}

زاهر الغافري: علاقتي بالشعر هي علاقتي بالمغامرة

حسين بن حمزة 17 مايو 2023
حوارات زاهر الغافري: علاقتي بالشعر هي علاقتي بالمغامرة
زاهر الغافري

نكاد لا نعثر سوى على الشعر في تجربة زاهر الغافري وفي قصائده، وربما حتى في أجزاء عديدة من سيرته الحياتية التي نقلته باكرًا من مسقط رأسه في قريته في عُمان إلى بغداد أولًا، ثم قذفته فيما بعد في مدن وجغرافيات عديدة. وهي رحلة تشبه بطريقة ما رحلة الكتابة نفسها، ومغامرة الكلمة في طيّات اللغة والصور والاستعارات. الشعر الذي نعثر عليه هنا هو غالبًا شعرٌ حاف بلا فكرة مسبقة تسنده، وبلا هدف تسعى إليه. الفكرة هنا هي الشعر والهدف هو إنجازه. القصد أننا لا نجد ديونًا واضحة للأيديولوجيا فكرية كانت أم شعرية أيضًا. ليس هناك مسعى ولا استبسال حثيث لإثبات شيء ما داخل القصيدة أو حتى خارجها.

شعر زاهر الغافري لا يزال يحتفظ بمذاق التجربة وعفويتها. لا توجد في هذا الشعر صناعة كثيرة أو تحسينات لاحقة على الضربة الأولى للجملة الشعرية. لعل هذه الصناعة موجودة وكذلك التحسينات، ولكن حرص الشاعر على إذابتها في جسم القصيدة يجعلها جزءًا منها وليس إضافة مصطنعة عليها. هذا لا يعني بالطبع أننا نقرأ دائمًا شعرًا صافيًا، بل القصد أن هذا يمنح صاحب "أزهار في بئر" نوعًا من الخصوصية، ويثبت أن قصيدته خرجت من محليتها العُمانية إلى قلب التجربة الشعرية العربية، ولكنه في الوقت نفسه ظل على حواف محليّته وعلى حواف ما انتقل إليه. بهذا الطريقة، حافظ هذا الشعر على طزاجة ما، على ليونة ما، وعلى انتعاشة متأتية من البقاء على مسافة مما يجري في "سوق الشعر".

هذه الدردشة الحوارية هي بمثابة تحية لهذه التجربة، واحتفاء بشعريتها المختلفة:

(*) كيف تصف علاقتك بالشعر اليوم... ما هو الشعر بالنسبة إليك؟

علاقتي بالشعر هي علاقتي بالمغامرة، ومن المؤكد أن هذه المغامرة تتجه صوب المجهول. والشعر هو تعبير في القول عن الوجود وعن علاقتي بالعالم.

وفي ظني أن محاولة الوصول إلى المشروع الشعري والكتابي هي المغامرة التي نبحث عنها والأهم من هذا أن هذه المغامرة لا تنتهي. إن أي وصول يُنهي المغامرة ولذة الاكتشاف وبالتالي يصبح الأمر برمته من العاديات. غير أن "اللعبة الشعرية" إن جاز القول تكبح الوصول إلى أي مكان، وهنا خطورتها. نحن فعلًا في مجال الكتابة لا نعرف أين ستقودنا الوجهة وهذا من حظنا ككتاب. من هنا يصحّ القول، سيروا في الغابة وتيهوا. إنه المجهول إذًا وكما كتب الشاعر الفرنسي برنارد نويل:

