}

ثلاثة أفلام وثائقية سورية: سيرة موجزة للأوجاع والأمل

عزيز تبسي 29 سبتمبر 2023
هنا/الآن ثلاثة أفلام وثائقية سورية: سيرة موجزة للأوجاع والأمل
من فيلم "النزاع الأخير"
ليس سهلًا العمل على أي نص وصفي، أو إبداعي، والبحث في المشكلات التي تعاني منها سورية، التي لم تعد موحدة سياسيًا وإداريًا وعسكريًا، وعجزت المناطق التي أمست تحت سلطات متخالفة عن تحقيق شرط ديمقراطي تُفعّل من خلاله حقوق النقد وإظهار الاختلاف، أي بقيت السلطات جميعها، في الموقع النقيض لأهداف الانتفاضة الشعبية، التي انطلقت في مارس/ آذار 2011.
قدمت قناة "الجزيرة" الوثائقية قبل شهرين ثلاثة أفلام من سورية، اثنان منها شاركا في مسابقة الأفلام القصيرة وحاز أولهما "النزاع الأخير"، وكان الأجدى تسميته وفق مضمونه "النزع الأخير"، على الجائزة الأولى، وحاز الفيلم الثاني "يدي تتكلم" على جائزة الجمهور.

(1)

يعرض فيلم "النزاع الأخير" لعلاء سيد عيسى، الذي تُمم عنوانه بعبارة كتبت بخط رقيق يكاد لا يرى، "للثقافة الأثرية في الشمال السوري"، ومضات من حياة الباحث والمؤرخ فايز قوصرة، الذي أمضى عمره في توثيق آثار المدن والبلدات التي يعود إنشاؤها إلى ما قبل الميلاد، وامتدت الحياة فيها إلى قرون بعده.
عمل بدأب وصبر على موضوعه، الذي توحد مع حياته ومصيرها، مقتحمًا بإمكانات فردية متقشفة مشروعًا هائلًا يحتاج إلى مركز بحثي وعشرات المتطوعين.
يسير بخطوات وئيدة متكئًا على عكازه، جائلًا بين حطام المدن، متلمسًا جمال رسومات أحجارها. لا يتردد عن الإعلان من فوق أنقاضها أنه ابن هذه الحضارات، متجاوزًا النسب العرقي إلى النسب الثقافي الطوعي.




وننتقل معه إلى بيته، ليتحدث بأسى، وهو بين الكتب والوثائق، عن حيازته لمخطوطات نادرة لا يجد مكانًا يحميها من عوامل الطبيعة وقرض الجرذان، وهو ليس غافلًا عن الجرذان الأخرى التي امتهنت نهب لا ما كتبه وسواه عن الأثريات بل عن الآثار ذاتها، وهي ليست سوى مدن وبلدات وأديرة وكنائس ومعاصر زيتون وعنب، ومعتزلات للتأمل والتصوف... إلخ. عبر النظر إليها باحتقار بإحالة تابعيتها للحقبة الوثنية تارة، أو التي تلتها من حقبة الكفار، ونظرة احتقارية أخرى أخذت موقع التعاطي مع الأثر التاريخي بوصفه سلعة قابلة للمتاجرة، وبها انتعشت من سنوات طويلة سرقة الآثار وتهريبها وبيعها.
عمل الباحث بإمكاناته الذاتية المحدودة، متكئًا على أكتاف أصدقاء رافقوه إلى تلك المواقع، وعلى قرويين احتفلوا به واستضافوه في بيوتهم. ولأن الثقافة لا تطعم خبزًا، عمل الرجل في دكان يبيع فيه بعض ما يحتاجه الناس من خبز وسكر...، ليتمكن من تأمين معيشته ونفقات تنقلاته، وولعه بشراء الكتب القديمة والمخطوطات النادرة.
ولا يفوته الكلام بصوت متهدج عن مخاطر التهجير، وأنه يجد في أي سانحة فرصة للإعلان عن هذا الفعل ونقده.
شكل الفيلم مرثية ناعمة لحياة الباحث المرموق، الذي جمعته وحدة المصير مع الأوابد التي ماتت وأهملت، نهبت ولا تزال تنهب.

