}

وهل يلعب أطفال غزة؟ كيف؟ وأين؟

دلال البزري دلال البزري 27 مايو 2024
آراء وهل يلعب أطفال غزة؟ كيف؟ وأين؟
طفل فلسطيني يستحم خارج خيمة في دير البلح (22/5/2024/Getty)

السؤال بعيد عن خاطرنا. أطفال غزة في جهنم. هل يلعبون؟ هل يمرحون؟ كيف؟ بماذا؟
يلعبون اللّقيطة؟ الاستغماية؟ أو بيت بيوت؟ أو بالكرة أو الطابة؟ أو العروسة؟ أو النطّ على الحبل؟ أو الغلّة، تلك الكرات الملونة، الزجاجية الصغيرة؟ أو المربعات، التي تنتقل بداخلها البنات عبر حجرة مالِسة؟ أو المونوبولي؟ أو الدومينو؟ أو الداما؟
كلها تحتاج إلى مساحة، وأدوات، ودورة حياة، ومدرسة، وإجازة، وأم تنادي من النافذة بأن "كفى! عليكَ دروس! وحمّام!"... كلها تحتاج إلى وقت، إلى فسحة، إلى عطلة بين قصف وتفجير وتجويع. تحتاج إلى أشيائها، إلى الألعاب نفسها من خشب أو بلاستيك، التي غمرها الركام، وها هي راقدة تحت الأرض إلى جانب غرف النوم والمطبخ والفرش والكراسي...
مع أنهم يلعبون، أطفال غزة. ولعبهم، مثل حياتهم، لا يستطيع تجنب بصمة الحرب عليهم، مع أن اسمه ترفيه ولهو ومتعة...
الذين أصبحوا شيبًا اليوم، كانوا أطفالًا عام 1987، عندما حولوا لعبة النقفَّية، المِقْلاع، إلى سلاحهم الأوحد في انتفاضتهم؛ وبعد أن انضم إليها شباب الضفة الغربية، راحوا يصنعون هذا المِقْلاع بأحجام تناسب مواجهتهم المباشرة للسلاح الإسرائيلي... وثابروا عليه طوال خمس سنوات، حتى استحقوا لقب "أبطال انتفاضة الحجارة". وهذه الأخيرة، أي الحجارة، كانوا يجمعونها من الطريق، ولا تكلفهم سوى خيال ودقة تصويب. فكان مشهد تكرّر على مدى هذه السنوات: جنود إسرائيليون مدجَّجون بالبنادق، يحمون أنفسهم من رماة الحجارة الشباب في القدس والضفة وغزة.
لعبة أخرى كان لا بد لإسرائيل أن تكون داخلة فيها. يروي الصحافي الفلسطيني عبد الرحمن جاسم شيئًا عن طفولته في مخيم برج البراجنة، منذ تسع سنوات، عن لعبة "عسكر وحرامية"، التي يلعبها كل أطفال العالم، الصبيان خصوصًا. وقد تحولت في قصة جاسم إلى "لعبة الاحتلال":
"كانت فكرة اللعبة تقوم على مبدأ بسيط: فرقتان من الصبية، كل فرقةٍ لديها "قاعدة خاصة"، وعلى الفريق الآخر بكل بساطة احتلالها. كانت كل الفرق تحظى بأسماء استعراضية، ولكن كعادة الفلسطينيين كانت الأسماء تؤخذ من برامج الأطفال، إنما بعد "دمجها" وإدغامها فلسطينيًا، فتكون فرقة مثلًا باسم "غيفارا المدمر"، أو "القسام الهدام"، أو "الختيار المتوحش".




كان مزج تلك الأسماء مع بعضها يعطي قوى خارقة "اعتبارية" لأصحابها، فيرسم أعضاء فرقة "الختيار المتوحش"، مثلًا، بالوحل على وجوههم كي يخيفوا الآخرين منهم، أو يحمل أعضاء فرقة القسام الهدام عصيًا عريضةً، أو يربط الغيفاريون عصباتٍ فوق رؤوسهم. كانت الألعاب تأخذ طابع الحروب الحقيقية، في البداية، كنا نقسّم أنفسنا إلى مجموعات، ونسلّم أحدنا مثلًا "المالية" (والتي تكون عادةً عبارة عن أوراق لعبة المونوبلي الشهيرة). كنا نتفق على شراء أشياء "لدعم المجهود الحربي"، أو "لدعم الثورة"، بحسب الجهة التي يختارها الفريق المحارب. كل ذلك كان ليبدو عاديًا حتى تبدأ اللعبة. ساعتها يصبح كل شيءٍ مباحًا، تصبح الألعاب فعلًا "متوحشة"، أي شيءٍ تمسكه بيدك يصبح سلاحًا عليك أن تضرب به خصومك. من البصل المتناثر فوق سطوح المنازل، إلى حجارة الطرقات، إلى "هرة" تتسكع في المكان. أي شيء وكل شيءٍ يمكن حمله ورميه كان يستعمل، وبالتأكيد كانت حاويات الزبالة جزءًا من المعركة. لهذا كان المخيّم يتحوّل إلى ساحة حرب واسعة، وذلك حتى حصول فريق من بين المتحاربين على السيطرة على قلعة الفريق الآخر، والتي عادةً ما تكون إما منزلًا مهدمًا مهجورًا، أو مكتبًا لتنظيم فلسطيني أغلق ورحل "سكانه"".

