}

عن مناكفات محرقة غزة في "الفيسبوك"

راسم المدهون 28 أغسطس 2024
هنا/الآن عن مناكفات محرقة غزة في "الفيسبوك"
(غزة، Getty)

في موازاة المحرقة التي تعيشها غزة تحتدم حروب أخرى على صفحات التواصل الاجتماعي بين فئات واسعة من المثقفين العرب ونظرائهم الفلسطينيين حول نصرة غزة وفلسطين وحالة العجز العربي الشامل عن فعل شيء حقيقي مؤثر في سير الأحداث.

إنها حالة توصف عادة بأنها "كلاكيت" للمرة المليون يرث وقائع وحروبًا سابقة ويرث معها عجزًا عربيًا آخر وقع في حرب سابقة تكررت خلالها مشاهد الدم على شاشات الفضائيات، وتكرّر معها الكلام ذاته واللوم ذاته. وهي مسألة على ما فيها من تكرار، تؤكد المكانة التي تحظى بها فلسطين وقضيتها في وجدان العرب، بغضّ النظر عن البلدان التي ينتمون إليها أو حتى قربها أو بعدها عن أرض المعركة في فلسطين. والجدل حول هذا التقصير يشمل "مواقع التواصل الإجتماعي" عامة، ولكنه يشتعل أكثر على صفحات "الفيسبوك" حيث تتوفر مساحة أوسع وأكثر سخونة لجدالات وجدالات مضادة تلعب فيها الانتماءات والثقافات السياسية المختلفة دورًا كبيرًا ينتسب غالبًا للمعرفة وحتى المزاج الشخصي الفردي.

هي حال تشير في صورة غير مباشرة إلى ضعف الإرادة الشعبية العربية التي تضاءل حجمها حتى من خلال تسمياتها، فهي هبطت من برج الشعوب الذي كانت تجلس فيه في زمن مضى إلى مجرَد "الشارع" العربي على ما في المصطلحين من رمزية تشير إلى الحجم والفعل والدور، خصوصًا وأن مصطلح "الشارع العربي" يحمل اعترافًا ضمنيًا بتضاؤل المساحة أولًا، ويحمل "عفوية" التضامن ذاته وقصوره عن أن يكون ندًّا فاعلًا للحدث المأساوي، مثلما يشير إلى نوع من الخليط العشوائي بين البشر يكاد لا يجمع بينهم جامع مشترك.

في مقابل هذا، يمكن الحديث عن خيبة أمل فلسطينية ليست جديدة أيضًا ولا قليلة التكرار منذ نكبة عام 1948، وهي تندرج طيلة كل النكبات والكوارث الفلسطينية السابقة تحت عنوان شهير أطلقه ذات "نكبة" الشاعر الفلسطيني الشهيد كمال ناصر وهو شعار "يا وحدنا"، وما يحمله من معاني اليتم وافتقاد السند، خصوصًا وأن الغالبية العظمى من المواطنين العرب، ومنهم غالبية المثقفين، يشاهدون بأمهات أعينهم أن الموقف الرسمي العربي لا يفعل شيئًا تقريبًا، ناهيك عن ما في الساحة العربية ذاتها من تناقضات ومن تشويش نراه حاضرًا في تنوّع الاجتهادات، بل وتناقضها، تبعًا لمنابعها وما يقف وراءها من أفكار ومواقف سياسية وأيديولوجية لها أيضًا "أجنداتها" وانتماءات من يحملونها ويعبّرون عنها.

