}

حسونة المصباحي: غياب النقد الجادّ يزيد في إرباك القراء

حسين بن حمزة 1 ديسمبر 2023
حوارات حسونة المصباحي: غياب النقد الجادّ يزيد في إرباك القراء
أصدر المصباحي أخيرًا رواية "ليلة حديقة الشتاء"
عاش الكاتب التونسي حسونة المصباحي سنوات طويلة خارج بلده، ولكن أغلب رواياته واظبت على أن تحضر تونس فيها، أن تستعيد أمكنته الأولى ومكونات ذاكرته وطبائع مجتمعه وتحولاته. كان أبطال رواياته يواصلون حيواتهم في الخارج. يحفّون ذواتهم وأفكارهم وطموحاتهم مع العالم الغريب، ويعودون من حين إلى آخر، ليمتحنوا تلك الذوات في ظلال البيئة الأولى. أحيانًا، تكون تلك العودة نهائية، وأحيانًا على شكل زيارات فقط. وأحيانًا، يتكفل السرد الروائي بصياغة ذلك.
بين هاتين الضّفتين يتحرك السرد في روايات المصباحي، الذي يكشف في أعماله عن جوانب ومناخات وتفاصيل من سيرته الذاتية، ولكنه يستدرك دومًا ليقول إن أعماله، وإن كانت تستثمر سيرته، ولكنها لا تتطابق تمامًا مع هذه السيرة. إنها ليست يوميات، أو مذكرات، بل عالم سردي مشحون بمكونات عديدة، ولا تغيب عنها مثلًا تلك اللقاءات التي تحدث بين أبطاله الشرقيين، وبين نساء وثقافات وأمكنة عوالم الاغتراب؛ الاغتراب الذي يشير المصباحي إلى أنه عاشه حتى وهو في بلده قبل أن يتركه لأكثر من عقدين، ويقيم في ميونيخ الألمانية. وهذا ربما يفسر أنه بعد عودته النهائية فضّل العودة والعيش في قريته الصغيرة البعيدة عن العاصمة.
هنا حوار حول تجربته، وذلك لمناسبة صدور روايته الجديدة "ليلة حديقة الشتاء"، التي وصلت إلى القائمة الطويلة لـ "جائزة الشيخ زايد":



(*) لنتحدث أولًا عن بداياتك. ما الذي قرأته وقتها، وما هي المؤثرات التي دفعتك إلى الكتابة، وكيف بدأتَ النشر وصولًا إلى صدور كتابك القصصي الأول "حكاية جنون ابنة عمي هنية"؟ 
لعل ميلي للكتابة بدأ قبل أن أعي بذلك... خلال السنوات الأولى التي كنت أتردد فيها على الكتاتيب في الريف الفقير الذي كان آنذاك منقطعًا عن العالم. كنت أحب أن أملأ فمي بالفحم، ثم أشرع في كتابة حروف وجمل على أواني الأكل والطبخ التي كانت من الطين. ورغم العقاب الذي كانت تسلطه عليّ والدتي بين وقت وآخر، فإني واصلت ذلك بمتعة لم تكن تضاهيها أية متعة أخرى. لذا كان فمي أسود دائمًا. وفي ما بعد، سوف ألتزم بالكتابة بالحبر الأسود من دون غيره. وكانت الحكايات التي يرويها أهلي في سهرات الليل تشدني إليها، حتى أن النوم يهرب عني، فأظل ساهرًا مع الكبار حتى ساعة متأخرة من الليل. وسيبرز تأثير الحكايات الشفوية في عدد من قصص مجموعتي الأولى "حكاية جنون ابنة عمي هنية"، وفي مجموعتي الثانية "السلحفاة". وخلال سنوات الدراسة الابتدائية، ثم الثانوية، أقبلت على قراءة الكتب العربية والفرنسية، الشعرية والنثرية على حد السواء. والتأثيرات كانت مختلفة ومتعددة. وهذا ما بينته في سيرتي مع الكتب في كتابي "بحثًا عن السعادة". تأثرت في البداية بكتّاب وشعراء فرنسيين، من أمثال بودلير، وفيكتور هوغو، وفلوبير، وألبير كامو، وسارتر، ثم توسعت التأثيرات لتشمل الأدب الروسي، متمثلًا بالخصوص في دوستويفسكي، وتولستوي، وغوغول، وتشيخوف، وبالأدب الأميركي، متمثلًا في مارك توين، وإدغار ألن بو، وهيمنغواي، وويليام سارويان، وفوكنر، وهنري ميلر، وآخرين كثيرين. ولا أنكر تأثير كتاب عرب في مسيرتي آنذاك. وأخص بالذكر طه حسين، وتوفيق الحكيم، ويوسف إدريس، ونجيب محفوظ، والطيب صالح، وغسان كنفاني. كما أني كنت أقبل على قراءة الشعراء العرب المحدثين بالخصوص.

