}

ما دور الشعر إزاء الإبادة والتدمير في غزة؟

ليندا نصار ليندا نصار 20 مارس 2024
هنا/الآن ما دور الشعر إزاء الإبادة والتدمير في غزة؟
(منى السعودي)

نطلّ في هذا الملفّ الخاص على آراء ووجهات نظر مختلفة حول مجموعة من الأسئلة المتعلّقة بجدوى الشعر اليوم وانفتاحه على الجغرافيّات الثقافيّة والفنيّة المجاورة، في ظلّ التحجّر وفقدان الإنسان إنسانيّته، وحول دور الشعر العربيّ تجاه ما تتعرّض له فلسطين من إبادة وتدمير.

ونطرح فيه الأسئلة التالية: كيف يعيش الشاعر غربته الخاصة وسط تدافع غير مسبوق للهويات الافتراضية؟ هل يعي الشاعر أن الحاجة إلى الشعر اليوم هي حاجة إلى حماية الإنسان نفسه من ثقل التسطيح وعمليات تفكيك الروح من جذورها بما يسمح بتحويل الأثر الإنساني إلى مجرد ديكور بلا روح ولا حياة؟ هل الشاعر معني اليوم بالحق في الكلمة ونحتها على نحو يساعد على فهم ترسبات تربك تلك القواسم المشتركة؟ ما معنى أن تكتب قصيدة شعر وهي لا تعبر نحو جغرافيات ثقافية وفنية أخرى؟ هل يمكن القول إننا نعيش تحجرًا غير مسبوق على مستوى التربية على الوجدان والذوق وإنسانية الإنسان؟ ما الذي يمكن أن يقوله الشعر اليوم عربيًّا خصوصًا خلال الفترة الراهنة التي تتعرض فيها فلسطين إلى الحرب الوحشية والقتل والتدمير، كما يتجسّد الأمر في قطاع غزة؟


الشاعر الأردني راشد عيسى:

دفاع فطري عن هوية الإنسان

الشعر في الأصل بوح ذاتاني يعبّر عن علاقة وجدان الشاعر بوجوده من خلال أحلام اليقظة واقتراح عوالم خاصة يصنعها الخيال الشجاع واللغة الجسورة الماكرة. فالشاعر يمثّل هويته الخاصة أولًا، حتى لو عاش في جزيرة معزولة فهو خارج عبودية الزمكان والإرادة الخارجية. فرسالته جمالية فنية في جوهرها. وبما أنه مرتبط بنسيج أمته وهموم مرحلته بالضرورة فمن الطبيعي أن يشارك شعره في الدفاع عن مأساة الجرح القومي فيرقى بشعريته الى فضاء إنساني يسهم في وقف محاولات الاستبداد.

كل المحاولات العولمية الساعية إلى تفكيك الروح الجمعية وتذويب خصوصية الشاعر في ماء عكر هجين ستبوء بالفشل لأن كينونة الشاعر تأبى الاتباع والامتصاص. أما موقف الشاعر من محاولات طمس الهوية الفلسطينية فهو واحد في العالم كله. إنه الرفض الكلي. فالشعر دفاع فطري عن هوية الإنسان وخصوصيته، وهو ضد اقتلاع الجذور. وعليه فإن كل طفل فلسطيني يموت تطلع من قبره ألف شمس جديدة تنشر نور الفكرة، فكرة الصمود المفتوح. فالحرية فكرة قد تمرض ولكنها لن تموت. فالكنعانيون باقون وسيستمر الفينيق الفلسطيني بمواصلة الانبعاث من الرماد إلى أن تموت البشرية. لفلسطين حضورها التاريخي الحضاري قبل من يحاولون سرقتها. الحياة نفسها تستغيث بأطفال فلسطين ليعلموها فن الأمل. ألم نلاحظ أن مئة سنة من التشتيت والتهجير والإبادة قد فشلت في ساعة واحدة فصحا العالم من غيبوبته الطويلة ووقف على الحقيقة؟ فلسطين قصيدة أزلية ينحني لها التاريخ احترامًا.

