}

"أوبنهايمر" والموت القادم من الذكاء البشري

سميرة المسالمة سميرة المسالمة 8 أغسطس 2023

 

يحيلنا فيلم "أوبنهايمر" (Oppenheimer) للمخرج كريستوفر نولان الذي يعرض حاليًا في دور السينما، إلى ذلك الجدل حول المنظومة القيمية التي ناقشها العلماء قبيل الحرب العالمية الثانية، عند لحظة تحول قاطعة مع أجهزة المختبرات، ومساحات التجربة الخالية، إلى استخدامات عملية للقنبلة الذرية المدمرة، لتكون هي الهلاك والنهاية التي يكتبها الإنسان للآخرين بيده هذه المرة، وكيف يتحد الإنسان مع فكرة الموت، ليصبح هو الموت ذاته. "الآن أنا الموت، أنا المدمر"- هذا ما يعترف به العالم الفيزيائي الأميركي يوليوس روبرت أوبنهايمر، الذي تحول فيما بعد إلى داعية للسلام، بعد أن أنتج ما قتل مئات آلاف من اليابانيين في مدينتي هيروشيما ونغازاكي باختراعه "القيّم" عام 1945، الذي لا يشك أبدًا أنه بقدر ما يكون قاتلًا، كان يعني ولادة الحياة الجديدة لكثير من قطاعات الصناعة المعنية بتفاصيل حضارتنا الحالية.

من جديد تضطلع السينما بدور ريادي واستشرافي في تقديم صورة المستقبل بناء على سيرة من الماضي، بصورته القاتلة، ذلك الوقت الذي رسم خارطة العالم الحديث، ونفى حدود الممكنات التي يمكن أن تعيق العقل البشري عن تقديم المعجزات العلمية، بما تحمله من محسنات للحياة أو كوارث للبشرية، ما يعطي قيمة إضافية تجمع بين النص المكتوب والصورة الناطقة، وما بينهما تتمركز القيمة الأساسية للتقدم العلمي، الذي أتاح لنا هذه التقنيات لنرى بعين الحاضر ما كان في بطن الماضي، وجدلياته، التي لا تزال قابلة للنهوض من جديد أمامنا، لتضعنا أمام مسؤولياتنا حول المخاطر التي تتسارع إليها البشرية بذكائها، الذي قد يهزم أمام منتجاتها في لحظة انفلات غير مدروسة أو غرور غير محدود.

وضعت الولايات المتحدة الأميركية، باستخدامها القنبلة النووية، نهاية للحرب العالمية الثانية، وكانت في الآن ذاته نهاية حتمية للحروب متعددة الأطراف، كما وضعت العالم أمام واقع معاش أو درس عملي لما تعنيه الحرب بالأسلحة الحديثة، حسب ما يقوله "أوبنهايمر" في ظل التطور العلمي بل الوثبة العلمية في بلدان الحلفاء والمحور سابقًا، وعليه يمكن القول إن الهدوء والتروي في التعاطي مع التهديدات النووية الروسية، في موقف الولايات المتحدة الأميركية ومعها الدول الغربية المساندة لأوكرانيا في دفاعها عن نفسها ضد الغزو الروسي، ربما ينطلق من الموعظة التي يمكن فهمها من سيرورة الفيلم، عن حجم الدمار الذي تنتجه حرب ما بعد القنبلة الذرية، دون أن يكون ذلك بعض اعتذار، أو ندم، يطاول العلماء أو السياسيين الذين أقدموا على ما يمكن تسميته جريمة العصر الحديث.

الجدل الأخلاقي الذي شغل علماء اختراع القنبلة بين أن يكونوا أبطال اللحظة في الحرب العالمية الثانية، أو المسؤولين عن كل تلك المأساة التي قتلت نحو 212000 ياباني في هيروشيما ونغازاكي، يعود اليوم ليتجدد مع الثورة الرابعة للتكنولوجيا، إلى أين يذهب الذكاء الصناعي بالعالم؟ حيث تتجدد في كل مرة ينقلنا العلم إلى المستقبل ذات المخاوف حول مخاطر الثورة الجديدة، وكيف يمكن موازنة الفوائد مع ما يمكن أن تسببه من أضرار، فلا شيء في هذا العالم المستحدث "بيور" خالص من الإيجابيات، أو من السلبيات.