في أعقاب النكبة الكبرى عام 1948، كان الفلسطيني ولعقود لاحقة متّهمًا بالتقصير في الدفاع عن وطنه، بل وكان متّهمًا بأنه "باع أرضه لليهود"، رغم أن مساحة ما امتلكه اليهود من أرض فلسطين كان عشية النكبة لا يكاد يصل إلى خمسة في المائة من أراضي فلسطين. مع ذلك، فالوضع اليوم مختلف، وهو يشهد إلى جانب أحداث النكبة الكبرى في غزة اليوم انقسامًا فلسطينيًا يجد له صدى يقابله ويتناغم معه عربيًا، حيث تُتهم التيارات الاسلامية (على اختلافها وبصورة أساسية "الإخوان المسلمون") بأنها في جانب من يشعلون حرائق الاختلاف، وتأخذ على عاتقهم تأجيجه تحت شعارات كبرى تدعو لمقاومة الدولة الإسرائيلية بالسلاح كوسيلة دائمة تصلح في كل وقت وتحت أية ظروف، وتعيد من جانبها إذكاء الاختلاف الجوهري الفلسطيني، آخذة على عاتقها إعلاء هذا الخلاف وتصعيده إلى مقام التناقض بين مقاومين ومستسلمين على ما خلقه ذلك كله من صعوبات حالت وتحول دون تحقيق وحدة وطنية على أساس برنامج كفاحي واحد يلتزم به الجميع. وقبل "طوفان الأقصى" كان التيار الإسلامي الفلسطيني ومناصروه العرب يرفعون في وجه التيارات العلمانية الفلسطينية موضوع "التنسيق الأمني" باعتباره "دليلًا" على استسلام القيادة الفلسطينية الرسمية وتخاذلها، وكان تيار السلطة الفلسطينية بدوره يكيل للإسلام السياسي، وبالذات حماس، اتهامًا لا يقل فداحة حين يذكر الجميع بسنوات طويلة من تسهيل قوات الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة وصول الأموال إلى "حكومة حماس"، وهي المسألة التي يطالب سياسيون إسرائيليون بمحاكمة نتنياهو عليها باعتباره كان "يدعم حماس"، وكان بيبي يدافع عن نفسه بتهمة لا تقل فداحة حين يشير إلى أنه كان يقصد استمرار إقصاء حماس عن اللقاء مع السلطة الفلسطينية، وبالنتيجة تدمير حل الدولتين ومنع قيام دولة فلسطينية مستقلة في حدود الرابع من حزيران/ يونيو 1967.

تندرج كل النكبات والكوارث الفلسطينية تحت عنوان شهير أطلقه ذات "نكبة" الشاعر الفلسطيني الشهيد كمال ناصر وهو شعار "يا وحدنا" وما يحمله من معاني اليتم وافتقاد السند


اللوحة ذاتها تحتدم على صفحات "الفيسبوك"، مع كل تلك الخطوط العامة العريضة فإن الحرب الوحشية تخلق بدورها مناخًا آخر للتناقضات بين "سكان الفيسبوك" حيث في اللوحة بؤس الحياة في غزة يقابله "رغدها" في أماكن العالم الأخرى خارج غزة، بما فيها المناطق الفلسطينية الأخرى في الضفة الغربية، بما فيها القدس، وفي مناطق الاحتلال الأول عام 1948. ففيما تكاد تنعدم وسائل العيش من مأكل ومسكن وأمن وأمان في كل قطاع غزة، تتعالى صيحات المقارنة مع غيرها ويصبح من المنطقي بل والمألوف أن يرى الفلسطينيون من أبناء القطاع المنكوب في أية دعوة للصمود والمقاومة مجرّد ترف فكري يلهو به من يجلسون آمنين في بيوتهم وفي ظل التكييف والعيش السهل الرغيد. هنا بالذات أكاد أستعيد آلاف اللعنات التي أطلقها أهل غزة ضد مظاهر "العيش الطبيعي" لمن هم خارج غزة بما في ذلك الإعلانات التلفزيونية عن الحفلات العامة، أو برامج الطبخ التي تحرص على تقديمها كافة الفضائيات العربية، وهذا بالطبع ينعكس غالبًا في نقاشات المثقفين العرب مع نظرائهم من الفلسطينيين خصوصًا حين يتعلق الأمر بسؤال بالغ الصعوبة: ماذا فعلتم لنا؟

