}

في ذكرى محمد القيسي: ناي المنافي الحزين

راسم المدهون 18 أغسطس 2024
آراء في ذكرى محمد القيسي: ناي المنافي الحزين
محمد القيسي (1944 ــ 2003)

في الحضور الزمني، رافقت تجربة الشاعر الفلسطيني الراحل محمد القيسي ثلة من أبرز وأهم شعراء فلسطين الذين نصفهم عادة بـ "جيل الستينيات": محمود درويش، سميح القاسم، فواز عيد، وليد سيف، عز الدين المناصرة، أحمد دحبور، ومريد البرغوثي... وهم شكلوا منفردين ذائقة جمالية بنكهات وألوان مختلفة حملت بصمة كل واحد منهم مثلما حملت كثيرًا من ثقافته ورؤاه للشعر والحياة معًا.
محمد القيسي ابن قرية "كفر عانة" 1944 عاش للشعر ومعه، منتميًا بكليته لرغبته العميقة في إطلاق هتافه الجمالي المنسوج من ولع فردي هو مزيج من الحنين الخافت، ولكن الجامح والمتحفز للتعبير عن رؤى شعرية حققت منذ البدايات الأولى قطيعة مع كل ما هو تقليدي و"راسخ" من تقاليد الشعرية الفلسطينية، وذهب لاستشراف والتعبير عن "ضفاف أخرى" فيها هو الشاعر الفرد الذي يلخص في ذاته وتجربته الإنسانية والفنية معًا ترحال الفلسطيني بين البلدان والمدن، والتعبير عن ولعه بذلك الترحال الذي شكل غربته في الأماكن كلها، إذ هو يحدق في صورة وطنه ويظل ناظرًا في اتجاهه دائمًا. هو بهذا المعنى "تروبادور" التجربة الشعرية الفلسطينية الذي راهن على قوّة الشعر بوصفه صوت الذاكرة والحنين معًا. من يعود إلى تجربته الشعرية الغزيرة اليوم يلمس أنه عاش تلك التجربة كلها "مسافرًا" في المكان والزمان معًا وراء بلاد تنأى وتبتعد بناسها المنثورين في الأرض:
"ألا من يبلغ الأحباب أنا ما نسيناهم".
الفتى الذي أطلق ذلك الهتاف الخافت في ديوانه الشعري الأول "راية في الريح" (1968) ظل عبر العقود اللاحقة، وما أنتجه خلالها من شعر، يتبع خيط ذلك الحنين، ويسافر خلفه في أماكن لا تحصى. لكن الأهم أنه ظل قابضًا على جمرة الشعر وتوهجها، والتعبير بها عن حالة حزن مختلف ظلت تميّزه عن أبناء جيله، وظل يواظب على استقراء ملامحها في عيون أهله وأبناء شعبه... محمد القيسي، المغني الجوال كان يؤثث ذلك الحزن بمفردات الغربة والحنين لوطن شائك، وسنرى أن هذا الحزن كان منذ البدايات الأولى في "راية في الريح" حزنًا تحتشد فيه خطوط أمل كان ينمو ويختفي، ولكنه لا يختفي تمامًا:
"ربما يمهلني الموت قليلًا لأغني
لك يا قرآن حزني".





