}

أول الشهود على مقْتلة البيوت الفلسطينية

دلال البزري دلال البزري 28 يونيو 2024
استعادات أول الشهود على مقْتلة البيوت الفلسطينية
القضاء على البيت يقتل ذاكرته (Getty)
في ديوانه النثري "أثر الفراشة" (*)، يكتب محمود دروش قصيدة عن البيت، عنوانها "البيت قتيلًا" (طالع نصها الكامل في أسفل هذا المقال). يؤنْسِن درويش البيت، يحوّله إلى كائن حيّ، ملتصق بسكانه، مندمج بهم. تُهدر روحه، مثلما تُهدر روحهم عندما يُقتلون. وقتل البيت ليس فعلًا محدودًا، أو فرديًا. إنه قتل جماعي، قتل منْبسط رحْراح، حتى لو تمت الجريمة في غياب أولئك السكان. ومقبرة البيت جماعية، مثل مقابر أهله، أكانت ميسّرة، فوق الأرض، أو مدفونة تحتها، في ركام الإسمنت والحديد والحجارة.
وقتل البيت لا يقتصر على مجرد اغتياله. قتل البيت يولّد أفعالًا جانبية، ليست أقل شرًا من الإجهاز عليه "جسديًا"، أو فيزيائيًا. قتل البيت هو بتر لكل العلاقات التي أقيمت تحت سقفه وعبر جدرانه، بين الأشياء، والناس، والطبيعة.
ولكن الأعضاء المبتورة تبقى على قيد الحياة. شبحها لا يغيب عن صاحبها، تلازمه أوجاعها إلى الأبد: تشنّج العضلات، ضربات الخنجر، صدمات كهربائية، حَرَقان.  يبقى صاحب البيت المقتول عائشًا مثلما يبقى عائشًا صاحب اليد أو الرجل المبتورة.
القضاء على البيت يقتل ذاكرته. يبعثر مكوّناته من الحجر والخشب والزجاج والحديد والإسمنت. تتقطّع كلمات صاحبه. وتكون في هذه الأثناء تكسّرت أشياء البيت، حميمة وتغلب عليها الأشياء النسائية الأنثوية: الصحون تتكسر والمعالق والحنفيات والثلاجة والغسالة ومرْطَبنات الزيتون والمخلّلات. ثم يُسحق السكر والملح، والبهارات وأقراص الدواء، وحبوب منع الحمل، والعقاقير المنشّطة، وجدائل الثوم، والبصل، والبامية المجفّفة، والأرز، والعدس.
وتتطاير الصور وفرش الأسنان وأمشاط الشعر وأدوات الزينة والأحذية والثياب الداخلية والشراشف والمناشف. فيتمزق القلب. وتنتشر على الملأ أسرار عائلية، أشياءها الحميمة. وقد أصبحت عائلة "مجهولة الهوية"، تمزقت أوراقها الثبوتية، فواتيرها، رسائلها الغرامية.
وفي ختام القصيدة، يمعن درويش في أنْسَنة البيت، ويكتب تلك الجملة التي يشبّه فيها البيت بصديق، أو قريب، جرى الانفصال عنه في ظروف مؤلمة:
كل هذه الأشياء
ذاكرة الناس التي أفرغت من الأشياء، وذاكرة
الأشياء التي أفرغت من الناس
ويأسف بعد ذلك أن لا يتم دفن البيت مع دفننا:
تنتهي
بدقيقة واحدة. أشياؤنا تموت مثلنا. لكنها
لا تدفن معنا!
ديوان "أثر الفراشة" كتبه محمود درويش قبل اندلاع دورات القتال بين غزة وإسرائيل، وقبل الدورة الأخيرة المدمِّرة. والأرجح أن أثر قصيدته هذه كان سيكون مضاعَفًا لو كتبها الآن. فإسرائيل، في مسعى منها لتحويل الحياة في غزة إلى استحالة، استهدفت بيوت أهلها، عمدًا ومنهجيًا، تجرفها كما في الألعاب الإلكترونية، على امتداد ثمانية أشهر حتى الآن. والتقارير الدولية كلها تصفها بجرائم حرب، مخالفة للقانون الدولي، مثل تلك التي ارتكبتها في حق سكانها.
وتعيد بذلك تعميم مصطلح قام المعماري السوري عمار عزوز بإثرائه في دراسة عن تدمير بيوت أهالي مدينة حمص على يد جيش بشار الأسد وحلفائه، بعيد الانتفاضة الشعبية عليه. عنوان الكتاب "ديموسايد/ domicide". والكلمة مؤلفة من اليونانية ""دومي"، أي المنزل، أو البيت، و"سايد" من اللاتينية "قتل". أي أنها تعني أن البيت، مثل أهله، تعرّض للقتل بالجملة. وكما في حمص، كذلك في غزة؛ "الديموسايد" يرافق "الجينوسايد" (الإبادة): تقتل إسرائيل عائلات، سلالات بأكملها، وفي طريقها تقتل البيوت بالجملة.
وهذه ميغا ــ جريمة، يفترض بكل المحاكم المتابعة لحرب غزة أن ترفعها في وجه إسرائيل.
لماذا؟
لأن البيت رمز كوني. عابر للأزمنة والجغرافيا والعادات والتقاليد والمعتقدات والهويات. البيت هو الحماية والراحة والاستقرار. إنه سرير المهد، وأحيانًا اللحد. إنه بطن يحمي، قلعة تصون، دنيا داخل الدنيا. وعتبة البيت هي الفاصل بين خارجه وداخله، بين العائلة والغربة عن الذات وعن المكان، بين الأمان وبين الضياع والخطر.
واللغة العربية تزخر بمفردات للبيت. إنه المسكن، السكن، المأوى، المقر، الدار، الإقامة، العائلة، المركز، الأسرة، البقاء، المصدر، المبين، المستقر. وأهمها "المثوى": "يشيَّع الراحل إلى مثواه الأخير"، أي إلى بيته الأخير.
والعبارة العربية العريقة، "بيت القصيد"، ماذا تعني غير ذلك؟ سموه "البيت"، أي المقطع الذي تتأسس عليه القصيدة العربية. السطر من القصيدة يسمى "البيت". وذلك بسب وجه الشبه بينه وبين البيت الذي يعرفونه. فبيت الشعر يضم الكلام، كما يضم البيت أهله. أما مقاطع القصيدة، فسميت "الأوتاد" تشبيهًا لها بالأوتاد التي تثبت الخيمة، والتي كانت بيت أهل الصحراء.
جامعة بير زيت نشرت قاموسًا عن "بيت القصيد" هذا، استنبطت منه عشرات المعاني: بعد بيت الشعر والقصيد، "البيت" هو أيضًا الحرام، العتيق، الرجل، المسجد، القوت، الأثاث، بيت الإبرة، بيت الدرج، رب البيت، ربة البيت، كل أدوات المطبخ... إلخ.




