}

"الرسم من المسافة صفر": صرخة بوجه حرب الإبادة الصهيونيّة

أوس يعقوب 25 يوليه 2024
هنا/الآن "الرسم من المسافة صفر": صرخة بوجه حرب الإبادة الصهيونيّة
يوسف الناصر
"الرسم من المسافة صفر" عنوان معرض للفنّان التشكيليّ العراقيّ يوسف الناصر، وقد عرض فيه عشرين لوحة مادتها عذاب الناس في غزّة، وفداحة الجريمة التي تجري هناك، واحتضنه "أتيليه دانييل لوازيل" في العاصمة الفرنسيّة باريس، في الفترة ما بين 13 و22 من الشهر الماضي.
الناصر من الأسماء البارزة في ساحة الفنّ التشكيليّ العراقيّ والعربيّ، وهو ذو رحلة فنّيّة طويلة وشاقة قضاها بين بلده الأم والتنقل بين المنافي شرقًا وغربًا، قدّم خلالها رؤيته إنسانًا ومناضلًا وفنّانًا وباحثًا؛ يؤرّخ اليوم برسوماته حرب الإبادة الصهيونيّة الجماعيّة المستمرّة في قطاع غزّة المحاصر المنكوب، منذ السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023.
ضيفنا بدأ في عام 2003، وخلال الغزو الأميركيّ للعراق، مشروعًا بعنوان "المطر الأسود"، اهتمّ فيه بتوثيق جرائم الحروب ومعاناة الضحايا. وضمن هذا المشروع يندرج معرضه الأخير في باريس "الرسم من المسافة صفر"، الذي لا يزال مستمرًّا في العمل عليه.
هنا نص حوارنا معه لنتعرف أكثر على تفاصيل هذا المشروع والمعرض، وموقفه كإنسان وفنّان من هذه الحرب القذرة التي راح ضحيتها حتّى اليوم نحو 39 ألف شهيد و90 ألف مصاب، إضافة إلى أكثر من 10 آلاف في عداد المفقودين تحت الأنقاض في غزّة، التي حولها الاحتلال بوحشيته وهمجيته إلى أكوام من الركام.

من افتتاح المعرض 


(*) نبدأ حوارنا معك بالحديث عن معرضك الأخير "الرسم من المسافة صفر"، ما هي الفكرة القائمة وراءه وكيف تشكّلت؟
بدأ كلّ شيء بينما أراقب الوحشيّة النازيّة تمارس ما اعتادت عليه من بشاعات مهولة لا أظن أنّ أحدًا رأى شبيهًا لها من قبل، وأنا المولع بالتاريخ مكتوبًا أو مرسومًا أو كوثيقة سينمائيّة لا أذكر أنّني مررت بشيء كهذا، حتّى أنّي شهدت احتلال بيروت وحرب 1982، ويمكنّني أن أقول بيسر إنّها رغم قسوتها تبدو لي الآن مثل فصل محدود قياسًا بما يحدث في غزّة.
ولو وضعنا عذاب الغزّيّين جانبًا، فإنّ ما يحدث الآن يلحق العار بإنسانيّة وشرف كلّ إنسان يعيش في زمن هذه التراجيديا. شعرت، ولا زلت، بفداحة الخسارة، أن يتحوّل ما يفعله النازيّون إلى ممارسة حربيّة عادية. صرت أبحث بروح مثقلةٍ عن وسيلة لردّ الاعتبار إلى نفسي وكرامتي وإنسانيّتي ونفوس الضحايا ورفع الحيف عن الفلسطينيّين وردّ الأذى عنهم.
ولكن أنّى لي أن أفعل ذلك وأنا مجرّد رسّام يقف بعيدًا آلاف الأميال عن مسرح الجريمة؟ ولأنّي كنت - ولا زلت - بحاجة إلى صرخة تطلع من أعمق نقطة في نفسي، فقد كنت أريد أن أفعل شيئًا بيدي، أن أصيح وأن أشتم وألعن وأن أبكي، أردت أن أمارس فعلًا مباشرًا فلم أجد غير وقائع ألمي اليوميّ.