يريد المجهول أن يعبر العين

والحس يمحو المرئي

يكشط أيضًا تجاعيد الكلام

وفي رأيي أن الوصول في الشعر والكتابة هي مسألة قاتلة بما أن الشعر يطرح أسئلة وبما أن الشعر هو اللؤلؤة المخفية التي في كل مرة بحاجة لإعادة اكتشاف وبصيغ متعددة. هكذا تصبح الكتابة وليدة حوار مع الزمن. دائمًا ما يشغل الزمن الشاعر بطريقة توحي بالامتلاء والخصوبة ولذلك يتحرك الشعر في هذه المساحة الظاهرة، صعودًا وهبوطًا، اقترابًا وافتراقًا، كما لو كان الشاعر يسابق نفسه لئلا يصل، لأن الوصول علامة على الحيرة. والشعر يتحرك بين عنصرين هما المكان والزمن، وكل قصيدة بالتالي تؤسس زمنها الخاص. أنت بهذا السؤال تُذكرني بـ ت. س. إليوت، عندما بدأ بكتابة "الأرض اليباب". كان حائرًا ويتصف بالشكوكية وكتب وعدّل، في الأخير كان يُسابق الزمن أو يكتب ضد الزمن مع أنه كان شابًا في 1922، لكن كيف ظهر الزمن "آه. أبريل أقسى الشهور". سبق أن قلت إن الأطلال (المكان) عند الشاعر القديم محفوفة بالزمن، فأنت لا تستطيع أن تلغي الزمن عن الأطلال، كما لا نستطيع نحن، راهنًا، أن نتملص من الزمن الذي يجري خفيًا في قصائدنا ونصوصنا. نحن نعيش في الحاضر والزمن يتسلل إلينا في القصائد وفي أجسادنا أيضًا، وهذه لعبة الحياة ولا مفر منها.

أظن أن الكتابة الشعرية هي جزء من حوار خلاق مع العالم، مع المكان ومع الزمن وحوار أيضًا مع شعراء آخرين

(*) ما الذي تخلّيتَ عنه في قصيدتك، وما الذي احتفظت به وطوّرته في مسارك الشعري؟

تخليتُ عن أشياء كثيرة بما في ذلك اللغة الفضفاضة في القول الشعري وبعض المفردات والصيغ، وأبقيتُ على وهج حضور النص الشعري كجزء من تجربة الحياة والوجود. فالقول الشعري يتطلّب مراجعة مستمرة بما في ذلك المحو والاكتفاء بما هو دال وعميق. لأعطيك مثالًا، عندما أعود إلى الخلف وأنظر إلى مجموعتي الأولى "أظلاف بيضاء" التي صدرت في عام 1983، كان النص الشعري في المجموعة يحتوي على صور مجانية كثيرة صور مقذوفة في النص بلا تعيين، وترتكز أكثر على جمل أسمية. تخليتُ عن كل هذا. وفي السنوات العشر الأخيرة أصبحت النصوص في أعمالي تنحو نحو التأمل وتقدم لي نوعًا من الإشارات لكي أغير هنا أو هناك. نعم أقوم أحيانًا باستراحات قصيرة بين فينة وأخرى بمراجعة النص، وأحيانًا قد أكتب نصًا دفعة واحدة ولكن لا أنشره، أتركه أسبوعًا أو أكثر كأنني نسيته ثم أعود إليه أقرأه من جديد، أقوم بالمحو أغير فيه وصولًا إلى الصيغة النهائية. هذا الأمر يترك لي مجالًا لعزل النص بعيدًا عني، بمعنى أني أعزل النص في العالم السفلي من ذاتي. فالشعر على أية حال يحتاج إلى قوة مضاعفة، لذلك هو ليس سهلًا، وعلى الشاعر أن يغوص، أن يهبط إلى هذا العالم السفلي للبحث عن أثر الجمال. فالشاعر أشبه بالصياد يرمي الصنارة وينتظر طويلًا حتى تأتي السمكة الذهبية. من هنا علاقة الشعر بالفكر، فالفكر يذوب في النص الشعري كما يذوب الملح في الماء فيطرح الشعر أسئلة من قبيل سؤال الموت أو سؤال الغياب أو سؤال الفقدان والحنين. ونحن نعرف كيف قرأ مارتين هايدجر هولدرلين وباول سيلان ورينيه شار الذي كان صديقه. وبما أن اللغة أشد المقتنيات خطرًا فإن الشاعر يزيح عنها الصدى باستمرار ليحولها إلى عذراء. إنني أحاول أن أكتب في هذا الإطار، تسبقني الدهشة واللا متوقع. وبما أنني لا أكتب لأحد فإنني أحس في لحظة الكتابة كأنني ألمس الغيم بيدي. فأنا في الأخير أبحث في هذا العالم الأخرق عن الشفافية في الكتابة والحياة.