الشاعر اللبناني شوقي بزيع:

قضية فلسطين وما تبقى من إنسانية الإنسان

أعتقد أن هذه المسألة حمّالة أوجه، فصحيح أن صفحات الفيسبوك وغيره من المنصات قد تحولت إلى كلام من برج بابل، وإلى خليط فوضوي من أنماط الكتابة والأساليب والسرقات، والتناص والتأثيرات، ولكن في المقابل يجب أن نضع في الحسبان أن مجرد التباري على ساحة اللغة هو أمر جيد وثمة أسماء مجهولة لم تكن تعرف شيئًا عنها تبدو أكثر موهبة من الأسماء المكرسة والمخضرمة. صحيح أن أمبيرتو إيكو كان أكثر تشاؤمًا حين ادّعى بأن هذه المنصات هي منبر للرداءة ولمجموعة الفوضويين والعدميين والسكارى الذين يخرجون من الحانات ويكتبون ما يشاؤون، ولكن الوجه الآخر للصورة الملائمة للتعبير، تتمثل فيه نجومية المهمشين الذين وجدوا الفرصة الملائمة للتعبير عن أنفسهم، وفي النهاية ما سيبقى هو الهام والثمين.

أما غربة الفنان أو الكاتب، فهي غربة سابقة على هذه المواقع، فهي غربة كل إنسان راءٍ أو باحثٍ دائمًا عن النموذج الأفضل لحياة البشرية ويصطدم بشكل يومي بفساد العالم والسياسة، وبطبيعة الحال، بمجتمع الاستهلاك، ومجتمع البيع والشراء، سيشعر بأن هذه الغربة تزداد وتتفاقم.

وعن جغرافية الثقافة، أعتقد بأن هذا الأمر لا يتم في قصيدة من قبل الكاتب، وإلا تحولت الكتابة إلى نوع من العالمية السياحية التي يكفي الكاتب من خلالها أن يعدّد العدد الأكبر من البلدان في كتاباته أو يتمنى بمعاناة الأطفال في كوبا أو سنغافورة لكي تتحقق عالميته كما كان يحصل مع الواقعية الاشتراكية، وفي المجتمعات السوفياتية، وهذا أمر مفتعل ولن يؤدي إلى نتيجة بسبب وقوف الأيديولوجيا وراءه، وبالتالي سيكون متعسفًا، وثقيل الوطأة. ما على الكاتب سوى أن يكون ذاته ويبحث داخل نفسه، لكي يجد الآخر فيه، ولكي يجد نفسه داخل هذا المشترك الإنساني الذي يحقق وحدة الكائن في أسئلته وفي بحثه عن هويته وعن معنى الحياة. وهذا يؤكد دائمًا المقولة أن أقرب النقاط إلى العالمية هي النقطة التي نقف فوقها تمامًا. هنا أتذكر قول أبي العلاء المعري "أتزعم أنك جرم صغير، وفيك انطوى العالم الأكبر"، العالم ينطوي في كل فرد ينتمي إليه. يكفي أن نقرأ نظرة طفل حزين، يتيم، جاء على مقربة منا، لكي نتلمس أحزان الطفولة ومصائبها في كل بقاع العالم وهذا ينطبق أيضًا على الحرية والعدالة وقضايا الشعوب. فيما يعني فقدان الإنسان لإنسانيته، والتحجر التي تحدثت عنه، يهيمن القول بأنه برغم كل مساوئ الرأسمالية والمعاصرة، وتحويل الإنسان إلى سلعة، وإلى جزء من هذه الطاحونة الكبرى أي الآلة في المجتمعات الصناعية وكل ما تحدث عنه غوته في مسرحية "فاوست" وبيع الإنسان نفسه للشيطان، وتحدّث عنه كافكا برواية "التحول" لا شك، هذه الأعمال تصدّت لمسألة فقدان الإنسان لإنسانيته، لكني أزعم بأن مقادير من الحب والجمال والإيمان بمستقبل العالم لا تزال موجودة  في هذا المجتمع أو ذاك. منسوب الشعرية في الأرض ليس أقل منه في العصور السابقة. كذلك الحال بالنسبة إلى الحب. أعتقد أنه في هذا العالم ثمة متسع دائمًا لكل ما هو حيوي وخلاق وإبداعي.

