}

ذرّ رماد شاعر لاذقاني يدعى يوسف شغري

منذر مصري 12 أغسطس 2024
استعادات ذرّ رماد شاعر لاذقاني يدعى يوسف شغري
يوسف شغري (تصوير لطفي لطفي/ 1996)

1 ــ ثلاث سنوات كافية للنسيان
ثلاث سنوات، كنت أخالها خمسًا، أو سبعًا، تقادمت على رحيل الشاعر والناقد والمترجم والصحافي وأستاذ اللغة الإنكليزية، ماذا أكثر! السوري اللاذقاني: يوسف إسماعيل شغري (1955 ــ 2021)، كانت، على ما يبدو، كافية ووافية لنسيانه ومحوه من ذاكرة الجميع، من كانوا يعرفونه شخصيًّا وعن قرب، ومن كانوا لا يعرفونه سوى بالاسم، حتّى القلّة القليلة من الأصدقاء الشديدي الصلة، الشديدي الوفاء، بدورهم، انشغلوا عنه، ولم يجدوا، خلال هذه السنوات الثلاث، ما يذكرونه به، ولو على صفحات فيسبوك، أو تويتر! وكأنّه لم يكن يصحّ عليه، صدقًا ومن دون أيّ مبالغة، القول: "مالئ الدنيا وشاغل الناس"! إن لم يكن بشعره وترجماته ومراجعاته الأدبية والتشكيلية التي كانت تنجح أكثر ما تنجح في إثارة الشغب والاحتجاج! فبحضوره الشخصي الصاخب، وبصوته الجهوري الذي اعتاد استخدامه في المدرسة عند إلقائه الدروس على طلابه، أمّا إذا وصل له الدور بالكلام وأمسك بالميكرفون فلا أحد في العالم يستطيع أن يستردّه منه، لدرجة أنّ الرجل كان يوصف من قبل الجميع، وأنا منهم، بـ يوسف الصعب! نعم أظنه آن الأوان لأنّ يأخذ أحدنا على عاتقه حمل هذه القارورة الزجاجية ذات السدادة الفلّينية، المليئة لنصفها برماد يوسف شغري، وذرّه، عند غروب الشمس، فوق شاطئ الكورنيش الجنوبي للاذقية، مدينته الأولى والأخيرة، مهما غاب ومهما تغرّب.

2 ــ الابن الضال

يوسف شغري  ومنذر مصري في الدمام (2015)


بعد غربة دامت ما يقارب الثلاثين سنة، مدرّسًا في (القطيف) شرق السعودية، يغطّي بحضوره الشخصي كإنسان محبّ ومشجّع ومتفاعل، والمعنوي كشاعر وناقد ومترجم، النشاط الأدبي والفنّي في النوادي الثقافية المنتشرة في المنطقة الشرقية على طولها، موجّهًا الأضواء الكاشفة على نتاج شعرائها ومسرحييها وروائييها وفنّانيها التشكيليين، المعروفين منهم والمجهولين في آن، ومتابعًا، خطوة بخطوة، بقراءاته المتفحّصة وكتاباته النقدية على صفحات الجرائد المحلّية، ظهور وتطوّر الحركة الثقافية في رحابها، من رأس تنورة، حيث كان يقيم، إلى القطيف، حيث كان يعمل، إلى الدمام، حيث تتواجد كوكبة لافتة من الشعراء والفنانين الطليعيين، عرفت عددًا منهم خلال الأمسية الشعرية التي أقاموها لي في بيت الشعر في الدمام سنة 2015، كيف لي أن أنسى يا عبد الله السفر، ويا أحمد الملّا! نزولًا إلى الخبر، لا يهمّه بعد المسافات، ولا يبالي بطول الوقت. عاد يوسف شغري، يكاد أن يكون محمّلًا على نقالة، أمراض متنوّعة تبعتها اختلاطات ومضاعفات حلّت به وكادت تودي بحياته، في الشهور الثلاثة الأخيرة التي قضاها في وطنه الثاني، التعبير الذي تلفّظه أمامي أكثر من مرّة، لولا يد المساعدة التي مدّها له أصدقاؤه هناك، وأخصّ بالذكر منهم، الشاعر (إبراهيم الشمر)، والقاص (عادل جاد)، والشاعر الذي لم يتوقّف يوسف عن ذكر كرمه ومروءته أحمد الملّا، عاد من مطار الدمام (مطار الملك فهد)، إلى مطار الرياض (مطار الملك خالد)، إلى مطار بيروت (مطار رفيق الحريري)، ثم برًّا من بيروت إلى اللاذقية، التي جاء مستجيبًا لندائها الملح والمتكرّر، بعد تحول مطارها الصغير (مطار باسل الأسد) إلى قاعدة جوية روسية لا تهدأ. عاد إلى أولاد حارته، ورفاق دربه، الذين لم يبق منهم، لأسباب متنوعة، حزينة بغالبها، سوى النذر القليل القليل. عاد كما كان يشتهي، ليجلس على شاطئها متأمّلًا الشفق الأحمر لغروب شمسها في البحر الأبيض المتوسط، القريب لدرجة أنّك تستطيع أن تطاوله باليد! وليقتعد وحيدًا، أو برفقة بعض معارفه القدامى الذين نجح في اصطيادهم وهم يعبرون من أمامه، في أحد المقاهي الشعبية في ساحة الشيخ ضاهر، وسط المدينة، يجرع دخان أراجيلها إلى أعمق أعماق رئتيه المظلمتين.