(*) لم تتأخر كثيرًا في مغادرة تونس، التي قلت أكثر من مرة إنك كنت تشعر فيها بغربة من نوع خاص. سافرت كثيرًا، وعشت في ميونيخ أكثر من عقدين. ماذا أعطاك المكان الغريب، وكيف ظهر تأثير السفر والتجوال على كتاباتك ورواياتك؟
أظن أن قرار الهجرة كان قرارًا صائبًا وحكيمًا، لأنه أخرجني من دائرة ضيقة، أعني بذلك الثقافة التونسية الرسمية منها بالخصوص. مبكرًا، اكتشفت أن بقائي في تونس لن يجعل مني كاتبًا بالمعنى الحقيقي للكلمة. لذلك تمردت على الوسط الثقافي التونسي وأنا دون سن العشرين، ونشأت بعيدًا عن الحلقات الرسمية مُنضمًّا إلى فتية كانوا يقاسمون غضبي وتمردي. وهؤلاء كانوا يقرأون كتبًا مجهولة، ويتحدثون عن كتاب وعن شعراء وعن فلاسفة لا يعرفهم أحد من رموز الثقافة الرسمية. وكانوا يطلقون أفكارًا تثير غضب وحفيظة كل الذين يفكرون ويكتبون تحت سيف الرقابة الذاتية والرسمية. وخلال سنوات الدراسة الجامعية، خُضْت تجربة سياسية قصيرة مُنجذبًا إلى الأفكار اليسارية. وبسبب ذلك دخلت السجن، وفُصلت عن عملي لأعيش سنوات مريرة عرفت فيها التشرد والجوع. كل هذه العوامل أقنعتني بأن الخلاص لا يتحقق إلا في ترك بلادي. وهذا ما فعلته حال حصولي على جواز سفري في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي. وأعتقد أن السنوات الطويلة التي أمضيتها في مدينة ميونيخ الألمانية هي التي عمّقت تجربتي في الحياة، وفي الكتابة، ووسّعت آفاقي المعرفية، وخلصتني من شوائب كثيرة. وما تعلمته في الغربة هو أن مجالًا واحدًا ليس كافيًا بالنسبة لي. لذا تعددت أنماط الكتابة عندي. فكتبت القصة والرواية والمقال النقدي. كما كتبت في أدب الرحلة، وفي أدب اليوميات، وفي أدب السيرة.