قضية فلسطين هي امتحان جديد لما تبقى من إنسانية الإنسان والقيم التي يجب على الإنسان المعاصر ألا يفقدها، في هذا الصدد أستطيع القول إنّ ما صدر عن محكمة العدل الدولية منذ فترة يدل على أننا ما زلنا قادرين على المراهنة على أن قدرًا من هذه الإنسانية ما يزال ماثلًا، في المحنة التي نعيشها. أما بالنسبة إلى الأدب والفن فنحن نعيش دائمًا هذه المحنة في كل مفاصل التاريخ البشري، مع كل حرب طاحنة، أو وباء وإبادة، أو سؤال جدوى الحياة، دائمًا نطرح مسألة جدوى الفن بالواقع. الفن لا يعمل بآلية اللحظة ولا بآلية الانقلابات والأزرار التي يتم الضغط عليها، لكي تنطلق هذه القذيفة، أو الصاروخ. يعمل على مسألة أكثر بطئًا من الوعي الإنساني، على تغيير الذائقة الجمالية وتنقية الروح الإنسانية التي تحتاج إلى التخفف، وهذا لا يتم إلا عبر الحب والفن، وهو ما يحتاج إلى وقت طويل للكتابة والسفر.

من اليمين: علاء خالد، راشد عيسى وشوقي بزيع


الشاعر المصري علاء خالد:

الشعر وسط الواقع الافتراضي

مع طغيان الآلية وسيطرة العوالم والهويات الافتراضية، وبالتالي تشوّش رؤيتنا للواقع الأصلي ومكوناته التي كانت تكوّن، من قبل، رؤيتنا الشعرية؛ ربما ما يبقى للشاعر لمواجهة هذا الموقف الذي يؤثر بالسلب على تكوين رؤيته الخاصة، أن يتبنى الشاعر مخاطرة حياتية اضطرارية في تجربة الوعي الذي يرى به العالم، أن ينفتح على أبعاد الكارثة المحدقة.

داخل هذه المخاطرة غير المعتادة، لا زالت هناك بعض الآثار والنتائج التي لم تتأثر بعد بسيطرة هذه الآلية، أو الواقع الافتراضي، ربما تدفعه إلى عوالم داخل متن اللغة والثقافة والوجود بشكل عام، وهي أماكن لا زالت تعمل بطاقة الماضي، حيث هناك مساحة للتجريب والجدل مع الأفكار. ولا زالت هناك هذه الإمكانية، التي ستغير من مفهوم الاغتراب أو غربة الشاعر، وتحوله إلى باحث في الوجود الإنساني، لتكون غربته نوعًا من الالتصاق بالعالم ولكن عبر طريق مختلف.

الحل الكارثي الآخر هو الاستسلام لهذا الواقع الافتراضي وتذويب الحقائق وميراث الإنسان وآثاره، داخل هذه الكتلة المسطحة، وبالطبع هذا يعتبر ردة بشكل ما، ولكن حتى داخل هذه الردة، لو حدثت، تبقى محاولة إنتاج نسخة أصلية من هذا الواقع الافتراضي ومن الآلية، بتفكيك هذا الواقع، داخل الشعر، وأعتقد أن هذا النوع من الشعر/ البحث سيكون له حسٌ فلسفيٌ ناقد، أي الالتحام المباشر مع هذا الواقع المتخيل، وليس أخذ مسافة منه. أعتقد في كلا الحالين هناك حس نقدي مبدئي ورفض لهذا الواقع وعدم الاستسلام لإملاءاته. فهناك مساحة كونية، تحدد موقعنا داخل الحياة والكون وليس فقط داخل المجتمع، لم تطأها بعد هذه الإملاءات، مثل الموت وعلاقتنا بالكون، وإعادة تشكيل حياتنا. 