في حديث بين بعض الأصدقاء من الشعراء والكتاب قالت لي شاعرة مصرية صديقة كم أنها تشعر بالحرج من ممارسة عيشها بصورة اعتيادية، بل هي فوجئت حين قلت لها أننا رغم النكبة الكبرى لا نطالب أحدًا من العرب أن لا يعيش حياته. وضربت لها مثلًا بنفسي أنا ابن فلسطين وغزة الذي لا أعيش في غزة وأعيش خارجها حياة اعتيادية، ولم أتفاجأ حين أخبرتني أنني أول فلسطيني يقول لها هذا، وهي فوجئت كثيرًا حين أخبرتها أن عائلتي فقدت في محرقة غزة مئات الشهداء بالمعنى الحرفي للرقم، وليس من باب المجاز، وهم وهن جميعًا أعزاء يسكنون روحي، لكنني لا أجد مسوغًا لمناكفة أصدقائي من الكتّاب والمثقفين العرب بتحميلهم أوزار حالة سياسية وكيانية عربية مزرية بل بالغة الخنوع والتشرذم.

أقول هذا وأنا أتذكر قولًا لأحد المسؤولين العرب للفلسطينيين شاع في الخمسينيات وصار متداولًا ومثيرًا للسخرية السوداء حيث وعد الفلسطينيين أنه سيعيد لهم بلادهم بشرط أن يتعهدوا أنهم لن يبيعوها مرة أخرى!!

أما "المزايدة" فتلك فيروس آخر يبدأ من حق الفلسطيني في أن يحارب في الوقت المناسب وضمن ظروف دولية مناسبة وأن لا يفعل ذلك في ظروف أخرى. المشكلة هي في التمترس خلف كل من اللونين الأبيض والأسود؛ خصوصًا وأن الساحة الفلسطينية تعيش ما يكفيها من تمزّق وانقسام لا يقوم- للأسف- على تصنيفات سياسية موضوعية بل على عنوانين رئيسيين أحدهما مكافح والآخر مستسلم، وسيصبح هذا "التناحر" أشد فداحة حين يلاحظ المراقب الفوارق الهائلة والمساحة الشاسعة بين الحديث عن "انتصاراتنا" في غزة التي دفعت كثرًا من الناس لاعتبار ما يجري تحريرًا لفلسطين وبين واقع يقول إن "هذا التحرير تضاءل حتى بات وبتنا معه نطالب بانسحاب الإسرائيليين من محور فيلادلفيا - صلاح الدين ليس إلا".

وفي صفحات "الفيسبوك"، يمكنك أن تلحظ كمية الادّعاءات الهائلة بالقدرة العربية المستندة للنوايا بما فيها النوايا غير الصادقة بل المشكوك فيها إلى الحدّ الذي بات طبيعيًا أن يعتبر كثر من "سكان الفيسبوك" أن شرط الوطنية هو أن يعلن الإنسان إيمانه بـ"الكفاح المسلح" ويرفض الحلول الاستسلامية ويكيل الشتائم والتخوين للقيادة الفلسطينية، وهؤلاء لا يرغبون لحظة في "التفكير" المنطقي والحقيقي، ولو حاولت سيحدّثونك عن تضحيات الجزائر التي تبلغ مساحتها ضعفي مساحة غزة وفلسطين كلها بملايين المرات، ناهيك عن ستالينغراد وفيتنام ولاوس وكمبوديا وخذ ما شئت من الأناشيد.

أعتقد على عكس الشائع أن العرب معنا، والمأزق يقع في مكان آخر... إنه في الحالة أو الحالات العربية التي تنعدم فيها حرية الرأي ويغيب معها رأي المواطنين العرب وأنا لا أنسى لحظة مئات آلاف الشهداء العرب الذين سقطوا في حروب فلسطين وحروب المواجهة مع الاحتلال على حدود بلدان عربية أخرى، بل إن أحداث المحرقة الرهيبة التي تتعرّض لها غزة اليوم تؤكد لي بدون أدنى شك أن فلسطين قضية عربية بالمعنى الكامل للكلمة، وهي تفرض نفسها لا على المحتلين وحسب، ولكن أيضًا على أي برنامج للاستقلال الديمقراطي والتنمية في أي بلد عربي، وبالذات البلدان المحيطة بفلسطين. 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.