 (*) عشتَ في بلدان ومدن وجغرافيا عديدة... عُمان، العراق، المغرب، أميركا، فرنسا، السويد. ما هو أثر ذلك في شعرك؟

بالتأكيد الدول والرحلات التي قمت بها والمدن التي سكنتُ فيها، بعضها لمدى عشر سنوات، أضافت إلى شعري كثيرًا، سؤال المكان مثلًا، يشبه سؤال التقاطعات أو المفترقات في الطرق البعيدة. هنا بدأت ألتفت وأرى بعين منحرفة كما يقال لأنه لم يعد هناك شيء ثابت، فأنا خرجتُ من قرية صغيرة من عُمان وكان عمري لا يتجاوز 13 عامًا، بصدفة تكاد تكون قدرية وارتطمتُ بالعالم الكبير. من ضمن الاستفادات الأخرى حضوري للأفلام والمسرح والتشكيل وهذه كلها يمكن الاستفادة منها في المجال الشعري.  

(*) استطرادًا للسؤال السابق، هل تشعر أنك لا تزال شاعرًا عُمانيًا بهوية شعرية صافية؟

نعم، لكن ليس شاعرًا محليًا، فأنا قضيتُ أكثر من نصف قرن من حياتي في الغرب وبعض الدول العربية وشاركت في أمسيات شعرية في مختلف مناطق العالم، وتعرفتُ شخصيًا على كبار الشعراء مثل أوكتافيو باث وبرودسكي وول سينيكا وديرك والكوت ومروين، وقرأت ذات مرة في لندن كان فيها الشاعر الإيرلندي شيموس هيني بالإضافة إلى آخرين. كما قرأت أيضًا في دول أخرى كفرنسا وإسبانيا وهولندا وإيرلندا. ميزة هذه اللقاءات هو الانفتاح على صيغ شعرية أخرى ومن مناطق مختلفة، والشيء الأساس الذي أحسسته في هذه اللقاءات هو الأخوّة الشعرية.

(*) ماذا يعني لك أنك لم تعد شاعرًا محليًا، وأنك ما زلت في الوقت نفسه شاعرًا عُمانيًا؟

أنا عُماني على صعيد الهوية ولكنني لا أكتب شعرًا محليًا، أنا شاعر من العالم، حدود كتابتي تتجاوز ما هو عُماني وتتجاوز الحدود الضيقة لأنني أكتب بوضوح. ثانيًا لأن النصوص نفسها تتحدث فيما أظن عما هو أبعد من ذلك. لدي نصوص فيها تقاطعات وحوارات وشعراء من العالم، كنص "الغراب والشجرة" أو "مرثية مروين" أو تقاطعات مع هولدرلين ومالارميه ورامبو وأدغار ألن بو كأمثلة. وأظن أن الكتابة الشعرية هي جزء من حوار خلاق مع العالم، مع المكان ومع الزمن وحوار أيضًا مع شعراء آخرين، خصوصًا أن وسائل التواصل الحديثة تجعلنا نقرأ أعمالًا شعرية، وأن الشاعر من قرية صغيرة في هذا العالم بمعنى أن النصوص الشعرية وغير الشعرية تنتقل الآن بسهولة بكبسة زر فقط.