الواقع الافتراضي والآلية والاستهلاك ربما سيطروا بالفعل على النشاط الاجتماعي للمخيلة، ولكن لا زالت المخيلة تحمل تساؤلات أعمق تؤرقها وتتجاوز هذا الواقع، لذا فإن الذهاب إلى الأسئلة الوجودية، أو بعثها ربما، هو أحد المداخل لإعادة وضخ الحيوية في العزلة والاغتراب الشعري الاضطراري الذي يعيشه الشاعر.

ربما هذا الواقع الافتراضي والآلية يحولان بيننا وبين الاتصال بأعماقنا وبأسئلتنا الوجودية حيث يتكون الشعر.

داخل هذه الأعماق  يوجد البناء الأولي الذي يخرج منه الشعر، بغموضه، ومخاوفه وبغريزته، وبقدرته على لأم هذه المتفرقات الوجودية أو بث الانسجام بينها، وإعادة نسخها في شكل  يفرض قانونه على الشكل الخارجي المعتاد، فتاريخ الشعر نسخ من هذه الأشكال الغامضة المولدة.

ربما هذه المحاولات المقاوِمة للتشيؤ، تغيّر من دور الشاعر وتضعه مع ناقدي العصر والخارجين عنه، ومعتزليه، مع تلك الجماعات الصغيرة التي تقاوم العولمة والآلية والرأسمالية، وجذريتها في اتخاذها العزلة المختارة هدفًا لها. فالعزلة ليست هنا انقطاعًا عن المجتمع، بل إعادة ترميزه داخل مناخ جديد، وستوفر مناخًا متجانسًا ضديًا، لذا أنشطتنا ستتحول إلى أدوار سياسية ربما.

فالحرب الذي يقودها الشاعر والمتمرد ومن يقف ضد العولمة مصيرية، بمعنى ما أنها خطوة للتمسك بالمشاعر الإنسانية التي عرفناها، والتي أخرجت هذا الشعر وهذه الفنون، وصنعت أيضًا صورتنا عن أنفسنا، أما عكس هذا، فهناك شاعر جديد تمامًا وعلاقته جديدة باللغة تتضمن هذه الآلية والنسخ، من دون فردانية الشاعر ورؤاه الغامضة في تشكيلها، وعندها ستعيش اللغة والإنسان معًا على السطح الهش لإحدى نسخ الوجود.

ربما لا زالت اللغة تحتفظ بهذا المستوى من العمق الذي لم يـتأثر كاملًا بهذه التحولات، فكل مغامرة لغوية جديدة تثير هذه الكوامن والمشاعر الغامضة، التي تحتفظ بها اللغة، ويعيش في داخلها هذا الإنسان الذي تطمح في تمثيله وحضوره بقوة داخل هذه الكثافة الهشة للبلاغة الحديثة، لتظل هذه الشهادة الشعرية الغامضة،  شاهدًا رمزيًا على لحظة التحول للإنسان والإنسانية ودور الشعر.