(*) في روايتك الجديدة، "ليلة حديقة الشتاء"، يستعيد بطلها مقولة للكاتبة غيرترود شتاين، وهي أن العمل الفنّي لا يمكن أن يُنْجَزَ إلا في مكان بعيد، أو في مكان آخر غير المكان الذي يعيش فيه الكاتب. إلى أي حد ينطبق هذا على رحلتك في الكتابة؟
نعم، يمكن أن تنطبق هذه المقولة على كتاباتي، لكن يتوجب عليّ أن أشير إلى أن الكاتب يمكن أن ينجز عمله بعيدًا عن المكان الأول، شرط أن يمتلك معرفة جيدة ودقيقة عن هذا المكان. وأنا في ميونيخ كتبت قصصي ورواياتي مستحضرًا دائمًا المكان الأول بشخوصه وأحداثه وتفاصيل حياته، بحيث لم يكن يغيب عني أبدًا. صحيح أنني ابتعدت عن وطني جغرافيًا، لكنه ظل كامنًا فيّ روحيًا. وحتى عندما عدت إلى تونس، فإني اخترت أن أكون بعيدًا عن العاصمة التي يتجمّع فيها كل الشعراء، وكل الكتاب، وكل المهتمين بالكتابة. إن الوحدة بالنسبة للمبدع أساسية وجوهرية، سواء كان داخل وطنه، أم بعيدًا عنه.

(*) في الرواية نفسها، تقدّم للقارئ نوعًا من الرحلة، حيث يزور بطل الرواية وصديقته الألمانية مدريد وطنجة وباريس.. ثم يزوران تونس. وفي تلك الفصول، تحضر، بطريقة واضحة، أو مواربة، تجربتك وصداقاتك. إلى أي حدّ يمكن القول إن ثمة سيرة شخصية في أعمالك؟
أنا من الذين ترتبط أعمالهم الأدبية بسيرهم. ولعل ذلك يعود إلى أنني عشت تجارب حياتية مهمة وعميقة للغاية. وأنا لا أُقبل على قراءة الروايات التي تستند إلى مواضيع، أو إلى أحداث، أو إلى قضايا تاريخية، أو اجتماعية، أو سياسية... لذلك أميل إلى الكتابة الحميمية، وإلى أعمال يمكن أن تعكس صورة، أو سيرة كاتبها، بشكل واضح، أو بشكل خفي. وقد نجد في روايتي "ليلة حديقة الشتاء" جوانب من حياتي، إلا أنها ليست سيرة ذاتية. لذلك ليس هنالك شخصية محورية في الرواية، بل نحن أمام شخوص كثيرة ومختلفة، بعضها معاصرة، وأخرى قديمة، عربية وأجنبية.


(*) من جهة أخرى، تتضمن الرواية أحداثًا وتفاصيل وتواريخ مع شخصيات أدبية (أدونيس، عبد الوهاب البياتي، محمد شكري، بول بولز، خالد النجار...) يلتقي بها البطل وحده، أو هو وصديقته. ألا تخشى من اختلاط اليوميات والوقائع بالسرد الروائي، خصوصًا أن ذلك يمكن أن يزيد من المنسوب الثقافي على حساب الأحداث العادية في الرواية. قد يشعر القارئ أن هنالك بعض الصفحات تبدو أشبه بكتابة المقال، أو سرد تاريخ معين؟
مثلما ذكرت في حوارات سابقة، أنا مع الكتابة الروائية الحرة، أي تلك الكتابة التي تختلط فيها أنماط مختلفة من الكتابة... وهذا ما نجده عند جويس، وعند هنري ميلر، وعند جورج بيريك، وعند آخرين. وروايتي "حديقة ليلة الشتاء" لا تخضع لنمط معين، بل هي تتمرد على كل الأنماط المعروفة في الكتابة العربية. ولعل ذلك مقصود من جانبي، إذ ان جلّ الروايات العربية تكرر نفسها، وتتشابه في التقنيات، وفي الأنماط، وحتى في المواضيع... في لبنان، مثلًا، تكثر الروايات عن الحرب الأهلية إلى درجة الملل والضجر منها. وعندنا في تونس روايات عن المهاجرين السريين الذين يموتون في البحر، أو عن موضوع المرأة في المجتمع، أو عن مواضيع أخرى جاهزة بحيث تكون قراءتها غير مفيدة. بل قد يكون مقال، أو تحقيق صحافي، أفضل منها. وما المفيد من قراءة رواية لا نتعلم منها شيئًا، ولا نرى فيها خلفيات كاتبها الفكرية والفلسفية. في روايتي "ليلة حديقة الشتاء" مواضيع كثيرة تختلط ببعضها بعضًا، كما تختلط ببعضها بعضًا الأماكن والأزمنة... والعنصر الأساسي فيها هو التشويق، بحيث يجد القارئ نفسه مندفعًا إلى قراءتها حتى النهاية، مكتشفًا عوالم مختلفة وغريبة، ومتعرّفًا على كتاب وشعراء وفلاسفة يهددهم الجنون التكنولوجي بالانقراض من الذاكرة الإنسانية.