(*) لنتحدث أيضًا عن الهوية والمكان داخل فكرتك... هل المكان أو الجغرافيا مسألة إجرائية نوعًا ما أم أنها في صلب التكوين الشعري والشخصي؟

طبعًا المكان والجغرافيا في صميم التكوين الشعري للشاعر. فالمكان لا ينفصل عن الشاعر، وأنا أتحدث هنا عن المكان ليس باعتباره عنصرًا سياحيًا كما في بعض النصوص عند بعض الشعراء بل باعتباره جزءًا من كينونة الشاعر. كان الشاعر الأميركي غاري سنايدر يعمل بحارًا في سفينة وزار مختلف دول العالم حتى وصل إلى عُمان عام 1956. ووصف بدقة الجبال السوداء الضخمة في عُمان لكن عندما تقرأ شعره لا يوحي إليك بأنه سائح أو يقوم بزيارات سياحية أبدًا، إنه مشروع شعري خالص لمعرفة المكان وإشكالياته وقد استثمر ثيمة المكان على نحو خلاق.

(*) داخل فكرة أنك في البداية كنت شاعرًا عُمانيًا محليًا، كيف كانت بداياتك الشعرية؟ أي مؤثرات وأي قراءات ساهمت آنذاك في عثورك على صوتك؟

كان عمري في حينها حوالي العشر سنوات. كنتُ وقتها أقرأ للمتنبي وأبي تمام والبحتري وابن الفارض. أنا درستُ في مدارس القرآن وأبي كان لديه رف صغير في صالة المعيشة يحتوي على هذا النوع من الدواوين الشعرية أي الشعر الكلاسيكي وكنت أنظمُ هذا النوع من الشعر، شعر موزون ومقفى، هذه هي البدايات الأولى. في بغداد اختلف الأمر فقد دخلتُ في مدارس نظامية حديثة فبدأتُ أقرأ بدر شاكر السياب، والرصافي، والزهاوي، والجواهري، ومحمد سعيد الحبوبي وهو شاعر كربلائي يكتب في الغزل، شيئًا فشيئًا تكوّنت لدي وفرة من المفردات فبدأت أكتب لأول مرة قصيدة التفعيلة استمر معي هذا الأمر لفترة حتى بداية السبعينيات عندما تحولت إلى كتابة قصيدة النثر وبدأت أسمع صوتي الخاص من حيث تراكيب الجمل والمفردات ونوع من الإيقاع الداخلي الخفيف. وأنت تعرف أن بغداد كان يجري فيها نقاش وجدل حول القصيدة الجديدة سواء في التفعيلة أو قصيدة النثر، يجري نقاش أحيانًا يكاد أن يكون حادًا بين شعراء المقاهي أو الحانات يصل فيها النقاش إلى حد الزعل وربما الاشتباك بالأيدي، كل هذاالذي شاهدته كان زمن الأيديولوجيا وأنا كنت أبتعد قدر الإمكان عن الأيديولوجيا.

أنا عُماني على صعيد الهوية ولكنني لا أكتب شعرًا محليًا، أنا شاعر من العالم، حدود كتابتي تتجاوز ما هو عُماني وتتجاوز الحدود الضيقة لأنني أكتب بوضوح. ثانيًا لأن النصوص نفسها تتحدث فيما أظن عما هو أبعد من ذلك

(*) هذا يُشير إلى المنعطف الدراماتيكي لحياتك بانتقالك وأنت لا تزال فتى من قريتك البسيطة إلى بغداد. ماذا كان تأثير ذلك على تكوينك عمومًا؟