أطفال فلسطينيون نزحوا مع عائلتهم من رفح إلى منطقة المواصي غربي خان يونس بسبب الهجمات الإسرائيلية (25/ 5/ 2024/الأناضول)


الآن، أين تجد أطفال غزة خارج المشرحات والأنقاض والمقابر والأكفان؟
بعدما دمر الجيش الإسرائيلي بيوتهم، معها أوقاتهم ومساحاتهم ولُعْباتهم، وأشياءهم التي يلهون بها في أحبّ عُطَلهم؟
تجدهم يحاولون الوقوف على أرجلهم بالأغاني والقصص والتدريب على رقصة الدبكة. وابتساماتهم لا تفارقهم، ترافقهم "أدوات موسيقية" مثل سطل غسيل مقلوب، يُضرب بعصا، أو قطعة خشب طويلة رفيعة مربوط على أطرافها حبْلين دقيقين، على أنه غيتار، أو عود...
تجدهم أيضًا وسط صرخات جوع أو فقدان أو ضياع، يطلقونها من دون مفارقتهم الابتسامة، يكابرون، ينتصرون لكرامة طفولتهم مهدورة الدماء.
مثل أولئك الأطفال يوم العيد في مخيم جباليا، أرادوا أن يفرحوا، أن يعيّدوا، كما كانوا يفعلون في الأيام الخوالي، فتراهم وسط ركام هائل لمنازلهم على أنه المساحة الأصلح للعيد، فرشوا وبسطوا أرضًا مالسة، وجلبوا قسْطلًا طويلًا عريضًا وضعوه من منتصفه فوق كوْمة حجارة جلبوها من حولهم. يجلس على كل طرف من القسْطل طفلان، "ينزل" اثنان إلى الأرض، فيرفعان رجلهما، فيزل الطفلان على الطرف الآخر. وهكذا... اسمها لعبة "يا طالْعة يا نازْلة". يعرفها جميع أطفال العالم، ويرتادونها في مدن الملاهي الكبرى، السالمة من الموت والجوع.
ولكن لأطفال آخرين تصورًا آخر للعب، يلعبون لا لينسوا، إنما ليتذكروا.
"لعبة الشهيد": أحد مستشفيات غزة، في ممر يبدو أنه قاعة طوارئ. أربع بنات لا يتجاوزن العاشرة من العمر، يمسكن بالأطراف الأربعة لشرْشَفْ، يضعن في وسطه طفلة أصغر منهن. ويمشين في الممر صارخات بشيء من التسبيح والحمى "لا إله إلا الله... والشهيد حبيب الله". الطفلة الأكبر من بينهن تجيب لمن يسألها، إنها "لعبة الشهيد". وإن الطفلة التي حملت بالشرشف هي أختها، تريد أن تحكي لها "قصة الشهيد حبيب الله".
لعبة "القصف": في أحد مخيمات رفح يتجمع الأطفال بنات وصبيان ويوزعون الأدوار. البنات يقمن بدور أمهات فلسطينيات، عليهن بناء بيت. صبي يكون جنديًا إسرائيليًا، وآخر يكون طيارًا حربيًا، والثالث مقاوم بطل. البنات يجمعن كوْمة من التراب ويصنعن منه ما يشبه منزلًا، ويأخذن بالكلام عن خوفهن من الجيش الإسرائيلي، وعملياته العسكرية في غزة. وما إن ينتهي بناء المنزل، حتى "يغير" الطفل "العدو"، ويطلق صاروخًا نحو البيت الجديد. يصدر أصوات انفجارات مخيفة، ويضحك شامتًا. البنات يبكين ويولولن على منزلهن، لكن رشقة صاروخية ضد الطائرة يطلقها "البطل" لإنقاذ البيوت...




والقصة لا تنتهي هنا، فبناء على ما يبدو أنه تفاهم بين الأمهات، توقف واحدة منهن هذه اللعبة، وتأخذ الأطفال إلى مكان آخر، نصَبَ فيه أحدهم أرجوحة العيد الدائرية. قالت لهم "العبوا الآن"! ونصحتهم بعدم تكرار لعبة "القصف" والتركيز على ألعاب تناسب عمرهم وقضاء وقتهم على الأرجوحة.
فرح الأطفال بالأرجوحة الدائرية، ولكنهم أخذوا يغنون تلك الأغنية التي لا تبعدهم عن لعبة القصف: "طيري وهدي يا حمامة، ع بلاد غزة يا حمامة، وغزة حزينة يا حمامة، وعلى عرق التينة يا حمامة، دمروا بيتنا يا حمامة، ونمنا في الشارع يا حمامة، ونفسنا تخلص الحرب يا حمامة".
لا نملك معرفة شاملة لموضوع لعب أطفال غزة، ربما لأن صور قتلهم جوعًا، أو عطَشًا أو قصفًا... هي الطاغية، هي التي تهزّ العالم كله. نحتاج ربما إلى مزيد من التحقّق؛ إن كانت هنالك أنماط أخرى من اللعب، أو انتشار للعبة الشهيد، أو للعبة القصف، في مناخ لا يفعل غير تغذيتها.
وقد نحتاج أيضًا إلى تعميق التحليل "النفسي" لألعاب الأطفال الغزيين الآن، وفي كل المخيمات الفلسطينية، في فلسطين، وفي غيرها من دول الجوار. ومقارنة بسيطة بين لعبة المقلاع التي كانت في الانتفاضة الأولى رمزًا للأمل، وبين لعبتي الشهيد، أو القصف، أو غيرهما المحتملتين، اللتين تبدوان وكأنهما تخالفان قانون اللعب نفسه. فبدل أن تنسيهم واقعهم، يأتي لعبهم ليؤكد على صدماتهم ونسخهم لأحزانهم، ليفقد اللعب عندهم معنى الخفّة والمرح والفرح. الصدمة تسير في دمائهم، واللعب تسير فيه تلك الدماء.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.