(*) في عدد من أعمالك، يلاحظ القارئ وجود ترجمات وإيحاءات لفكرة لقاء الشرق بالغرب، والمثال الأبرز في هذا السياق هي رواية "موسم الهجرة إلى الشمال"، وما كتبه جورج طرابيشي في كتابه "شرق وغرب، رجولة وأنوثة". أبطالك أيضًا يعيشون علاقات جنسية وعاطفية مع نساء في الغرب. كيف ترى ذلك في أعمالك، وما الذي تغير في هذه الفكرة مع مرور الزمن؟
أود أن أشير في البداية إلى أن رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح هي بحسب رأيي من أفضل الروايات العربيّة. وأنا لا أنكر تأثيرها عليّ شخصيًا، وأيضًا على كثير من أبناء جيلي، خصوصًا في جوانبها التقنية، واللغوية، والأسلوبية، حيث حرص الطيب صالح على استخدام أساليب وتقنيات جديدة مستوحاة من كبار الروائيين الغربيين، لكن من دون أن يتخلى عن الروح الشرقية في السرد... تدل على ذلك بداية الرواية "عدتُ أيها السادة...".




لكن لا بد من الإشارة أيضًا إلى أن "موسم الهجرة إلى الشمال" تُحيل إلى مرحلة تاريخية تعود إلى فترة من بين الحربين. وهي فترة كانت لا تزال فيها جل البلدان العربية تعيش في ظل الهيمنة الاستعمارية. وأعتقد أن بطل الرواية مصطفى سعيد جسّد صورة المثقف الألمعي القادم من بلد متخلف ومُسْتعْمَر، ومن قارة تعيش القهر والاستعباد، ووجد متعة كبيرة في استخدام فحولته للانتقام، عن وعي، أو غير وعي، من الغرب الاستعماري والرأسمالي، مُنتصرًا لروحانيات الشرق المهددة بالانقراض والتفتت. أما الرحلة الغربية بالنسبة لجيلي فهي مختلفة تمامًا. وفي رواياتي، مثل "هلوسات ترشيش"، و"وداعًا روزالي"، و"رماد الحياة"، وهذه الجديدة "ليلة حديقة الشتاء"، تسافر الشخصية الرئيسية في كل هذه الروايات إلى الغرب ليس للانتقام منه، وإنما للتعرف عليه عن كثب، وسبر أغواره. ولا تعتمد هذه الشخصيات على الفحولة الشرقية، كما عند الطيب صالح، لفرض وجودها، وإنما هي تسعى إلى أن تتأقلم مع الثقافة، ومع الحياة الغربية بصفة عامة. وفي النهاية تصاب بخيبة مرة، فتظل معلقة في الفراغ، لا تدري لها مصيرًا ولا وجهة. هذه هي حال ميلود في "وداعا روزالي"، وأيضًا الكاتب في "ليلة حديقة الشتاء" الذي تنتهي علاقته مع سوزان الألمانية بفشل ذريع، ليحتضن في كابوس ليلة حديقة الشتاء شجرة عارية عوض سوزان التي أحبها بجنون، وظن أنها ستكون رفيقة حياته حتى النهاية. وأنا لا أعتقد أن الطيب صالح مجّد الفحولة الشرقية في روايته المذكورة، وإنما هو استخدمها كرمز فقط. فهي سلاح رمزي لمن لا يملك أسلحة الدمار التي تمتلكها الدول الغربية الكبيرة، والتي تمكنت بفضلها من استعباد واستعمار الشعوب الأخرى. في رواياتي، لا وجود لأي تمجيد للفحولة. وشخصياتي التي تخوض تجربة غربية تحاول أن تستعمل معرفتها بالثقافة الغربية محاولة من خلال ذلك فرض وجودها في المجتمع الغربي. لكنها تنتبه في النهاية إلى أن ذلك ليس كافيًا. لذا هي تعيش في النهاية الانكسار والخيبة، خصوصًا عندما تشعر أنه لا مكان لها في موطنها الأصلي، ولا في بلد الهجرة والاغتراب.