3 ــ شيوعي في الدمّام
غيَّرت المملكة، ومنذ السنين الأولى التي عاشها فيها، أفكارًا وخصالًا كثيرة في يوسف. ذهب إليها، إن لم يكن عضوًا منظمًا في الحزب الشيوعي السوري، فهو قريب منه، يحفظ ويردّد كلّ مبادئه وشعاراته، وعاد منها، ليس متشدّدًا دينيًّا على أيّ حال، لكنّه قريب من الدين، يؤمن ويؤدي شعائره من دون نقصان. ما أوجد هذا سببًا مباشرًا للشاعر الراحل محمد سيدة (1940 ــ 2003)، ليختلف معه ويهدده بإنهاء صداقتهما! ولكن ما كان لدى يوسف أيّ استعداد لأن يبطل صداقة معلّمه الأوّل، أو يفرّط بها. بل حرص أشدّ الحرص على بقائها واستمرارها مهما اشتدّت الخلافات، ومهما تعذّرت الحلول، ولم يكن هذا بالأمر البالغ السهولة أبدًا، ولكن بسبب طيبة المعلّم وتسامحه لم يكن أيضًا مستحيلًا.

عودة الابن الراشد
عاد يوسف للاذقية في أوّل أكتوبر 2020، وكان واضحًا للجميع، له قبل أيّ إنسان آخر، أنّه عاد لأجل أن يموت في اللاذقية. عاد ليدخل مشفى تشرين الجامعي كلّ أسبوعين، أو ثلاثة، لإزالة كميات السوائل الهائلة التي كانت تتجمّع في بطنه، المرّة بعد الأخرى، وكما لم يكن لديه القدرة على تجنّب الأسباب التي كانت تؤدّي إليها، قائلًا: "إذا امتنعت عن أكل الطعام الحلو، وامتنعت في الوقت ذاته عن أكل الطعام المالح، ماذا يبقى لآكل؟ وإذا لم آكل، كيف أحيا؟"، لم يكن لكليتيه، وبقية أعضاء جسده المتعبة، القدرة على تصريفها. ويخرج وهو يشكر الأطباء والممرضات الذين أشرفوا على علاجه، وينشر صورًا لهم بكماماتهم ومراويلهم الطبية البيضاء والزرقاء، يحيطون به وهو على سرير المشفى، فهو يعلم أنّه سيعود إليهم، مرارًا وتكرارًا، حتّى يموت! عاد، ليدعوك بحرارة زائدة لأن تزوره، إن لم يكن في بيته، في غرفة الضيوف، حيث يكوم أمامك صحون عارمة بالفاكهة والحلويات المنزلية، ففي غرفة العناية المشدّدة التي يستقبلك فيها وكأنّها غرفته الخاصة في مشفاه الخاص، ولتأخذ معه بعض الصور التي مهما كان مظهره بائسًا فيها، ينزلها على صفحته في فيسبوك مع كثير من عبارات المودة والإطراء، هو الذي كان طوال حياته لا يعرف عنه مداهنة أو مسايرة لصغير أو لكبير. حتّى إن عددًا من الأصدقاء كانوا ينزعجون منه، ولا يقبلون بوجوده إلّا على مضض، وذلك إن لم يكن بسبب جفاصة غير مقصودة توحي بها حدّة نبرات صوته، وأيضًا قوّة نظراته! فصراحته المطلقة كانت وافية وكافية.