بين رسم الصرخة والصرخة ذاتها تقع مسافة التأمّل والتريث ومحاولة إعطاء المران الأكاديمي فرصته في البناء والمراجعة، تلك التي تعمل مع العقل البارد المتأمّل والذي لا بدّ منه في مختلف أنواع الفنّ، سوى أنّي في هذا المشروع تركت يدي تعمل على هواها، بما تجده متناسبًا مع وقع الحدث وحدّته وهوله، خصوصًا وأنّني تعرّضت لأحداث كهذه في الحرب الأهلية اللبنانيّة ومررت بأوقات مخيفة وذقت مرارة الاقتراب من الموت والوقوف أمامه وجهًا لوجه.
ومع استغراقي في العمل وجدت أنّ أكثر ما يناسب ما كنت أفعله هو التعبير الذي أُطلِقَ على طريقة تصدّي المقاتلين الفلسطينيّين للنازيّين الصهاينة في أثناء العدوان على غزّة (القتال من المسافة صفر) فسمّيتهُ (الرسم من المسافة صفر)، حيث لا فسحة للتأمّل بين الرؤية والألم، بين الرسّام وقلبه.

صوت الفنّ هو الأبقى
(*) ماذا أردت أن تقول لنا من خلال العشرين لوحة التي أنجزتها منذ بدء حرب الإبادة الجماعيّة التي يشنّها جيش الاحتلال الصهيونيّ ضدّ قطاع غزّة، منذ أكثر من 290 يومًا على التوالي؟
عرضتُ عشرين لوحة مادّتها عذاب الناس في غزّة، وفداحة الجريمة التي تجري هناك، لكنّي في الحقيقة رسمت عشرات اللوحات وبأحجام مختلفة وبمواد سهلة وطيعة، مواد سريعة الجفاف تتناسب مع إيقاعي المتوتّر في أثناء العمل، وفي حالتي هذه بالإمكان تسميتها (سريعة الاشتعال)، كأقلام الرصاص والحبر الملون والباستيل على أوراق متنوّعة الأحجام تتيح الانتقال من مشهد إلى آخر بسهولة.
الرسّامون يصنعون أشكالًا جديدة، وهذا ديدنهم، بالنسبة لي تركت يدي تطلع بالشكل الذي تجده مناسبًا ولم أُجر أيّ تغيير أو إضافة أو حذف، هي صرخة انطلقت وهي تنظر فزعةً إلى حدث جلل وجريمة مهولة حاز فيها الصهاينة كلّ أرقام السبق القياسية في القتل والدم في كلّ تاريخ البشريّة، لا سبيل إذًا لتعديلها أو إعادة تشكيلها، هي خرجت هكذا، صرخة.
كان عرضًا مختلفًا عمّا اعتدت عليه من حيث طريقة العمل وبواعثه ومادّته.
ما الذي أضفته؟ أضفت صورًا من ألمي الخاصّ ستوضع إلى جانب صور آلام الضحايا التي ملأت العالم، رغم معرفتي أنّ ما أمرّ به لا يداني عذاب الفلسطينيّين في شيء.

(*) إلى أيّ مدى تمكّنت في هذا المشروع من الاقتراب من إيقاع الحدث والوصول إلى أقرب نقطة منه، وبأيّ معنى كان هذا الاقتراب والاندماج وجدانيًّا وروحيًّا بالحدث وتصويره، لا بل والتحديق فيه بقوّة؛ قوّة لا تترك مجالًا للعين لترى شيئًا سواه؟
الاقتراب والاندماج بالحدث وجدانيًّا وروحيًّا وتصويره بأقلّ ما يمكن من الأكاديميا، والتحديق فيه بقوّة لا تترك مجالًا للعين لترى ما عداه، ذلك ما حاولت فعله وكتبته في كرّاس المعرض، لكنّي أحيلك إلى ما كتبه الناقد خالد خضير الصالحي، فهو يقترب كثيرًا ممّا يمكنني قوله والاستشهاد بمُشاهد حصيف مثله يصير أكثر فائدة هنا: "يبدو معرض يوسف الناصر عن غزّة "الرسم من المسافة صفر"، وكأنّه مسافة (صفريّة) يتّخذ الرسم فيها مقاربة استثنائيّة للأحداث الدمويّة الجارية الآن، فيتّخذ، بالنتيجة، معنى مغايرًا تمامًا، حتّى ليبدو أنّ (لا مسافة) بين العمل الفنّيّ وبين الواقعة الحياتيّة، و(لا مسافة) زمانيّة كما هي (لا مسافة) فكريّة، فكانت الدفاتر التي ينجزها يوسف الناصر عن أحداث ويوميّات غزّة، هي أحداث من نمط خاصّ جدًا، يوميّات يتوحّد فيها فعل الرسم ومادّيته مع حرارة زمن الواقعة الحياتيّة، وغرائبيّته بمقاييس ما متعارف عليه في وقائع سابقة، وإنّ يوميّات غزّة تعني فيما تعني أنّ لا انفصال أو مسافة بين إيقاع اللوحة وهول الواقعة وفجائعيّتها... إنّ الرسم بدرجة الصفر يماثل الحرب بدرجة الصفر، وهي حرب تدور رحاها اليوم، فلا وجود لتأجيل في زمن الإبداع، وعلى فنّ الرسم أن يجد الوسائل التي تتيح الانغماس المباشر بالحدث اليوميّ المفجع، وأن لا ينتظر حتّى (تتضّح الرؤية)، فلا اتضاح أكبر من لحظة الواقعة ودمويّتها...".