نعم، كان منعطفًا حادًا وصعبًا بوفاة الأم، وكان أبي كبيرًا في السن، كان عمري 13 سنة تقريبًا ولم يكن قادرًا على إعالتنا، ونحن كنا أربعة فأرسلنا أبي إلى أخي الأكبر، البكر، في أبوظبي في 1967 بعد النكسة. أخي هو الذي دبر لنا موضوع البعثة إلى بغداد طبعًا عدا البنت ظلت في القرية في عُمان. أتذكر هذا كما لو كان حدث بالأمس. وكانت أختي تبكي لأنها ستكون وحيدة وبلا تعليم لكن بالجهد والمثابرة درست وتخرجت وأخذت الماجستير والدكتوراه في علوم التربية. كان من نصيبي أنا أن أتوزع في الغرب، باريس والولايات المتحدة والسويد حتى هذه اللحظة، ألتقي أحيانًا مع إخوتي كل خمس سنوات أو عشر سنوات. هذا هو المصير. ورغم أن كل إخوتي تعلموا جيدًا بعضهم في الغرب كل حسب اختصاصه لكنهم لا يقرأون الأدب وبالتالي لا يقرأون شعري مطلقًا، وحتى إن قرأوا قليلًا منه فلن يفهموه، هذا أيضًا هو المصير. يحبون أن يسمعوا أنني شاعر معروف أو مشهور وأنا أكره الشهرة أصلًا وليست من طباعي.

(*) بعد ذلك قادتك حياتك إلى أمكنة ومدن وثقافات عديدة... إلى أين تقودك القصيدة نفسها؟

تقودني القصيدة إلى المجهول الذي لا أعرفه وربما كانت الأمكنة والمدن التي عشت فيها كلها تقودني القصيدة إليها. لا أخفي أنني ابن ترحالات وسفر، وهذه الأمكنة والمدن كانت مجهولة أيضًا والقصيدة التي تقودك إلى أمكنة ومدن مجهولة هي القصيدة التي تقول كما قال سركون بولص "الوصول إلى مدينة أين". نحن لا نعرف مدينة أين ولا نعرف الشعر إذا كان سيقودنا إلى المدينة. الموضوع متشابك وبحاجة إلى استبصار إلهي ربما لكي نعرف المدينة والشعر. ذهبت إلى بيروت لأول مرة لم أعرف أين أنا غير أن أصدقائي في بيروت أشاروا إلى المكان، خصوصًا بعد الحرب الأهلية. أنت في بيروت المقاهي والحانات والمطاعم والشعراء والكُتاب والكاتبات، أغرمتُ ببيروت المدينة والحياة، فصرتُ أذهب إليها كل سنة تقريبًا لأن بيروت كانت تحسسني بأنني حر، على عكس بغداد تمامًا في ذلك الوقت، وأظن أن بيروت كانت المنارة الوحيدة الباقية منذ الخمسينيات والستينيات، ولكن الآن يراد أن تنقصف المغارة والأمكنة، ولكن الغريب أن بيروت دائمًا تنهض بقوة انفتاحها وثقافتها واللغات وحوض البحر الأبيض المتوسط.

(*) في تجربتك هناك احتفاء بالتفاصيل الحسية. قصيدتك هي ابنة حواس وذاكرة وانغماس في العيش، وليست حصيلة لغة ومجازات فقط.

نعم، هذا صحيح، أولًا أنا أكن احترامًا وتقديرًا كبيرين لهوسرل صاحب "الظاهراتية" في مجال الفلسفة وفي الشعر كذلك، فأنا أميل إلى أن تتحول نصوصي الشعرية إلى الذائقة الحسية وبالتالي يمكن قراءتها في إطار حسي جمالي مع الحياة، الحياة التي أعيشها. عادة لا أنجذب إلى النصوص ذات الطابع الذهني التجريدي، إن صح القول، فأنا لا أستطيع أن أكتب: تنامين في البهاء، أجد أن هذه اللغة ذهنية جدًا، أنا سأكتب: تنامين في السرير. بعدها يمكن أن تكون البداية للدخول إلى عوالم أخرى، أما البهاء فهي كلمة غير حسية أصلًا من هنا لدي تحفظات على لغة لا تضرب في الألم الحسي للإنسان، ثم ما هي القصيدة الذهنية؟ هي القصيدة التي لا تقول شيئا تجعلك منصتًا فحسب لمجموعة من الأوهام غير المضرة ولكنها لا تقول شيئًا واحدًا محددًا.