رحيل المربّي الفاضل
الجمعة 2/ 5/ 2021 ميلادية، انتشرت على جدران اللاذقية نعوة يوسف إسماعيل شغري، وقد اختاروا له من بين كلّ صفاته التي ذكرت، صفة: (المربّي الفاضل). التي تطلق عندنا على كلّ من كانت مهنته التعليم والتدريس. ورغم توقّعي المسبق لقرب رحيله، إلّا أنّه في الحقيقة، أحزنني على نحو لم أكن أتوقّعه.




فمن زمن ليس ببعيد، وجدتني أخسر، واحدًا إثر الآخر، من كانوا أقرب الناس لي، وأحبهم إلى قلبي، رحمهم رب الرحمة، وحفظ ذكرهم حافظ الذكرى، جميعًا. رحل يوسف شغري، بعد ثمانية أشهر من عودته، لم يمهله ملاك الموت زمنًا أكثر! في عرفه، ثمانية أشهر تكفي وتزيد لجميع ضروب الوداعات.

تميمة الرماد
تجيء صداقتي الشخصية ليوسف، من صداقتنا المشتركة لمحمد سيدة، شاعرنا ومعلمنا التاريخي. من هذه الشراكة، كان لا بد في النهاية أن يكتب يوسف الشعر، هو الصحافي والناقد الفني أولًا، فيصدر بعد مديد من الزمن والانتظار والمنفى، باكورته الشعرية "تميمة الرماد" (2012). وكما يحدث عندما تكون بين يدي مجموعة شعرية لأناس تربطني معهم روابط حميمة، أجدني لا أستطيع أن أقف منها موقف الناقد المحايد الذي يأخذ مسافة ما من النصّ مهما يكن، لأنّ ما ليس قليلًا من هذه الكتابات، أشعر وكأنّه لي ومني، أو لأقل، ولو بمبالغة، وكأنّي كاتبه! ورغم أنّ قصائد يوسف ذات بنية استمرارية، متتابعة، لا تسمح بنزع هذا السطر أو ذاك من سياقها بتلك السهولة، إلّا أنّ الطريقة التي اعتمدتها في عرض الكتب التي أقرؤها تضطرني لذلك. كما أنّه تجدر الملاحظة أنّ انتقائي لهذه السطور يخضع أوّلًا بأوّل لذوقي الشخصي، وذلك لأنّ المجموعة تتضمّن عبارات شعرية قد تفوقها جمالًا حسب أذواق أخرى:

ص18:
[سأشكو بعدك للسماء هنا
يقولون إنها نفس السماء هناك.]


***

ص25:

[فتأخذ ضباع سود يديكِ.]

***

ص28:

[ستبقى كلماتك تدفئ قلبي الموحش
كهذا العالم بعد حرب ذرية.]

***

ص40:

[توحشي يا روحي الوحيدة
فلن يؤنسك إلاّ تألق عينيها الليليتين.]

***

ص36:

[أجوس في الخرائب
حيث لم تطأ قدماها
لعلي أظفر بريح آتية من عطرها.]

***

ص60:

[ويلتهمني ضبع متضوّر يسمى بعدكِ]

***

ص62:

[أرتشف قصائدك رشفة متمهّلة إثر رشفة
وأنا أقلّب صفحات قهوتي
لم أعد وحيدًا.]

***

ص65:

[برتقال روحكِ يمحو صوتي.]

***

ص95:

[أحزن عندما أقرؤك
أحزن لأنّك كتبت هذه القصائد عن رجل آخر.]

***

ص71:

[لا يمكنني الموت الآن.. أنتِ هنا.]

يضع روحًا في مقلاة البيض
ذلك البوح العاطفي والتشبب الظاهر، وتلك الشهوة الجامحة التي تعصف في عدد من القصائد: [أمطرتني أعاصير غوايتك]، و[إعصار جارف رغبتي]، و[العواصف التي تثيرها تنورتك]، إلاّ أنّ فيضانًا من الروحانيات يغمر شتّى أنحاء الكتاب، فهو عندما يأتي بصورة حسّية مثل: [تؤرجحين نهديك على صدري]، نجده يتبعها بـ:[فأصعد أعنّة روحك]! حتّى إنّي أحصيت ما يزيد على 60 مرّة استخدم فيها الشاعر مفردة (روح)، فتكاد لا تخلو قصيدة في الكتاب من ورودها مرّة أو مرّتين، وقد تصل أحيانًا إلى ستّ مرّات! وكأنّ هذه الكلمة بعرف يوسف، وبعرف شعراء كثيرين، تكفي وحدها لأن تنفس روحًا في أيّ كلام، وتجعله شعرًا، حتّى إنّه يوردها أيضًا 4 مرّات في الإهداء والمقدمة.