(2)

يسلط فيلم "يدي تتكلم" للمخرج أسامة الخلف، الذي حاز على جائزة الجمهور، الضوء على الرسامة الشابة لمى عبادي الصماء البكماء منذ ولادتها، التي عملت على أن تروي برسوماتها ما تراه من الوقائع، متعالية على حواسها الميتة، بتثقيل موقع العين الرائية واليد اللامسة، لا تسمع هدير الطائرات، ولا انفجارات الصواريخ والبراميل، لكنها تشعر باهتزاز الأرض، وترى بعدها أثرها المدمر بانهيار العمارات فوق رؤوس ساكنيها، وتناثر أجساد القتلى، وحياة المشردين في البراري.
تكافح لبث الروح في الأنقاض، برسومات على كسور إسمنت الأسقف المنهارة وتصدعات الجدران. عمل الفيلم على ابتكار أمل ما يتشبث به الناس، يعبرون به فوق إعاقاتهم والخراب الذي يحاصرهم إلى أفق جديد يعدهم بالحرية والعدالة، ويضمد جروحهم، ويجبّر كسورهم.

(3)

ينتمي فيلم "روح" للمخرج الفوز طنجور، الذي يمتد على زمن يقارب الساعة وخمس وأربعين دقيقة، إلى الأفلام الوثائقية الطويلة. على عكس الفيلمين السابقين اللذين لا يتعدى زمنهما السبعة دقائق، ويبدو أن ذلك من شروط مسابقة الأفلام الوثائقية القصيرة.
أسس المخرج فيلمه على تداخل الوثيقة الحية مع الدراما. المخرج طنجور سينمائي محترف له عدد من الأفلام الخاصة، ومساهمات مع المخرج الراحل نبيل المالح. اشتغل الفيلم على محورين، سعي المخرج المسرحي إبراهيم سرميني وفريقه المسرحي لتقديم عرض مسرحي "تحت الصفر" يُذّكر بالمغيبين قسريًا والمعتقلين، بينما ينتقل المحور الثاني إلى حياته وعمله وعلاقته بأسرته وأولاده وأبويه وإخوته المعتقلين "المغيبين قسريًا".
ويعرفنا المخرج أنه كان في عام 2011 يؤدي الخدمة العسكرية في إحدى الوحدات العسكرية في الجيش. يقرر، بعد المذابح التي قامت بها وحدته، والوحدات العسكرية الأخرى، الانشقاق عنها بلا سلاح، ومن دون رغبة في الانتقام من إخوته الجنود والضباط.
يعود إلى بلدته، ويضطر إلى مغادرتها، بعد تعرضها لقصف الطيران، لينتقل بعدها إلى بلدة ثالثة، ويحط به الرحال أخيرًا مع أسرته في مدينة إدلب.
يعرض بسرد هادئ المعاناة اليومية لأهالي المدينة، بانقطاع المياه والكهرباء ونقص مستلزمات التدفئة، وحرصه مع زوجته على تعليم أولاده وتوفير مستلزمات حياتهم. ويعرج على عمله مع فريق (بنفسج) في مخيمات النازحين للترفيه عن الأطفال، وتقديم الدعم المعنوي لهم. ننتقل بعدها إلى مسرح المركز الثقافي المهجور، وإرادة المخرج والممثلين، ومن تبقى من تقنيين، في تحدي هذا الواقع الصعب لتقديم عرضهم المسرحي. يبدأون التدريبات على الإلقاء، وحركة التعبير بالجسد، ضمن شروط الميزانية المتواضعة، ومحدودية وقود مولدة الكهرباء الذي يبقيهم تحت رحمة الإضاءة الأحادية لأحد المصابيح.
لا يسعى المخرج إلى تقديم عمل مسرحي مبهر، أكثر من رغبته في تقديم رسالة عن مئة وثمانية وعشرين ألف معتقل لا يملك أهلهم عنهم أي معلومات، وأوجاع أهاليهم، ومنهم عائلات المخرج والممثلين، الذين يتحدثون في فواصل استراحاتهم من التدريب عن جهلهم بمصائر أخوتهم وأبناء عمومتهم وأصدقائهم، وانتظار عودتهم، واللقاء بهم من جديد. يتغلب أخيرًا المخرج والممثلون والتقنيون على شروط عملهم الصعبة، ويقدمون مسرحيتهم للجمهور تحت الأضواء المبهرة، كأنهم يعيدون الروح إلى صالة المسرح، التي ظلت معتمة ومقفرة طيلة مشاهد التدريبات.
فيلم تداخلت فيه أوجاع الجراح مع إرادة الحياة، الأفق المفتوح الذي رصدته بأناة وحنان الكاميرات المحمولة على الطائرات، مع الأماكن الضيقة المعتمة التي تتوسل الضوء من مصابيح توشك على الانطفاء، منحازًا إلى إرادات تسعى إلى تصعيد الآلام إلى سمت فجر جديد يبشر بالعدالة وإنصاف المظلومين.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.