}

الكوميديا "الواقفة" يتصدّرها الفلسطينيون الأميركيون

دلال البزري دلال البزري 12 مايو 2024
هنا/الآن الكوميديا "الواقفة" يتصدّرها الفلسطينيون الأميركيون
الكوميدي الأميركي- الفلسطيني محمد عامر المعروف بـ"مو"
الكوميديا "الواقفة"، أو كوميديا "الستانْد أب"، نوع قديم جديد من الكوميديا يغزو المسارح الأميركية، ويولد أسماء ونجومًا يتجاوزونها أحيانًا. صفتها الأساسية، كما يدلّ اسمها، أن صاحبها، أو مؤدّيها، يقف وحيدًا برجلَيه على خشبة المسرح، يرتجل حديثه بما يهدف إلى إضحاك جمهوره، من دون الاستعانة لا بنص، ولا بملقِّن الكلمات. وهي تتكون من "عدة" متنوعة، منها النكات السريعة، والمزحْات، والقصص القصيرة، والملاحظات، والمونولوغ. يرافقها أحيانًا "إكسسوارات" من نوع بعض الموسيقى، أو الخُدَع السحرية.
على خشبة مسرح هذه الكوميديا إذًا، يقف رجل، أو امرأة، يتوجه مباشرة إلى الجمهور. وفي غالبية الأحيان يتكلم عن نفسه بشيء من المبالغة. وخلال تقديمه، الذي يجب أن يكون قصيرًا، يحكي عن نشأته، همومه، عقده، مشاغله. ومن المهم في هذه الحالة أن يضحك على نفسه هذه، من دون أن "يضعَف" فيجمِّلها.
وهذا الأداء ينطوي على بُعد تجريبي. إذ يحصل غالبًا تفاعل بين الكوميديان وبين الجمهور، وتتكون بذلك مادة إضافية من الضحك: الجمهور يعلق على قصة، أو مزحة، ويرد عليه الكوميديان، فتغتني مادته الضاحكة، ويستمر الضحك.
ولكن أيضًا، وبفضل هذه الصيغة المباشرة بالذات، يمكن أن يتحول "الستانْد أب" كوميدي إلى فعل نقد وتمرّد واحتجاج على مختلف أشكال السلطة، خصوصًا أنه يعبر أميركا كلها بموضوعاته الحارة، مثل الهوية والجنس والمخدرات والعنصرية وحرية السلاح. وقد ازدحمت صالاته مؤخرًا بالموضوع المتفجّر، أي فلسطين، وأهوال غزة.
معظم الكوميديين الذين تكلموا عن فنهم هذا يقولون إنهم اختاروا "الستانْد أب" لأنهم فضلوها على الموعظة، أو المحاضرة، أو أي شكل من أشكال الاحتجاج المعروف ضد بؤس العالم. يعتقدون بأنهم بذلك يوصلون "فكرة" لم تخطر في بال المشاهدين، ويدفعونهم إلى التمعّن فيها، من دون أن يعرّضوا أنفسهم للشكوى، أو القمع. يغرفون إلهامهم من أدبيات الضحك المختلفة، بعضهم يقارن نفسه بمهرجي البلاط في القصور الملكية، الذين يدلون بما لا يتم تداوله إلا في السرّ.
تتداخل "الستانْد أب" كوميدي مع أنماط كوميدية أخرى تكاد لا تحصى، وإن كان بعض مؤرخيها الأميركيين ينسبها إلى "الفودْفيل"، تلك الخشبات الشعبية التي كانت تتنقل في أنحاء أميركا بدءًا من نهاية القرن قبل الماضي، وحتى عشرينيات القرن الماضي. و"الفودفيل" كانت، مع الضحكة، تقدم الغناء والرقص وألعاب الخفّة والبهلوانيات. فيما بعضهم الآخر يحيلها إلى إنكلترا صاحبة الريادة في المسرح ("النزاع" الأميركي ــ البريطاني في أصل هذه الترْكة قديم).
