترى أنّ الخيال العلمي متعلّق بالسفر في الفضاء والمخلوقات الخضراء! فهل أخطأت إتوود المرشحة ثلاث مرات لجائزة نوبل، والحاصلة على جائزة البوكر عن روايتها المذكورة آنفًا، بالتأكيد لم تخطئ، ولم يخطئ الروائي النوبلي نجيب محفوظ، ولم يخطئ البقالي أيضًا في رده المستأنف على محفوظ!
فما الحلّ؟ لربما يأتينا من السميساطي، فعندما كتب "القصة الحقيقية" عن الصعود إلى القمر، وحرب الكواكب والمخلوقات الفضائية، لم يكن يكتبها إلّا تبيانًا لواقع التزييف التاريخي الذي مارسه المؤرّخون في عصره. وأن ما يكتبه، هو كذب صريح، ومع ذلك يمتع ويثير، ولكنّه ليس واقعًا تاريخيًا، ولا حتى تنبؤيًا، هذا ما أراد قوله في قصته التي تعد إحدى البدايات الأولية للخيال العلمي. وإذا عدنا إلى نجيب محفوظ، وعلى فرض أنّه قد قدمت له رواية خيال علمي عن جفاف النيل وما نتج عن ذلك، هل سيظل بموقفه السلبي من الخيال العلمي؟ بالتأكيد لا. إنّ مشكلة الخيال العلمي العربي بأكثر نتاجاته هي انفصاله عن الواقع العربي ومشاكله، وبالتالي يشبه قصة لوقيانوس السميساطي، لكن من دون التنويه الذي ذُكر في مقدمتها، بأنّها مجرّد كذب من أجل فضح تزييف المؤرّخين.
إنّ الخيال العلمي العربي لن يكون له شأن في سردنا الأدبي، إلّا بمقدار ما يكون مرآة عاكسة للواقع العربي، وفي الوقت نفسه صانعًا لصورته الخاصة التي تتلاءم مع محيطه، وإن اختلفت عن المقاييس الغربية لهذا الخيال العلمي.

هوامش:
1- القصة الحقيقية، لوقيانوس السميساطي، وزارة الثقافة السورية 2019.    
2- دليل كمبريدج للخيال العلمي، إدوار جيمس وفرح مندلسون، المركز القومي للترجمة ـ مصر2013.
3- المرجع في روايات الخيال العلمي تأليف: م. كيث بوكر وآن ماري توماس. المركز القومي للترجمة مصر 2010.
4- أصول الفكر اليوناني، جان بيير فرنان. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر 2008.
5- الغصن الذهبي، جيمس فريزر. هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث 2011.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.