(*) تعدّدت عودات أبطال رواياتك إلى تونس على شكل زيارات، أو على شكل عودة نهائية، كما في رواية "هلوسات ترشيش"، و"رماد الحياة"، ثم عدت أنت أيضًا. ما الذي تغير فيك، وما الذي تغير في أمكنتك الأولى، ثقافيًا وحياتيًا، وعلى المستوى الشخصي؟
ما لاحظتُه، وما تأكدت منه خلال سنوات الغربة، هو أن جُلّ المثقفين والكتاب والشعراء العرب، سواء كانوا من المشارقة، أو من المغاربة، يخافون من العودة إلى الوطن الأم، ويفعلون كل ما في وسعهم لتجنب صدمة العودة ومضاعفاتها النفسية. لذلك هم يحرصون على الحصول على ما يمكن أن يؤمّن لهم الإقامة الدائمة في البلاد التي استضافتهم، أي جواز السفر والجنسية. وحتى عندما تسوء أحوالهم، وتتدهور أوضاعهم، فإنهم لا يفكرون في العودة أبدًا.




وقد يكون هذا المثقف، أو ذاك الكاتب، قد اختار المنفى لأسباب سياسية، أو هروبًا من نظام قمعي ومستبد. لكنه يفضل العيش في المنفى على العودة إلى الوطن، حتى عندما ينهار النظام الذي كان يُعارضه. ولعل ذلك يعود إلى أن العودة مرعبة بالنسبة لهؤلاء، لأنهم يتوهمون أنهم أصبحوا "آخرين"، وبالتالي لن يتمكنوا من التأقلم مع حياة مجتمعاتهم. أما عودتي إلى الوطن فأمر مهم للغاية، حتى ولو كانت هذه العودة صادمة وقاسية، لأنها امتحان لذاتي، ولأنها تسمح لي بأن أرى نفسي بشكل أعمق، ثم لأنها أساسية بالنسبة لكاتب مثلي يستمد كل كتاباته من واقع بلاده. ولو كنت في الغربة لما تمكنت من رصد الأحداث والتحولات التي عرفتها تونس بعد انهيار نظام بن علي، والتي تحضر بقوة في روايتين لي هما "أشواك وياسمين"، و"لا نسبح في النهر مرتين". والعودة لم تكن مدمرة كما يتوهم بعضهم، بل مثلت بالنسبة لي مرحلة جديدة في مسيرتي كاتبًا وإنسانًا، وأوحت لي بمواضيع جديدة، وكشفت لي عن قضايا كانت غائبة عني. ثم إن العودة سمحت لي بأن أعيش الاغتراب بمفهوم آخر. فأنا في بلدي، لكنني اخترت العزلة، بعيدًا عن الأوساط الثقافية، وعن صخبها وأوهامها. وفي قريتي التي عدت إليها بعد ما يزيد على الخمسين عامًا، بنيت بيتًا وسط حقل من الزيتون واللوز، وفيه وضعت كتبي ووثائقي مؤسسًا لنفسي عالمًا حميمًا بديعًا منحني حيوية جديدة، وقدرة فائقة على العمل والتأمّل.

