وعلى أي حال، لا يجب على المرء، مهما اشتدت كربته، أن يكون قنوطًا، وأن يكون همه، بحجة (فش الخلق) أن يفيض يأسًا على من حوله من الناس، فما بالك بمن يكتب ويقرؤه ويتأثر به، كثيرًا أو قليلًا، الناس. آخر ما يحتاجه الناس، السوريون خاصة، القاطنون القانطون، هو المزيد من اليأس والإحباط. ليس لأنهم شبعوا من مرارته، بل لأنه لديهم ما يكفي منه ويزيد، ولو عاشوا على نهش صدئه للأبد. في محادثة على (مسنجر فيسبوك) بيني وبين عمر قدور، من أصدقاء ما قبل الثورة! بعد خروجه من سورية بسنوات، وصلنا إلى خلاصة مفادها: "التفاؤل واجب أخلاقي". إلا أن شيئًا حدث، ربما شيئًا قلته، أو فعلته، خيبت به ظنه، كما سبق أن خيبت ظن كثيرين، فأنا واحد من الناس الذين يلومون أول ما يلومون أنفسهم، قبل أن يفكروا بلوم أحد سواهم! جعل هذه المحادثة، رغم عدم افتقارها للمودة المعتادة التي أظهرها لي، المحادثة الأخيرة بيني وبينه!

أما عن إمكانية كتابة فكرة كهذه، وأفكار شبيهة أخرى، شعرًا أو قصة أو مسرحية أو حتى مقالة، فهو أمر، كان ولا يزال وسيبقى، من عموميات الأدب! تأتي فكرة ما لشاعر فيكتبها قصيدة، تأتي الفكرة ذاتها لقاص يكتبها قصة، والمسرحي يكتبها مسرحية، وهكذا. عندما رغبت بالعودة إلى واحد من أمتع الكتب التي قرأتها عن قصيدة النثر (مقدمة لقصيدة النثر ـ أنماط ونماذج) تأليف بريان كليمنس، وجيمي دونام، ترجمة الشاعر الراحل محمد عيد إبراهيم صاحب "السندباد الكافر"، لأجل توثيق معلومة ما، قمت بزيارة سريعة لمكتبة الشيخ محمد بن راشد، في دبي، حيث أنا الآن، لقضاء أيام عدة، لأجده يتضمن ما لم أستطع حصر عدده، ربما عشرين، ربما ثلاثين، وذلك بسبب عدم توفر فهرس داخل الكتاب! نمطًا من أنماط قصيدة النثر. أخص بالذكر منها: قصيدة التأمل، وقصيدة الموضوع، وقصيدة السياق، والقصيدة الإنشائية... إلخ. وجميعها تحوم حول، وتتجه صوب، وتقترب من، إلا أنها لا تصل، لا أدري لماذا؟ إلى قصيدة المقالة! رغم وجود أمثلة كثيرة عنها في الشعر العالمي، بمختلف لغات العالم، ومنها، على سبيل المثال لا الحصر، قصيدة أمجد ناصر، الواردة في الكتاب ذاته!