عالم محمد القيسي الشعري كان خلال عقود حياته كتبه وهو يتجوّل وحيدًا ويرى أقاليم الحب والعيش والاغتراب واضحة في الوجوه والأماكن... هو شاعر اللغة المثخنة بوجع لا يكاد يتوقف حتى يشتعل، والقيسي خلال ذلك ينتقل بحزنه بين أمه "حمده" التي كرَس لها ثلاثية، وبين عشقه الأبدي للنساء والمدائن الكثيرة وهو فيها دائمًا عنترة الذي ينشد لعبلة، ويرسم قلقهما معًا، بل هو اختار قصائد تحت عنوان "رماح عنترة، هودج عبلة" كأناشيد حب عصري يمزج العشق بالحياة وموضوعاتها الراهنة. هي تجربة شعرية تقارب نشيدًا واحدًا متواصلًا، وإن يكن بمقطوعات متتالية تأخذ واحدة بيد الأخرى، ولعلنا اليوم في ذكرى رحيله عن عالمنا نقف أمام تلك الرحلة الشعرية الكبرى بتأمل ما حملته لنا في سياق مجموعات الراحل الكثيرة، والتي عكست غزارة أعتقد أنها غير موجودة عند أي من زملائه ومجايليه: ذهب شعراء الستينيات الآخرون نحو قصيدة وطنية تنحو بصور مباشرة، أو غير مباشرة، نحو الموضوع الفلسطيني (غالبا باستثناء محمود درويش طبعًا)، فيما تجوّل القيسي في أقاليم الحزن الفلسطيني، والتي تكمن خلف كل شجرة من أشجار التراجيديا الوطنية الفلسطينية، والتي منحته تلك النبرة الحزينة منذ بداياته الأولى، ولفتت انتباه ناقدين مصريين هامين هما غالي شكري، ورجاء النقاش، فأشارا لها عند صدور مجموعته الشعرية الأولى "راية في الريح" عام 1968:
"ولإشبيلية
كل هذا الفضاء الموشح بالقطن والبيلسان ولي
هذه الأقبية
يا إلهي، أنا
كم مريض أنا يا إلهي فخذ بيدي
عند أقدام إشبيلية
المحطة؟ لا أعرف الآن شيئًا،
وأعرف كراس هذي البنية
أعرفها من قديم".



محمد القيسي في بنائياته الشعرية ظل دومًا ملتصقًا بفكرة التعبير فنيًا من خلال الصورة الشعرية الواضحة، والتي تصل للقارئ بيسر، ولعل هذه الميزة رافقته في مجموعاته الشعرية كلها، فهو "المغني الجوّال" الذي يلعب دور "الحكّاء الشعري" بسلاسة اكتسبت حيويتها من غنى موضوعاته أولًا، ثم أيضًا من التزامه بالتعبير عن ولع فني وإنساني باستحضار الشتات الفلسطيني، الواسع والمفتوح على أربعة أركان الأرض، حيث تجول ورأى واستعاد ذلك في لوحات فنية حملت ــ غالبًا ــ حرارة القول ودفء الأحاسيس والمشاعر، فنحن أمام تجربته الشعرية نلحظ بوضوح أنها في العموم نجحت في إقامة تواصل حيوي مع القارىء بصورة أكبر من أي شاعر آخر من مجايليه:
"الثلاثاء دمع الأسابيع
طفل كذوب
يجرُّ قطيعًا من السنوات
في ثلاثاء لم تأت بعد
كنت آخذها في اتجاه البراري وتأخذني في اتجاهي
في ثلاثاء جاءت
شربت أغاني يديها
شربت البابونج حتى غفت يا إلهي
غفت
يا إلهي
غفت
واستفاقت مياهي".
هي لغة من رونق الحلم ورؤيته للواقع الذي يشبه ولعًا بالجمال، ومحمد القيسي أدمن طيلة تجربته كتابة شعرية تقارب الفن التشكيلي وتمزجه بروح الشعر وفنياته وانسيابيته على نحو يقدم في كل مرّة مشهدًا له عناصره وتكويناته، فيما لا تخفى نزعته الدرامية التي يتسلل من خلالها سرد حميم يأخذنا معه إلى تخوم "حكايات" فارهة أثثها بلوحات حياة، ومن المهم الإشارة هنا إلى رهان الشاعر على مقاربة تأملات روحه الداخلية التي تلامس فرديته كإنسان، وهو نجح في تلك الملامسة بمزجه لتلك العوالم الفردية، وما تحمله من مشاعر فردية بالهم الإنساني الجماعي، بل وأيضًا بالقضايا الكبرى من عمقها وحقيقيتها، وليس من خلال عناوينها.




محمد القيسي، التروبادور المتجول والناي الحزين، غنى شجونه وشجون أهله في أزمنة فلسطينية عاصفة حدق فيها وحدق معه شعره وموهبته برهافة جمعت حيوية الرؤيا إلى جماليات التوتر الفني وحركية الكتابة الشعرية المسكونة بالشعر كفن جمالي أولًا، وهو حرص رأيناه يطوره من مجموعة شعرية إلى أخرى، وهو الذي تجاوزت مجموعاته العشرين من دون أن ينسى الرواية، وكتابات متنوعة أخرى أثرت التجربة الشعرية الفلسطينية، وجعلته أحد فرسانها الكبار، وهو الحاضر دومًا بنضارة ما كتب، وجمال ما أبدع.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.