أمّا الملاحظة الثانية التي لا يمكن سوى لأناس قليلين أن ينتبهوا إليها، فهي تأثّر يوسف الشديد، وربّما الزائد، بالشاعر الراحل محمد سيدة، الذي جاء كنتيجة طبيعية للعلاقة الشخصية والأدبية التي كانت تربط بينهما، الأمر الذي أنافسه أنا فيه، وربّما، في أشعاري الباكرة، أتفوّق عليه. ويتبدّى هذا التأثير اللافت باستخدام يوسف مفردات وعبارات محمد، التي يحفظها عن ظهر القلب/ مثله مثل كثير من أصدقاء محمد ومحبي شعره. والتي، لا يهمّ أن تكون قد ظهرت عفوًا ومن دون قصد، أو بعملية اقتباس صريحة من شعره! مثل: [يا أنتِ.. اسندي من تحتي الأرض]. يقابلها عند محمد: [افتحي عينيكِ عليّ جيدًا.. واسندي من تحتي الأرض]، و[شغفي بك تاريخ شاعر ينتظر دخولك روحه]. تجدها عند محمد: [لهفتي عليكِ تاريخ شاعر صعد الحلبة]، و[بعيدًا عن التمتع بهذا الإعجاز]، تراها عند محمد: [سيحول دون استمتاعي بإعجاز ألحانك]. أمّا ملاحظتي الثالثة، فهي احتفاء الكتاب الزائد بالفنّ التشكيلي، متضمّنًا 29 لوحة، اختارها يوسف بذائقته الفنّية كناقد، وربما بسبب صداقته لبعض فنّانيها، ومنهم أنا. وذلك لأنّها ليست جميعها على ذلك المستوى المطلوب، فجاءت، كما يقال: "من كلّ بستان زهرة"، لوحات عالمية لإدوارد مانيه (لوحة الغلاف)، ولمايكل آنجلو، وكارفاجيو، ودافيد، وأخرى لنذير نبعة، وفاتح المدرس السوريين، ولشلبية إبراهيم، وسهير الجوهري، المصريتين، وكذلك لوحات لفنانات سعوديات، ربما كان يوسف على معرفة بأعمالهن عن قرب، ورغب في تكريمهن بهذه الطريقة، قلت: "احتفاء زائد"، لأنّ الرسوم، أولًا، ليس لها علاقة مباشرة، أو غير مباشرة، بالنصوص، ولأنّ الكتاب، ثانيًا وثالثًا، شعريّ محض، ولا يوجد فيه نصّ واحد له علاقة بالفنّ التشكيلي.

اعتراف
وأخيرًا، ينبغي عليّ الاعتراف أنّي عندما أطلعت يوسف على ما كتبته بصيغته الأولى، وجدته غير سعيد به! السعادة التي كنت آمل أن أقدّمها له بكتابتي عنه وعن شعره. وراح في المقابل يقدّم ملاحظات على ملاحظاتي، وانتقادات على انتقاداتي، ورغم أني حاولت إقناعه بأسلوبي في الكتابة الذي يجعل من مقولة الرسام الإسباني العظيم غويا ديدنه: "إذا أردت مني تخليدك، فدعني أرسمك كما أراك على حقيقتك"، إلّا أني وعدته أن أضع اعتراضاته في اعتباري عند نشري للمقال في المستقبل القريب، أو البعيد. وهأنذا فعلت، أضفت وعدّلت وحذفت، على النحو الذي، مهما حاولت، سيبقى فيه ما لا يوافقني يوسف عليه، فهذا طبعه، وهذا حقّه! على أمل أن يكون، ما جهدت به لأيام عديدة، وخيال يوسف ماثل أمامي، وما كتبته عنه بكلّ الحب والافتقاد اللذين أحملهما في قلبي له، بمثابة بعث الروح في ذكراه، كإنسان وابن بلد وصديق و... شاعر.

اللاذقية ــ سورية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.