(*) بعد أن تحوّلت اللغة العربيّة عندك "إلى حائط بارد وعالٍ" من هول قسوة وحدّة ما جرى ويجري في غزّة، حسب تعبيرك؛ أسألك: إلى أيّ مدى تؤمن بالفنّ عزاءً وخلاصًا؟
أؤمن بعمق بقوّة الفنّ، لهذا كرست حياتي كلّها له، وأظن أنّ التاريخ يعلّمنا أنّ أصوات المدافع أعلى دائمًا، لكنّ صوت الفنّ هو الأبقى. الفنّ أُسٌ عميقٌ في روح الإنسان وإنسانيّته، في الحضارة وتطوّر وصعود البشر إلى مراتب أرقى، لهذا يجد فيه المتخلفون والأشرار والنازيّون، قديمهم وحديثهم، يجدون فيه العدو الأوّل قبل السلاح.

نبتت عشبة مرّة في ريقي
(*) تتساءل: "هل هناك معنى ما خلف مصادفة أن يكون موقع المعرض في أحد فروع ساحة الباستيل حيث اقتحم الثوار الفرنسيّون السجن الرهيب في ثورة غيّرت مسار التاريخ يوم 14 تمّوز/ يوليو 1789؟". لكنّك لم تجب على سؤالك هذا، ما يدفعني لإعادة توجيهه لك منتظرًا الجواب؟
أنا مثلك تساءلت وأنتظر الجواب، نعم كان ذلك مكان المعرض، كنت أرى النصب العظيم من النافذة وأجلس أحيانًا لأشرب قهوتي في أحد المقاهي المحيطة بساحته، وأقول لنفسي: ربّما كان بعض أحفاد الثوار الفرنسيّين يجلسون قريبًا مني الآن، وربّما كان بعضهم بين زوّار معرضي عن فلسطين، وربّما كان منهم من حدثني عن ثورة أخرى ستطيح بأكبر وأعتى باستيل عرفته البشريّة هو وبُناته وحراسه وداعميه القتلة الأسطوريّين.

(*) ماذا عن انطباعات الجمهور غير العربيّ، خاصّة الفرنسيّ ولا سيما الفنّانين والكتّاب والشعراء، التي وصلتك، عن لوحات المعرض وجرائم الإبادة لا تزال مستمرّة؟
على الرغم من طبيعة الموضوع الصعبة كان الحضور معقولًا جدًا، وازدحمت القاعة الصغيرة بالزوار ليلة الافتتاح. أسعدني وجود بعض العرب، خمسة أو ستة عراقيّين وتونسيّة واحدة بين الجمهور الفرنسيّ، إضافة إلى عدد من اليهود الذين أبدوا اهتمامًا بالمعروضات والحدث.
جرت أحاديث شتّى بين الحاضرين عن اللوحات المعروضة، والتي كانت تؤدّي دائمًا إلى الحديث عن الوضع المرعب الذي يعيشه الناس في غزّة، وحيث يتداخل الأمران: اللوحة والحدث، فذلك ما كنت أسعى لتحقيقه، فهو بالنسبة لي إحدى علامات نجاح المسعى.
صار عذاب الغزّيّين والجريمة المروّعة التي تُرتكب هناك بحقّهم كلمة سرّ الأمسية، ولم تكن اللوحات سوى المدخل المناسب لذلك. ولأنّ أغلب الحاضرين هم من المثقّفين الفرنسيّين، كتابًا وشعراء وفنّانين، فربّما يوفّر ذلك فرصة لوصول بعضٍ ٍمن صورة الحدث المهول إلى جمهور أوسع.