ربما هذه الشهادة ما يمكن أن يقدمه الشعر، ولننتظر ماذا يخبئ لنا المستقبل؟

الناقد والكاتب المغربي محمود عبد الغني:

الشاعر ممتلك لأشياء كثيرة

ليس الشاعر كائنًا غريبًا، بل هو كائن غريب الأطوار، محيّر، حائر وممتلك لأشياء كثيرة. أما الغربة والاغتراب عن العالم فهو سحر انقلب عليه. لقد فعل أشياء كثيرة: وظف الكلمات معتقدا أنها سحر، استعمل الخيال راميًا إلى طمس ما يعيشه، كان أفضل عزاء لمن يكابد الحب، غنى أنشد رتلًا، وخرج إلى الناس عاريًا فعاد الناس إلى بيوتهم... أخذ الكلام من على المنابر وشتم الرسل والأنبياء ولم يشأ أن يقتسم معه الآخرون شيئًا من عناصر وجوده، خصوصًا الخيال واللغة. يا له من كائن مخيف، يا له من مجزئ للوجود. وأراد للناس حين يلتقون به أن يصافحوه وعلى سفينة الوقت، مثلما صادف ذلك الشاب لاعب الشطرنج الشهير على سفينة في رواية "لاعب الشطرنج" لستيفن زفايغ.

هذا ليس اسم الشاعر، بل الساحر الذي اعترف فرويد أنه يعلم كل شيء بين السماء والأرض. هذا اسمه النفير الذي يسبق الحروب... هذا هو "كانكان العوام الذي مات مرتين"، حسب رواية جورج أمادو، يوم يموت يبيع الناس كل ما في حوزتهم، خصوصًا الفقراء، لشراء أبهى الأزهار. فمتى كان غريبًا؟ لقد ظل قدوة لفلوبير في اهتمامه باللغة، ولبورخيس ترميز العالم، وما أضحكه أبكى الفلاسفة. إنه يعرج الآن على الدروب. الجرح غائر في قدم سارق النار.

لا شك في أن الانسان تحول تحولًا ظاهرًا. تحول شبيه بما حدث في رواية "المسخ" لفرانز كافكا، لقد تحول نحو البربرية والتوحش. كل هذه القرون من النزعة الإنسانية بدأت تتلاشى فعدنا الى البربرية، والمسؤول كما قال ذلك الماركسيون هو الرأسمالية التي نعتوها بالمتوحشة.

أميركا تتحمل الجزء الأعظم في تحويل التاريخ إلى ركام من الزبالة، وتحويل الإنسان إلى كائن ممسوخ، زومبي شارد في الشوارع يبحث مثل الذئب عن دم أخيه الإنسان. لكن أميركا هي الزومبي الكبير الذي سيفترس نفسه في النهاية. هذه نبوءة كتاب أميركيين مثل جون دوس باسوس وبول تويتر وفيليب روث.

وغزة المسكينة هي الشارع الذي يبحث فيه الزومبي المتعطش للدم، كما فعل أدباء أميركيون، وبعض الأدباء الإسرائيليين يؤكدون أن إسرائيل زومبي العصر الحديث ولكن غزة مدينة طروادية (من طروادة) ستهدم ألف مرة وتنهض ألف مرة.

من اليمين: أنور الخطيب، عبد اللطيف الوراري ومحمود عبد الغني


الشاعر والروائي الفلسطيني أنور الخطيب:

النص الحقيقي هو المتحرّر من الخوف

لعل تساؤلك الأخير بشأن (الشعر اليوم وفلسطين)، يحيل إلى التساؤل الأول وربط (الحاجة إلى الشعر بالحاجة إلى حماية الإنسان)، الذي سيمر بالضرورة بمدى القصيدة وآفاقها، وعلاقتها بالتربية الوجدانية والإنسانية، وأخشى أننا (عربيًا) خارج هذه الجدلية وبعيدًا من هذا السياق المهم، غير مستبعد للمفكرين والفلاسفة والنقاد، ومعهم المثقفين، لأننا ببساطة، نحيا في أمكنة الإنسان فيها غير محمي، الإنسان ككائن مبدع يتوق ليمارس حياته في بيئة حضارية مدنية عادلة، وهو عاجز كل العجز عن مجرد التفكير بفلسطين، فكيف بسؤال الهوية والماهية وما يجب أن يفعله لحماية فلسطين، التي أثبتت أحداثها الأخيرة، وخاصة في غزة ومخيمات الضفة الغربية، أن هناك رعبًا موجهًا للإنسان العربي، جعلته خائفًا ككائن بشري، وبالتالي، كل ذلك، جعل القصيدة (الشعر) خائفة. والخوف ناتج عن قمع فكري يقوده سياسي يحمل سوطًا أشبه بالسوط الذي حمله الفاتح الأميركي ليجلد به السكان الأصليين. وهذا الخوف يخلق نقاشًا عقيمًا عن مفهوم الشعر، وتعريفه، وما هو الشعر الشرعي، والشعر المرتد، ولعلك تتابعين كيف يمارس مؤيدو القصيدة الكلاسيكية إرهابًا، كأن الشكل العمودي ذُكر في القرآن، ولعلك اكتشفت خوف النص الحديث ورعبه أمام جحافل المسابقات والمهرجانات الشعرية، حتى يكاد الشاعر الحديث يستنتج أن القصيدة الجديدة عمل من رجس الشيطان، وعلى الأجيال اجتنابها، الأجيال التي تتلقى تربية حادة وصارمة من أولياء أمور كانوا في صباهم متمردين، وأشقياء، وحين أصبحوا آباء، ارتدوا أو اعتصموا بحبل التقليد، وأكاد أشبّه ما يحدث بشاب أطال لحيته بعد أن كان (أملطًا) ولجأ إلى الصلاة والصوم، ليرهب زوجته ويدعها تسير على الصراط المستقيم. نحن نعيش في هذه البيئة وإن ادّعى البعض التحرر لبعض الوقت، والظروف، إلا أن اللاوعي يضم دكتاتورًا، والشعر لا يعيش مع المستبدين، أقول هذا الكلام، لا لأهرب من الإجابة والتنظير في (الحاجة إلى الشعر)، ولكن لأقول إن المجتمعات العربية رهينة (الحاجة) أكثر منها إلى الشعر، ولأقول أيضًا، أن دور نشر كثيرة تمتنع عن طباعة الشعر (لا سوق للشعر). فحين يرتبط الشعر بالسوق نكون ما زلنا في أيديولوجية القطيع، ولعلك تلاحظين (القطيع) في المهرجانات الشعرية، حيث التركيز ليس على مستوى الشعر، وإنما على الفعالية، وكمية الحضور، واهتمام الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي، ولهذا، يبقى (الشعر) يصطدم بجدران القاعات حتى يُغمى عليه، ويسقط على مقاعد الثرثارين. إن شعرًا كهذا لا يحمي الإنسان من التسطيح، ولا يرتقي بذوقه وروحه، وإنسانيته. إن ما يرتقي بالإنسان هو استعداده لقبول الآخر المختلف، والاستماع إليه وعدم قمعه، وفي حالتنا، قبول الشاعر للشاعر الآخر المختلف، من هنا تبدأ تربية الإنسان وإنقاذه من تفاهة وتطرف الانتماء، وللأسف، أظهر (الربيع العربي) فداحة انتشار الجهل والأمية الثقافية والشعرية في المجتمعات العربية.

ويبقى النص الحقيقي، هو النص المتحرّر من الخوف، هذا النص هو الذي يمكنه مناوشة أعداء فلسطين الجريحة، وهم كثر.

