}

في وداع حسن سامي اليوسف: الحياة دراما كبرى

راسم المدهون 8 أغسطس 2024

غيّب الموت قبل أيام الروائي وكاتب الدراما التلفزيونية الفلسطيني – السوري الشهير حسن سامي يوسف عن عمر ناهز التسعة وسبعين عاما كرّسها للإبداع الأدبي والفني وحقق خلالها بعضا من أجمل الأعمال الفنية التي صنعت مجده وحقّقت شهرته على نطاق واسع.

حسن سامي اليوسف ولد في بلدة "لوبيا" الفلسطينية عام 1945 أي تمامًا في اللحظة التاريخية الدامية والصاخبة التي عصفت بوطنه فلسطين وأهله والتي أجبرت عائلته عام النكبة 1948 على الرحيل إلى لبنان لاجئين، قبل أن يعودوا مرة أخرى لمغادرة لبنان إلى العاصمة السورية دمشق التي عاش فيها عمره كله وحقق في فضائها الإبداعي أعماله الروائية والتلفزيونية والسينمائية على حد سواء.

حين أستعيد اليوم بعض قراءاتي لأعماله الأدبية والفنية أتذكر روايات مثل "الفلسطيني" و"الزورق" و"رسالة إلى فاطمة" وغيرها، وأستعيد نكهة ومذاقا سمته الأهم العذوبة والشجن الإنساني العميق، في بنائه لشخصياته الروائية والدرامية زخم وفورة الحس الإنساني الناصع في تعبيره عن عنصرين أراهما ميزاه ومنحاه غنى فنيا وغزارة عاطفية نبيلة تصغي بعمق للأزمات الروحية ومشاعر القلق والتوتر الإنساني، إذ هو أبرز كتاب الدراما التلفزيونية انتصارًا لأولئك الأبطال الفنيين الذين لا تليق كلمة وصف لهم مثلما هي كلمة "عشاق" التي تذهب بنا في صورة مباشرة نحو ذلك النبع الصافي لمصادر إبداعه بل لنقل بدقة أكثر مصادر عيشه ومخزون رؤاه للعالم والحياة والحب وقيم الصداقة النبيلة، خصوصًا في مواجهة رحلة طويلة مع الألم والعذاب الإنساني.

هو قدّم فيضًا من تلك المشاعر التي تداعب الفكر وتحاوره وتضع الحياة في مهب الحب في روايته الحارَة والنابضة بالعشق "رسالة إلى فاطمة"، وكان لافتًا وعميق المغزى أن يمنح أبطال روايته أسماءهم الحقيقية في الواقع بل وأماكن عملهم. ومع أنه لم يقصد كتابة رواية توثيقية إلا أنه بهذه "الصراحة الفنية" كان يضعنا في قلب الحياة الحقيقية وفي مواجهتها وكأنه يقول لنا إن الحياة ذاتها دراما نعيشها ونراها تتفاعل فينا وأمامنا.


هل يمكن قراءة حياة وفن وأدب الراحل بدون دمشق؟

حسن سامي اليوسف الفلسطيني الناصع، هو بالقدر ذاته الدمشقي الناصع والذي تحضر في وجدانه الداخلي بقوة وتجذر علاقته بالشام وأهلها وأزمنتها البعيدة حيث الطفولة الأولى، وحيث هو في كنف شقيقه الأكبر، الناقد اللامع الراحل يوسف سامي اليوسف... اليوم أتذكر ذلك الفصل الساحر من روايته والذي كان استعادة فنية وشبه توثيقية لحادثة هامة في حياته يوم "تاه" عن بيتهم في الشام فيما شقيقه وجيرانه يفتشون عنه حتى إذا وجدوه أخيرًا لم ينجحوا في تخليصه من غضب شقيقه يوسف الذي ضربه بشدة أمام الجميع... هي رحلة حياة فيها الكثير من الأحلام الموؤودة بقسوة اللجوء والفقر والبحث الشاق عن الآمال الشخصية التي راحت تناوش حلم الإبداع وبالذات المسرح في مرحلة البدايات. لا يدهشنا أن الراحل حسن سامي اليوسف عمل ممثلًا مسرحيًا، مثلما لا يدهشنا أنه كان أحد أبرز مؤسّسي "المسرح الوطني الفلسطيني" الذي احتضن عددًا كبيرًا من الفنانين المسرحيين الفلسطينيين وقدّموا معًا أعمالًا مسرحية هامة حقّقت نجاحات كبرى وطافت مدنًا وعواصم عربية كثيرة.

أثمن ما في تلك المرحلة هو "المنحة" التي قدّمتها له وزارة الثقافة السورية لدراسة الفن الدرامي دراسة أكاديمية والتي مكّنته من أن يكون أحد قلائل درسوا فن السينما وبالذات السيناريو. في حديث سابق مع الراحل قال لي إنه انحاز لكتابة السيناريو لأنه منحاز أساسًا لمخيّلته التي هي وسيلته وأسلوبه وأداته الفنية لتحقيق صورة العالم الواقعي في الفن الدرامي، وأتذكر أنه قال لي بأنه لهذا السبب مثلًا يعشق مشاهدة مباريات كرة القدم العالمية وهو يراها تجري وفق مخيّلة المدير الفني الذي هو "كاتب سيناريو المباراة" الذي يتوجّب على اللاعبين تنفيذه في المستطيل الأخضر كي ينجحوا في تحقيق الفوز، وذلك يشير بالطبع إلى "مركزية" دور كاتب السيناريو في خلق الوقائع المشهديّة ورسمها على نحو يجعل منها دراما تشبه الحياة وحياة تشبه الدراما وهو في ذلك واصل طيلة الوقت انتقاء ما هو جميل ويستحق الرؤية والمتابعة وهو ما تحقق من خلال نجاحات كبرى حققتها أعماله عند عرضها.