***

تعال إلى سورية... تعال زر قبر أمك

لا جرم عليك أن تقول سورية مقبرة
ليس لأنها في الواقع كذلك
فحسب
بل لأنه لا شيء سيء في كونها مقبرة
وعلى العكس
أهل اللاذقية
أطلقوا على مقبرتهم الجديدة
التي أبعدوها مسافة كيلومترين أو ثلاثة
جنوب شرق مدينتهم الشقية
لتقبع على أرضٍ خضراء يانعة
تقسمها إلى شطرين غير متكافئين
السكة الصدئة لقطار البضائع
المتوقف منذ عقد من السنين
اسم: مقبرة الروضة
أي... مقبرة الجنة!
/
يعود السوري بعد غياب عشر سنوات
إلى مدينته
اللاذقية أو دمشق أو حمص
أو أي مدينة أو بلدة أو قرية نائية في سورية
وأول واجباته
صباح اليوم التالي لوصوله
بعد قضائه ليلة ليلاء لم تغمض بها عيناه
دقيقة واحدة
أن يحمل نفسه ويذهب إلى المقبرة
أمه ماتت خلال غيابه منذ ثلاث سنوات
وعليه الآن أن يزور قبرها
أخبروه أنه من السهل الاستدلال عليه
لأنه بجانب قبر أبيه
القبر الحجري ذي الشاهدتين الكبيرتين
الذي لا يمكنه مهما غاب
ومهما تغيرت أمام عينيه الأماكن والمواقع
أن يضيعه
هناك
سيقرأ الفاتحة على روحيهما معًا.
/
يعود السوري على عجل
اتصلوا به وقالوا له:
"أبوك يحتضر"
يموت الأب في اليوم الثاني لمجيء الابن
ما يحزن هو أنه كان فاقد الوعي
ولم يستطع أن يفتح عينيه ويرى ابنه
وها الابن ومعه أخوه الأصغر
يدفنان أباهما في المقبرة.
/
بعد عمل ثلاثين سنة
في السعودية
عاد (ي. ش) تقريبًا على حمالة
وزع أيامه
بين الجلوس في أحد مقاهي ساحة الشيخ ضاهر
يلقي صنارته في بحر المارة المائج
وعندما تعلق بأحد أصدقائه أو معارفه
يدعوه لتدخين النرجيلة على حسابه
فإن كان لا يدخن
يطلب له كوب شاي أسود محلّى
وبين مراجعة مشفى تشرين الجامعي
قسم أمراض الكلية
ليخرجوا الماء الذي يتجمع في بطنه
ويجعله يبدو كامرأة عجوز حامل في شهرها التاسع
إلّا أن ذلك لم يكن يمنعه من أن يكون
(ي. ش) نفسه
الذي نعرفه منذ أول يوم عرفناه
المقبل على الحياة مهما بلغت رداءة أحواله
من لم يتوقف عن صبغ شعر رأسه وشاربه وحاجبيه
المعتد والمتفاخر بكل شيء يعمله مهما كان رأي الآخرين به
مات بعد ثلاثة أشهر من عودته
جميعنا كنا نعرف إنه عاد ليموت
وليقبر في مقبرة المغربي
مقبرة أهل اللاذقية الأولى
فوق جثمان أخيه محمد.
/
لا أحد محظوظ مثل (م. ج)
بلغ الخامسة والخمسين
وأمه وأبوه تجاوزا كلاهما الثمانين
وهما بصحة جيدة
لا يغيب أكثر من سنتين
على أبعد تقدير
إلا ويجيء من الولايات المتحدة إلى اللاذقية
ليزورهما
فيمضي شهرين أو ثلاثة
يصلح فيها أسنانه
ويروي
أينما جلس
قصصه العجيبة عن نيويورك
التي هاجر إليها بعد أول مرة دخل فيها للقصر العدلي
ليمارس مهنة المحاماة التي كان يحلم أن يعمل بها
وهو في بطن أمه
كما يحلو له أن يقول
قبل ما يقارب الأربعين سنة
ورأى أي العدل يسود في ذلك المكان
هناك أدخل رأسه بين رؤوس أصحاب المحلات السوريين
وافتتح محل ألبسة نسائية في الشارع الخلفي لشارع الميناء
لذا كان يعرفهم واحدًا واحدًا
ولديه عنهم وعن آبائهم وأجدادهم المؤسسين
قصص مضحكة
هو أكثر من يضحك لها
وكأن أحدًا يقصها له لأول مرة
(م. ج)
أينما يذهب وأينما يحط
مصدر بهجة للجميع
قال لي: "عليك أن تتفهم هؤلاء الشعراء الشباب الذين يهاجمونك
تأكد إنهم لا يتنكرون لفضلك عليهم
بل العكس
أنت بالنسبة لهم بمثابة الأب
وعليهم أن يقتلوك!"
/
أحسّ (م. ج) بعارض صدري
في الليلة التي وقع فيها زلزال اللاذقية
قال لي أبوه
إنه تأثر على نحو شديد لم يكن يتوقعه أحد
وبعد مراجعة أفضل طبيب جراحة صدرية في المدينة
تبيّن أنه يحتاج إلى قسطرة قلبية
ما المانع
قالوا له
الجميع هنا يقومون بالقسطرة القلبية
على أنها نوع من الفحص الطبي الاحترازي
لا يستغرق أكثر من دقائق
العديد من أقاربه ومعارفه سبقوه وقاموا بها
ومنهم من وضع شبكة أو شبكتين
وجميعهم في حالة ممتازة.
/
أجرى ملهم فحص القسطرة
وعاد إلى بيته
على أن كل شيء على ما يرام
في اليوم التالي
راح يشعر بآلام بارحة في خاصرتيه
فأعادوه للمشفى
ووضعوه في العناية المشددة
حيث لم يصبر سوى يوم واحد
ومات
جميعنا مضينا معه إلى أين؟
إلى المقبرة
نحن عدنا
هو آثر أن يبقى هناك...


 15/9/2023.