وإذا كان الإنسان لا يريد الاعتراف بسلبيات اختراعاته تحت مسمى "خسائر جانبية" كما حال مخترعي القنبلة، الذين اعتبروا أن قتل مئات آلاف دفعة واحدة في الحرب خير من استمرار موت ملايين الناس في حرب قد لا تنتهي هو هدف "نبيل" فإن البشرية تسير نحو تسليم رقابها إلى اختراعاتها من الثورة الجديدة للذكاء الصناعي، وتحديدا عندما يتعلق الأمر بالسؤال الأصعب عن من يتولى مهمة القيادة لهذه المخرجات من الجيل الجديد؟

يحيلنا فيلم "أوبنهايمر" للمخرج كريستوفر نولان الذي يعرض حاليًا في دور السينما، إلى الجدل حول المنظومة القيمية التي ناقشها العلماء قبيل الحرب العالمية الثانية


قد يفيد التذكير أن التجارب البشرية التي طورت حياة الإنسان بددت النظرية القاتلة التي كتبها في أواخر القرن الثامن عشر توماس روبرت مالتوس في كتابه "مقالة حول مبدأ السكان" والتي اعتبر فيها أن وتيرة التكاثر السكاني أسرع من وتيرة ازدياد المحاصيل الزراعية وكميات الغذاء المتوفرة للاستهلاك. وكان رأيه أن البشر يتكاثرون كل 25 سنة وفقًا لمتتالية هندسية (1، 2، 4، 8، 16، 32… إلخ)، بحيث تتضاعف أعداد السكان في العالم بعد كل ربع قرن، في حين أن إنتاج الغذاء، في الكرة الأرضية في المساحات الصالحة للزراعة، وفقًا لمتتالية حسابية (1، 2، 3، 4، 5، 6… إلخ)، ما يعني في المحصلة فجوة كبيرة بين عدد السكان والغذاء المتاح لإطعامهم. والحل كان عنده تحديد النسل، وعدم تقديم إعانات إلى الفقراء، أي قتلهم جوعًا ليمنح فرصة الحياة للمقتدرين على حسابهم.

واجه العلم بتطوره هذه المعضلات والتي بينت خواء مثل "نظرية مالتوس"، مع المخاوف التي انطوت عليها، إذ عدد سكان الكرة الأرضية ازداد ثمانية أضعاف عن عددهم في زمن مالتوس، من مليار إلى ثمانية مليارات نسمة، مع التأكيد أن المجاعات حدثت وتحدث بسبب حوادث بشرية، أي بسبب الحروب والظلم والاستغلال والتخلف والفقر، وليس بسبب قلة إنتاج الغذاء.

أيضًا واجهت الثورة الصناعية، وظهور المكننة، والعمل الآلي، ذات المخاوف من أن تلك الآلات ستحل محل اليد العاملة، وأنها ستؤدي إلى إخراج العمال اليدويين من عالم العمل، وتقذف بهم إلى الفقر والعوز، لذا ظهرت حركات عمالية تدعو الى تدمير الورش وتحطيم الآلات، لإيقاف التطور نحو المكننة الذي جردهم من ملكياتهم ومن وسائل عملهم.

وفي حينه، أي في مطلع القرن التاسع عشر، لم يكن أحد يدافع عن فكرة أن المكننة هي جزء من التطور البشري، وأنها يمكن أن تحرر العمال من العمل الشاق والمضني والطويل، وأنها يمكن أن تفتح فرص عمل جديدة لهم، وأن ما نحتاجه إنما بناء نظام اقتصادي واجتماعي وحقوقي ينصف العمال ويزيد من فرص العمالة.

تجددت تلك المخاوف في عصرنا هذا مع الثورة العلمية التكنولوجية، وحتى مع انفتاح مسارات العولمة الاقتصادية، إذ ثمة من رأى أن التطورات في مجال العلوم والتكنولوجيا التي قامت على التحكم الآلي (الكومبيوترات والروبوتات)، ستؤدي إلى إزاحة ملايين العمال من العمل، وأن مسارات العولمة ستفضي إلى زيادة استغلال الدول الكبرى التي تمتلك وسائل العولمة بالدول الأخرى، إلا أن كل ذلك لم يثبت في التجربة العملية، إذ إن التطورات في مجال الأتمتة أدت إلى فتح مجالات عمل أوسع، استوعبت ملايين العمال الجدد، وأدت العولمة إلى صعود دول، مثل الصين والهند وماليزيا وكوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان... إلخ، وظلت المعيقات، أو محددات الصعود، تتعلق بطبيعة النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تحكم البلاد. في كل هذا ما يعيدنا إلى أن المخاوف ليست من الذكاء الصناعي بكل تنوعاته وإنما من العقل البشري الذي يديره، والذي قد يجعلنا نقف على أطلال البدائية الصناعية نستذكر زمنًا كان ملكًا للبشرية.
 

*كاتبة سورية. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.