وهذه الأنواع هي الأفلام والمسرحيات والرسومات الكرتونية والمسلسلات التلفزيونية واليوتوبيات الكوميدية، وبوستات أو تعليقات مواقع التواصل الاجتماعي، وحتى ذاك البرنامج الذي أطلقته شبكة نتْفلكس، وعنوانه "كوميديون حول العالم". تعاقدت الشبكة مع كوميديين "محليين" من كل البلدان، من دون أن يخرجوا منها، أو يهاجروا، يتكلمون بلغتهم الأم، عن مشكلاتهم داخل بلادهم، لا كمهاجرين. وقد اختارت شبكة "نتْفلكس" أربعة عرب، من السعودية، ومصر، وفلسطين، والأردن. علمًا بأن هذه "الصيغة" من "الستانْد أب" كوميدي ليست مطابقة لقصدها الأصلي: أي الحضور الجسدي المباشر لصاحب الضحك وجمهوره، وتفاعلهما معًا، إذ تقتصر هذه الصيغة على تسجيل وصلات ضحك في الأستوديو مع جمهوره الجاهز للضحك المضبوط. ومن داخل بلدان، عربية وفلسطينية، لا تعرف حرية اختيار موضوعاتها وطريقة تناولها، بالهزل أو الجدّ.




عربيان اثنان من المهاجرين إلى أميركا اشتهرا بخلط هذه الأنواع الكوميدية:
المصري باسم يوسف (المتزوج من غزاوية)، وخلفه تجربة برنامج "البرنامج"، الذي نجح في إضحاك الملايين من العرب، بسخريته من حكم الإخوان المسلمين. واضطر إلى الهجرة إلى أميركا بعدما تولى السيسي الحكم. باسم يوسف بعد ذلك، جمع بين الفيديو، والمقابلة الصحافية، والتمثيل. تعرف عليه ملايين من المشاهدين حول العالم بعد مقابلته، بالإنكليزية، مع البريطاني بيريس مورغان في أولى أسابيع "الطوفان". ولكنه الآن يقوم بجولة على المدن الأوروبية لكوميديا "الستانْد أب"، مع استبعاده مسبقًا أي ذكر لغزة، أو فلسطين، على خشباتها.
الفلسطيني محمد عامر المعروف بـ"مو"، بطل مسلسل "مو" الذي يحكي قصة حياته كطفل فلسطيني هرب مع أهله من الكويت وقت اجتياح صدام حسين لها. وحيث بقي "بلا أوراق" لسنوات، تضحك عليه أثناءها محاميته الفلسطينية، ونقل ملفه إلى محامية يهودية تكشف له حقائق عن تعرّض أبيه قبل سنوات إلى التعذيب على يد الجيش العراقي المحتل للكويت آنذاك. وله في "الستانْد أب" مجال غزير، ونجاح متواصل.
أما الباقون، أي الذين يواظبون على النوع الواحد، أي الضحك وقوفًا أمام جمهور مباشر، والتفاعل معه، بالأخذ والعطاء... فسيقتصر تفقّدنا لهم على الفلسطينيين من بينهم. وهم أوائل في هذا المجال، الأكثر ديناميكية.
متى بدأوا؟ بعد تفجيرات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر تكونت شراكة لثنائي فلسطيني، دين عبيدة الله، وميسون زايد، في تأسيس "مهرجان الكوميديا العربية الأميركية في نيويورك".
يقول دين عبيدة الله عن هذه المرحلة: "في العاشر من سبتمبر نمتُ عل أساس أنني أبيض. وفي الحادي عشر من سبتمبر استفقت بصفتي عربيًا. أميركا كلها كانت تغيرت من حولي". الضحك "وقوفًا" كان لمكافحة موجة الافتراء والتمييز ضد المسلمين والعرب بعيد هذه التفجيرات، وللسخرية من الكليشيهات السلبية التي تلصق بهم. هكذا جمع دين عبيدة الله، وميسون زايد، عددًا من الكوميديين العرب الأميركيين، وأدوا وصلاتهم على مسرح نيويورك، فكان المهرجان الأول لهم.