عمل حسن سامي اليوسف الدرامي الأول الذي شاهدته على الشاشة الصغيرة قبل عقود هو "شجرة النارنج" والذي يقوم على الصراعات العائلية بسبب الميراث، ومن يشاهده اليوم يلمس رهافة معالجته للتفاصيل الصغيرة والجزئيّات التي تبدو عادة عابرة وقليلة الأهمية. في كل فن الراحل ثمة إصغاء مرهف لتلك التفاصيل والجزئيات، فالحياة ذاتها تبدو في فنّه كل تلك اللحظات الخاطفة والسريعة التي تشكّل حياتنا كبشر وتحدّد لنا مآلاتنا الكبرى، وهو في "شجرة النارنج" كأنه يقدم تحية الفنان للشام مدينته التي عشقها وأدمنها، ويقارب مجتمع الشام وتناقضاته الداخلية، الطبيعية والبسيطة، والتي ترسم صور العلاقات والمشاعر الإنسانية.

بين ملامح تجربته كلها تبدو شراكته مع صديقه الكاتب نجيب نصير حاضرة بقوة ومثيرة لأسئلة النقاد والمتابعين الذين طالما عبّروا عن حيرتهم إزاء "الكتابة الدرامية المشتركة"؛ خصوصًا وأن فن الدراما يرتكز أساسًا على إبداع الخيال الفردي الذي يصعب أن يتوافق مع خيال فردي آخر. مع ذلك كانا معًا، حسن سامي اليوسف ونجيب نصير، لا يرغبان في الحديث عن هذا الأمر أو حتى محاولة توضيحه وهما بذلك فتحا الباب للمقارنة بينهم وبين تجربة الرحابنة رغم أنهما ليسا أخوين بالطبع.


لا يمكننا قراءة تجربة حسن سامي اليوسف الفنية بدون الإشارة إلى تأثّره الإيجابي بالسينما السوفياتية، وهو التأثير الذي نراه من خلال إيقاع مشاهده مثلما من خلال اهتمامه العميق بالأدوات والأساليب الفنية التي تقوم على اختيار السهل العميق والانحياز للواقعية خصوصًا الانحياز للإنسان باعتباره غاية وهدفًا.

يأخذنا هذا مثلما تأخذنا فاجعة غيابه اليوم إلى عمله الدرامي الأجمل والأهم في رأيي وهو مسلسل "الغفران" والذي "نهض" على معالجة درامية فيها الكثير من الجمال العميق لفكرة "الغفران بين حبيبين"... هنا بالذات برع المبدع الراحل في "تشريح" الطبيعة الإنسانية القلقة والتي تنوء تحت أثقال الحياة وتناقضاتها وقدرة تلك التناقضات على توجيهنا كبشر نحو مآلات قد لا تكون صائبة أو بالأصح قد تتناقض مع مشاعرنا وأحاسيسنا الشخصية، الفردية والمنذورة لما هو أسمى وأكثر انحيازًا للخير... هي قراءة درامية يحلو لي أن أسمّيها كما قلت له مرّة "دراما دامية" وكان يوافقني ويزيد قائلًا: هل أنا من جعلها هكذا؟

"الغفران" دراما وعي العلاقة بين الحب والتسامح وما في هذه العلاقة من ارتقاء لا ينكر الأخطاء ولا يحاول تجميلها ولكنه ينحاز إلى ولع الراحل بفكرة الانتصار للحب باعتباره قيمة كبرى، بل باعتباره غاية الغايات القادر على انتشال الإنسان من بدائيته وجموحه.

كان من الجميل أيضًا أن يتحقق ذلك المسلسل الرائع على يد المخرج الاستثنائي الراحل حاتم علي الذي برع في تقديم الجمال اللازم لجعل "الغفران" واحدًا من التجارب الدرامية السورية الكبرى، ولا أنسى هنا تألق الممثلين البارعين سلافه معمار وباسل خياط.

تجارب الراحل حسن سامي اليوسف السينمائية حملت أيضًا تنوّعًا وغنى وانحازت في صورة حيوية للقضايا الاجتماعية والإنسانية، رغم أن الفارق الانتاجي بين السينما والدراما التلفزيونية في سورية ظلّ لصالح الدراما الحاضرة بقوة ليس في سورية وحسب، ولكن في كل البلدان العربية الأخرى خصوصًا في شهر رمضان.

حسن سامي اليوسف مثقف فلسطيني قلق، بل أقول ببساطة منسوج من القلق الفني والإنساني الذي كان يأخذه غالبًا إلى قريته هناك في فلسطين "لوبيا" التي دمّرها الاحتلال الاستيطاني- الإحلالي تمامًا، والتي عاشت مع الراحل باعتبارها قضية اليوم وغدًا والعمر كله.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.