في القرآن كذلك، يأتي البيت والسكن، وبواحد من المعاني التي توردها جامعة بير زيت. بيت الحرام، آل البيت، الكعبة كبيت، وسورتين تخصصان للبيت، أو السكن معاني الدفء والانسجام.
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا (الأعراف).
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا (النحل).
ومن يتابع في القرآن مفردة البيت نفسه، يختلط عليه الفهم غالبًا، بسبب ارتباط وثيق بين البيت الذي نحن في صدده، وبين البيت الحرام. ومع ذلك، يمكن ذكر بعضها، مثل "وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا" (البقرة)، أو "وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ" (النساء)، أو "وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً" (يونس).
والخيمة؟ ماذا عن الخيمة؟ إنها بيت أهالي الجاهلية، كما أشرت أعلاه. معرّضة كل الوقت لغزوات قبائل معادية، أو للجفاف. فيهاجر أبناؤها نحو واحات آمنة ومثمرة (اليوم كنا سنقول "ينزحون"). وهكذا، كانت تسير الحياة قبل ظهور الإسلام. وعلى دورات الصراع مع الطبيعة، أو مع الإنسان، تأسست القصيدة الجاهلية، بمقدمة ضرورية، عنوانها البكاء على الأطلال، سميت "الوقْفة الطللية". لها طقوسها ومناخها وشكلها الواحد. يقف الشاعر على أطلال خيمه المقتولة، يبكي عليها، يحدّد مكانها، يشهد على رحيل حيواناتها الأليفة، يذكر الحبيبة التي عرفها في مراهقته، أو شبابه، يذكر لذة اللقاء الخاطف بها، يذكر خصالها وأهلها، في بكائية، تزيد كلما ارتفع شعور الشاعر بالخسارة... وبحب لوطن، الخيمة هي رمزه، طالما أنها الواحة التي احتضنتها هو وأبناء عشيرته. الخيمة هي بيته ــ وطنه.
نساء غزة هن الأكثر تضررًا من مجزرة البيوت. الداخل، البيت، هو مجالهن بامتياز. في مجتمع محافظ تكاد تخلو مساحته العامة من النساء، يكون البيت هو مكان حريتهن، القليلة والثمينة. بخسارة بيتهن، يخسرن هذا القليل من الحرية، وينحصرن في تشرّد وخيم بلا أوتاد، وتدبير ما يمكن تدميره من طعام وانتظام بقية روتين المجاعة والموت والحصار... وكل هذا يملي عليها وكأن خيمتها الشقية هذه هي بيتها.
بحسب تقرير "برنامج التنمية"، الصادر عن الأمم المتحدة منذ أيام، عدد البيوت الغزاوية التي دمرت تمامًا تصل إلى ثمانين ألفًا. ولا يُعرف بالضبط حال بقية البيوت المتضررة، كليًا أو جزئيًا. يصف التقرير الظلام المخيّم على غزة: "كأنك تنزل على سطح القمر..."، ويقدّر بأن غزة تحتاج إلى ثمانين سنة ليُعاد إعمارها. ولكنه أيضًا، يفتح بابًا من الأمل، فيؤكد بأنه إذا تضافرت الجهود وعُجلِّت عملية نقل معدات البناء، بوتيرة أسرع من تلك التي اعتمدت في إعادة إعمار غزة عام 2021، فان إعادة البناء "لن تحتاج إلى أكثر من أربعين عامًا".
هل ممكن ان نتصور البيوت "المؤقتة"، أو الخيم، أو المستقر، أو "السكن"، الذي سيأوى إليه أهل غزة طوال عشرات العقود القادمة... أين سيولدون، أو سينشؤون؟ ماذا سيأكلون؟ وأين سينامون؟ ماذا سيتنفسون؟ سيستنشق أهلها هواءها المسموم الذي تساقط على برّها وبحرها.
ونحن هنا لا نصف غير جانب من جوانب النوائب التي تكبّدها الغزيون في ملحمة تدميرهم.