(*) كيف تصف مسارك الشعري... هل هو قفزات من مجموعة إلى أخرى أم هو مسار تصاعدي باتجاه ثابت؟

على الأرجح إنه قفزات من مجموعة إلى أخرى، ومع هذه القفزات هناك تحولات وتطورات طبيعية تحدث في القصيدة وفي الموضوعات وفي اللغة. فأنا مثلًا لم أكن قد جربت من قبل النص الطويل كما فعل الراحل سركون بولص من قبل، والنص الطويل بحاجة إلى نفَس طويل لكن دون أن يكون فضفاضًا ومليئا بالحواشي، إنما يُقرأ النص وفق نفَس القارئ، يتوقف حيث يشاء ويعاود الاستمرار حيث يشاء، كما في نص "هذيان نابليون" وهو نص بلا نقاط ولا فواصل بين الجمل، وفي "لعلنا سنزداد جمالًا بعد الموت"، وهما نصان كل منهما أكثر من 35 صفحة. أما في نص "نشيد صباحي إلى غوتلاند" فيشغل تقريبًا 45 صفحة. من هنا أقول إنني أتحدث عن جملة من الوقائع مستخدمًا فيها تقنية سينمائية هي فلاش باك، وأحيانًا التشكيل. طبعًا ليس سهلًا كتابة هذا النوع من النصوص لكنني أجرّب ولديّ الآن نص طويل آخر يتحدث عن صور العُمانية عنوانه: "صور عن الآلهة والسفن". أتمنى أن يكون مطبوعًا بعد سنتين من الآن. النصوص الطويلة مقلقة ومربكة ينبغي على الشاعر أن يحافظ على إيقاع داخلي متوازن وأن يقود اللغة لخدمة الفكرة أو الموضوع المطروح تمامًا كما الطباخ، فالطبخة عندما يضاف إليها ملح زائد تصبح بلا طعم وإذا قل الملح تصبح بلا طعم أيضًا.  

(*) كيف تبدأ القصيدة لديك، من كلمة، جملة، حالة أو مشهد؟

تبدأ القصيدة عندي من مشهد يتحول إلى حالة مع خيط خفي يقودني إلى الكتابة وليس لدي مشكلة في الكتابة في جو صاخب أو مكان هادئ، أنا أركز على حالة الكتابة ولا يهمني الخارج أو الصخب. أكون قد دخلت في قوقعة حتى أنجز ما أنا قادر عليه. عندما لا أستطيع أتوقف وأبدأ بالنظر إلى الخارج، كثيرًا ما يستوقفني الآخرون ويقولون هل تنظر إلينا، وأنا فعلًا أنظر بعينيّ إليهم، ولكنني في الحقيقة لا أنظر إلى كل هذا بل أنظر إلى داخلي فقط حينها أكون بصدد كتابة قصيدة. الحاسة تشعرك بأنك حي هنا والآن.

(*) ماذا تكتب حاليًا. هل هناك مجموعة شعرية جديدة في الطريق؟

نعم، لدي عملان شعريان أحدهما كما أشرت قصيدة طويلة عنوانها "صور الآلهة والسفن" وعمل آخر لم أسمِّه بعد، قد يظهران في العام المقبل أتمنى ذلك. لكن ما يهمني الآن الدعوة التي وصلتني من بغداد لحضور الأمسيات الشعرية والقراءة في مهرجان بابل. وهي دعوة تُسعدني وتعيدني إلى بغداد بعد غياب طويل جدًا. لقد تركت بغداد في حياتي أمثولة لن أنساها. بعد وفاة الأم في عُمان استقبلتني بغداد كابن لها، وهناك تكونت حياتي في الشعر والكتابة والحب والقبلة الأولى، تلك القبلة التي دوختني وكدت أطير وأنا في الخامسة عشرة من عمري. كانت حياتي تسبقني إلى مطارح مجهولة ولذيذة في ذات الوقت. الحرمان صعب عندما تفقد الأم أما بغداد فقد انتشلتني من حرمان أمي الحقيقية لتصبح بغدد أمًا ثانية، أدين لها طوال حياتي.  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.