(*) كفنّان، ما الذي تغيّر فيك اليوم بعد كلّ ما شاهدناه من فظاعات وجرائم وحشيّة ارتكبها جيش الاحتلال الصهيونيّ بقطاع غزّة منذ نحو عشرة أشهر؟
تغيّرت تفاصيل ووقائع أيّامي والكثير من شؤون حياتي، صرت أشعر بألم شديد وأكاد أختنق من الغيظ الذي يعتمل في روحي. روتين عملي الفنّيّ وطرق ممارسته لم تعد كما هي؛ لم تهدأ روحي ولا عقلي منذ أن بدأ الهجوم النازيّ على غزّة إلى اليوم. تخربت أيّامي ونبتت عشبة مرّة في ريقي، لأسباب نشترك بها جميعًا وأسباب أخرى خاصّة بي، فقد عرفت الفلسطينيّين عن قرب وعملت وعشت بينهم سنوات طويلة، ولي أصحاب ومعارف من كلّ فلسطين ومن غزّة. الفلسطينيّون هم الذين حمونا، نحن العراقيّين، وآوونا عندما هربنا من ظلم البعثيّين في العراق. لكنّي لا أفعل شيئًا كردّ لدَين وإنّما هو دفاع عن الأهل والرفاق والوقوف معهم ومشاركتهم محنتهم، وكنت سأفعل الشيء ذاته في كلّ الأحوال، وأيضًا وكما قلت سابقًا فإنّي أرسم ألمي الخاصّ الطالع من العذاب الذي أراه يوميًّا.

(*) أخيرًا، ماذا بعد "الرسم من المسافة صفر"؟
ما زلت مستمرًّا في العمل على "الرسم من المسافة صفر"، ولم أنته بعد. لا يزال الناس يتعذبون ويموتون وتهدم بيوتهم وحياتهم، وأتمنى أن تتوافر فرص أخرى لمعارض جديدة من أجل إبقاء معاناة الغزّيّين تحت الضوء.


****

يوسف الناصر:
ولد الفنّان التشكيليّ العراقيّ يوسف الناصر في مدينة العمارة جنوب العراق عام 1952، ودرس في مدارسها، وهو حاصلٌ على البكالوريوس في الرسم من "أكاديمية الفنون الجميلة" في بغداد عام 1975، وماجستير في الفنّ من "جامعة مدلسكس" في لندن. واستمرّت دراسته للفنّ بعد مغادرته للعراق على مستويات مختلفة كالاشتراك في المشاغل الفنّيّة مثل "المشغل العالميّ للغرافيك" في ألمانيا، أو الدورات الجامعية مثل "بوليتكنيك لندن" وغير ذلك.
غادر الناصر العراق عام 1979 هربًا من البعثيّين وعاش في لبنان وسورية وقبرص، وهو يعيش ويعمل في لندن منذ عام 1990.
أقام عدّة معارض فنّيّة فرديّة واشترك بمعارض جماعيّة كثيرة منذ معرضه الشخصي الأوّل في بغداد عام 1977 وحتّى اليوم، في معظم الدول الأوروبيّة وأميركا واليابان والدول العربيّة.
انضمّ الناصر إلى جمعيات وتكوينات ثقافيّة متعدّدة وبادر مع الدكتور محمد مكية إلى تأسيس "جمعية الفنّانين العراقيّين" في بريطانيا عام 1992، وأسّس غاليري "آرك" أيّ "الكلك" أو "سفينة نوح" في لندن عام 1997 ولا يزال يعمل فيه.
وكان أن عمل مصممًا في صحيفة الحزب الشيوعيّ العراقيّ، "طريق الشعب"، منذ عام 1977، ثمّ في الصحافة الفلسطينيّة واللبنانيّة منذ عام 1979، ليعمل بعد ذلك مصممًا ومديرًا فنّيًّا لمجلّة "الهدف" الفلسطينيّة، ومجلّة الهلال الأحمر الفلسطينيّ حتّى عام 1990. وبدأ يوسف الناصر الكتابة بانتظام في الصحافة العربيّة الصادرة في بريطانيا منذ عام 1992 ناقدًا فنّيًّا ومراسًلا ومتابعًا للمستجدّات في الفنّ، كما عمل في التلفزيون والإذاعة وكان له برنامج خاصّ عن الفنّ في إحدى المحطات التلفزيونيّة الواسعة الانتشار.

من أعمال الفنان يوسف الناصر في هذا المعرض:








الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.