البيت قتيلًا
بدقيقة واحدة ، تنتهي حياةُ بيتٍ كاملة. البيتُ
قتيلًا هو أيضًا قَتْلٌ جماعيّ حتى لو خلا من سُكَّانه. مقبرة جماعية للموادّ الأولية الـمُعَدَّةِ
لبناء مبني للمعني، أو قصيدةٍ غير ذات
شأن في زمن الحرب. البيت قتيلًا هو
بَتْرُ الأشياء عن علاقاتها وعن أسماء
المشاعر. وحاجةُ التراجيديا إلي تصويب
البلاغة نحو التَّبَصُّر في حياة الشيء. في
كل شيء كائنٌ يتوجَّع... ذكرى أَصابع
وذكرى رائحة وذكرى صورة. والبيوت تُقْتَلُ
كما يُقْتَلُ سكانها. وتُقْتَلُ ذاكرةُ الأشياء:
الحجر والخشب والزجاج والحديد والإسمنتُ
تتناثر أشلاء كالكائنات. والقطن والحرير
والكتّان والدفاتر والكتب تتمزّق كالكلمات التي
لم يتسَنَّ لأصحابها أن يقولوها. وتتكسَّر
الصحون والملاعق والألعاب والأسطوانات والحنفيّات
والأنابيب ومقابض الأبواب والثلاّجة والغسَّالة
والمزهريات ومرطبانات الزيتون والمخللات والمعلبات
كما انكسر أصحابها. ويُسحق الأبْيَضَان الملح
والسُّكَّر، والبهارات وعلب الكبريت وأقراص الدواء
وحبوب منع الحمل والعقاقير الـمُنَشطة وجدائل
الثوم والبصل والبندورة والبامية الـمُجَفَّفة والأرُزُّ
والعدس، كما يحدث لأصحابها. وتتمزَّق عقود
الإيجار ووثيقة الزواج وشهادة الميلاد وفاتورة
الماء والكهرباء وبطاقات الهوية وجوازات السفر
والرسائل الغرامية، كما تتمزّق قلوب أَصحابها.
وتتطاير الصُّوَر وفُرَشُ الأسنان وأمشاط
الشَّعْر وأدوات الزينة والأحذية والثياب
الداخلية والشراشف والمناشف كأسرار عائلية
تُنْشَرُ على الملأ والخراب. كل هذه الأشياء
ذاكرةُ الناس التي أُفْرِغَتْ من الأشياء، وذاكرة
الأشياء التي أُفْرِغَتْ من الناس... تنتهي
بدقيقة واحدة. أشياؤنا تموت مثلنا. لكنها
لا تُدْفَنْ معنا.

*"أثر الفراشة" ــ محمود درويش ــ دار رياض نجيب الريس ــ بيروت (2008). ص 35، 36.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.