الشاعر والناقد المغربي عبد اللطيف الوراري:

شعر المسافات المترنّحة

أنا من جيلٍ وُلِد في زمن قد اهتزّت فيها "مؤسسة" الشّعر، وأخذت صناعات التجريب الإستيطيقي تعيد ترتيب أولويّات الدال النصي ومراتب تنزيله، وتآكلت صورة الشاعر المعتادة بما في ذلك الفوتوغرافية نفسها، المختومة بحبره الشخصي. بدا كأنَّ هناك تراجُعًا في الشّعر بسبب خفوت صوت الشعراء السياسي وأدوارهم المرجأة باستمرار، وقد مثّل ذلك فرصة الإعلام السانحة حتى تمتلئ الأفواه بحديث الأزمة، أزمة المعنى تحديدًا، ثُمّ أخذ الصراع، بالتدريج، يتحوّل إلى الداخل، أي من صراع سياسيّ وأيديولوجي مبرر إلى صراع شعري- شعري محتقن ضاق معه فضاء القصيدة إلى شِيَعٍ واصطفافيّين حينًا، ودخلاء ملتقطة حينًا آخر. فيما قلّة اعتزلوا هذا الصراع "الكاووسي" وثمّنوا نداء عزلاتهم الباهظة في الشعر وعبره، واعتكفوا على مشروع المغامرة الخاصّة وندائها المترائي من أمكنة بعيدة. لا سيما مع تزايد الاهتمام بالوسائط الافتراضية التي أخذت تستقطب إلى أرض الشعر حتى مَنْ هُمْ خارج الشعر. 

لنقُلْ إنّ الحديث عن الشّعر أصبح اليوم أكثر من الشِّعر نفسه، وهو حديث أكثره غير ذي شأن؛ لأنّه أخذ يبتعد عن الجوهري والإشكالي، بقدر ما يلتذُّ باستغراقه الطويل في الشّكْليات والتجميلات والمزايدات، مع ذلك، ثمّة سياسة لا تخطئ موعدها الشاقّ والدائم مع الشعر، وهي بمثابة الحركة التي تهجع في رحم الكتابة، التي نهتدي بنا إلى تلك اليوتوبيا في ليل الذات؛ المحبرة الأكثر تقشُّفًا وسخاءً، وعرامةً في صمتها كذلك. وإذا كان زمننا منذورًا للتّباريح والعذابات، مثل عذاب فلسطين، فإنّ الأزمة هي الشرط نفسه للمعنى وهو يتخلّق باستمرار- إنْ ذاتيًّا أو جمعيًّا؛ لأنّه عندما يتوقّف المعنى يصير الشّعر ملفوظًا مُنْتهيًا، ولا حاجة للشِّعر إلى الشِّعر.

ما يزال الشعر على مضمار الإنسانية، وهو يعرض بطريقتها المُميّزة علاقته الخاصة مع شركاء الإنقاذ، ويتقوّى هذا الرهان عندما يُنظر إلى الشِّعر بوصفه عملًا فنّيًّا مفتوحًا على كل الاحتمالات، على المجهول. وعليه، فليس الرّهانُ شعريًّا فحسب، بل هو سياسيٌّ. وإذًا، ثمّة جدوى تتّقد في كُلّ كتابة تنزع إلى مثل هذا الرهان، حتى وهي تتحرك بلا معنى أَصْلًا، ولا كذلك. فالكتابة الشعرية بوصفها خطابًا هي، في نهاية التحليل، تاريخيّة ليس لأنّها تحمل تاريخها وحسب، بل ومكانها وعبورها للأزمنة والثقافات والهويّات على غير رسوّ. فقط الشّعر دائم الإصغاء إلى زمنه وشرطه الإنساني، وكان للشعراء في قصائدهم نبل المهامّ الملقاة على عاتقهم حتى فــــي الأوقات العصيبة من نبذهم وتهميشهم، ومن تلف المشترك الإنساني كذلك، داخل عولمة العماء المذعور.

ليس ثمّة سوى أصل الشهوة العارفة التي على الشاعر المعاصر أن يرتقها بأثر الموهبة المثقَّفة وصنيع الجهد المُجرِّب في آن، ولا عزاء لمن لا أثر له في صحراء المعنى، حيث رؤياه ما زالت تفترس عينيه من المسافات المترنّحة التي عليها سِقْط الأوهام. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.