(*) داخل هذا السياق، كيف ترى واقع الرواية التونسية مقارنة بالرواية العربية ككل؟ هل لا تزال بقايا من فكرة المشرق والمغرب، او الأطراف والمركز، تحكم قراءة وانتشار الرواية التونسية؟
هنالك إقبال كبير، بل جنوني في تونس على كتابة الرواية، خصوصًا بعد أن رصدت جوائز ضخمة لهذا النوع من الكتابة. حتى الشعراء الذين لم يسبق لهم كتابة قصة قصيرة واحدة أصبحوا يكتبون الرواية. والجامعيون يفعلون ذلك أيضًا مُتوهّمين أن شهاداتهم تُخوّلهم اقتحام مجال الرواية. والحقيقة أنه من الصعب جدًا العثور على روايات جيدة وسط هذا الكم الكبير من الروايات التي تصدر سنويًا. ونادرة هي الروايات التي تستحقّ الإشادة والوقوف عندها. ثم إن غياب النقد الجاد يزيد في إرباك القراء، فلا يعلمون كيف يميّزون بين رواية جيدة، وأخرى سيئة. وقد يدفعهم النقاد المزيفون الذين يعتمدون على المجاملات لاقتناء روايات سرعان ما يكتشفون خواءها وضعفها. وإجمالًا، يمكن القول إن الرواية في تونس لم تكتسب بعد تميّزًا خاصًا يجعلها مختلفة عن التجارب الروائية في العالم العربي.

(*) أين تضع تجربتك أنت؟ هل قُرئت رواياتك بشكل جيد؟ وكيف ترى النقد الذي كُتب عنها؟
طوال مسيرتي الأدبية لم أتقيّد قط بأيّ نمط من أنماط الكتابة. وفي كل مرة أسعى إلى ابتكار ما يُناسب عملي الجديد. أنا مرةً مُقيم، ومرةً مُرتحل. مرة، أختار العيش في مدن كبيرة، وأهجرها للإقامة في مدن صغيرة، أو في الريف، مثلما هو حالي الآن. وبفعل الهزائم المُرّة التي منيت بها، أنا مرة متفائل، ومرة متشائم، ومرة "متشائل"، مثل بطل إميل حبيبي في رائعته "الوقائع الغريبة في حياة سعيد أبي النّحس المتشائل". وفي الحياة كما في الكتابة كنت مُنشقًّا أيضًا. لذا اخترتُ منذ أن انفصلت عن أفكاري اليسارية في نهاية السبعينيات من القرن الماضي أن أكون نفسي فقط لا غير. ودائمًا ما أسعى في الكتابة إلى أن أجدّد لغتي، وأسلوبي، وأدواتي الفنية، ليس فقط اعتمادًا على القراءة، بل اعتمادًا على الفنون الأخرى، خصوصًا السينما والموسيقى والفنون التشكيلية، وعلى خوض مغامرات جديدة تُعيد لي القوة والحيوية، وتدفع بي إلى الأمام لاقتحام ما كان مجهولًا وغائمًا بالنسبة لي. لذلك أشعر أنني عشت أكثر من حياة مُواجهًا الزمن دائمًا، وكأنه "يبحث عني" كما يقول شكسبير، ومُتحديًا الخوف من ويلات الدهر، رغم أنه لا مورد رزق لي سوى قلمي. وأنا أعلم جيّدًا أن الجامعيين الذين يُهيمنون على الحياة الثقافية والأدبية في تونس يُناصبونني العداء، لأني لم أنقطع أبدًا عن فضح سطحيتهم، وخوائهم الفكري، وجهلهم بالأدب العالمي. لذا هم يتعمدون إقصائي وتهميشي ومحاصرتي. إلا أن لي قراء في تونس، وفي العالم العربي، ومنهم أستمد القوة لتحدي هؤلاء. وعليّ أن أشير إلى أن مجمل رواياتي قوبلت باستحسان كبير من قبل النقاد الجادين، سواء من التونسيين، أو من العرب. وهذا أمر يسعدني كثيرًا، ويُخفف عني وطأة الحصار والظلم الذي أعاني منه منذ بداية مسيرتي وحتى هذه الساعة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.