وميسون زايد لها قصة يجدر التوقف عندها. أعتقد أنها من أقوى الشخصيات على المسرح. هي صاحبة احتياجات خاصة، أي مُصابة بعطل دماغي منذ ولادتها، يجعلها عاجزة عن إيقاف رجفة وجهها وجسمها. ولدت في أميركا، أيضًا من أبوين فلسطينيين. بعد تخرجها، حاولت التمثيل في مسلسلات تلفزيونية، ولكنها لم تفلح. فدشنت عهدها الناجح مع "الستانْد أب" كوميدي بتأسيس المهرجان، والصعود إلى الخشبة بمفردها، وكانت أول امرأة عربية تقوم بذلك. أسست منظمة "أطفال ميسون" التي تدعم الأطفال الفلسطينيين أصحاب الاحتياجات الخاصة. نالت عام 2014 مع واحدة وعشرين امرأة أخرى لقب "أكثر النساء تأثيرًا في القرن الواحد والعشرين". وطوال حياة "المهرجان"، أي ربع قرن، عملت مع شريكها دين عبيد الله على تدريب مواهب كوميدية عربية شابة، انطلقت بعدها إلى التمثيل في السينما والمسارح والمسلسلات وكوميديا "الستاند أب".
في شهر نيسان/ أبريل المنصرم، نظمت ميسون زايد مع شريكها دين عبيد الله في نيويورك المهرجان السنوي للكوميديا العربية الأميركية، أي في عزّ الحرب على غزة. يؤكد عبيد الله قبيل افتتاح المهرجان، بأنه سيتناول هذه الحرب. فالكوميديا عنده "هي اللغة المثالية لمناقشة أمر لا يريد أحد سماعه". كيف سيتكلم؟  يجيب: "لست هنا لإعطاء الدروس. لن أريكم مئات الصور التي تتدفق علينا لجثث أطفال بترت أعضاؤهم (...)، ولكن إذا تعلموا (الجمهور) شيئًا عبر الضحك، شيئًا لم يكونوا يدركونه، أو إذا توقفوا عن التخوف مما اعتادوا على التخوّف منه... فتكون الغاية قد تحققت".
قبل هذه الحرب، زار الثنائي بلدات الضفة الغربية مرارًا، وأسّس لورشات كوميديا "الستانْد أب". الاحتلال، اليوميات، العائلة، السلطة الفلسطينية... وجوانب تفصيلية غير مستكشفة عن المجتمع الفلسطيني.
علاء شحادة واحد من شباب جنين، الذي واظب على الورشات. أسس منذ عامين شركة "ستانْد أب" مستقلة، مؤلفة من ستة كوميديين فلسطينيين، اسمها "نادي الكوميديا الفلسطيني"، جالَ في بلدات الضفة الغربية، وفي مدن أوروبا. يصف هذه الجولات، بالإشارة إلى أنه يلقي كلماته بالعربية والإنكليزية، وأنه ممنوع عليه بأوامر من السلطة الفلسطينية، تناول موضوعات اجتماعية محظورة. ويعبر عن صراع من نوع آخر، يختلف عن ذاك الذي يخوضه الكوميديون العرب الأميركيون: من أن هنالك صراعًا بين من يحاول "إعادة تعريف الهوية الفلسطينية ويجد وسائل التعبير عنها، وبين الرجعيين الذين ينظرون بعين الريبة إلى تلك المحاولة".
كثيرة هي الأسماء البارزة في كوميديا "ستانْد أب" العربية الأميركية الفلسطينية. وأنشطتها في الضفة الغربية خصوصًا.
بعضها صعدَ بسرعة وخفتَ، وبعضها الآخر احترف الضحك، وصار نجمًا تلفزيونيًا تسأله الفضائيات عن حاله وحياته وهواياته. يصعب جمع هذه الأسماء في لائحة من دون تواريخها. مثلا: ميسون زايد، ودين عبيد الله، أصبحا الآن في الخمسينات من العمر، وما زالا على تألقهما. فيما أسماء أخرى، عبرت وذهبت إلى شؤون أخرى. يجدر دراسة سماتها الثقافية على مراحل.
كوميديا "الستانْد أب" فن لا يعرفه الجمهور التلفزيوني، أو التيك توكي، والاثنان يأكلان أدمغة العالم. ولا يهتم بها الإعلام، إلا من زاوية "استثمارها" على الشاشة، أي بمخالفة قاعدتها الرئيسية، مع أنها الأقوى في إعادة البديهيات إلى مكانها، في تعرية الأكاذيب... وما إلى هنالك من أدوات لتحريك كسل العقول المطمئنة على عقلها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.