}

أنطوان أبو زيد: لا أفصلُ بين الشّعر وبين التأمّل

حسين بن حمزة 28 سبتمبر 2023

من ظلال الكلمات وانطوائها على نفسها، ومن خفوت النبرة والمعاني الغائرة والمكتومة للصور والاستعارات، تنشأ قصيدة الشاعر اللبناني أنطوان أبو زيد. الشعر هنا هو حصيلة كلمات تربّت في كنف الصمت والتأمل، وحصيلة النظر إلى العالم والأشياء من زاوية منحرفة ومواربة، حيث على اللغة أن تجد صلات مبتكرة وغير مُفكّر بها كثيرًا بين ما هو واقعي وبين ما يُعاد كتابته من هذا الواقع. لقد بدأ ذلك منذ باكورته "نباتٌ آخر للضوء"، واستمر من مجموعة شعرية إلى أخرى، رغم تغير المناخات والعوالم، وتطور تجربة الشاعر نفسه أيضًا، ولكنه بقي حريصًا على إبقاء قصيدته في الظل، وعلى شحنة التأمل الأقرب إلى التنسّك التي تتدخل في صياغة مواد القصيدة ومكوناتها وجزئياتها. استثمر صاحب "أعمق من الوردة" هذا التأمل لكي يمرّر حوارًا لا يهدأ بين السطح الرائق والهادئ للقصيدة وبين أعماقها الهادرة والمتحركة. الشعر موجود هنا، في جعل الحركة والهدير غير مسموعين تقريبًا على السطح. ثمة سعيٌ إلى كتابة شعرٍ صافٍ تقريبًا، إلى جعل ما يُجلب إلى عالم القصيدة ذائبًا فيه ومنتميًا بالكُليّة إليه. القصيدة، كما يقول الشاعر نفسه، تحتاج إلى أن تكون "ملساء/ مثل روحٍ واحدة".

نقرأ أنطوان أبو زيد، فنجد أنفسنا لهذه الأسباب، متباطئين في القراءة. التأمل والتفلسف الداخلي والعوالم الظليلة تُلقي بتأثيرها على القصائد، فتُبطئها وتجعلها متمهلة في بلوغ منتهاها حتى ولو كانت قصائد قصيرة. إنها كتابة مترويّة وخافتة... القارئ نفسه يجد أنه مدعوٌّ إلى قراءه أقل سرعة مما اعتاده من قبل. القصائد مدينةٌ لجملة مكتوبة بالتأمل والقارئ مدعو إلى تأمل مماثل.

دخلت الحرب الأهلية في معجمه الشعري وعاش تصدعات المجتمع الأهلي مع ما ترتب على ذلك من تهجير وعداوات أثرت على مجمل الكتابة اللبنانية، وصنعت فيها تصدعات مماثلة. انزاحت لغة لصالح لغة، وصعدت أساليب على حساب أساليب... وسط ذلك تأثر معجمه وأسلوبه ولكن ظل التأمل طاغيًا وما يمكن تسميته بسريالية عصرية ومتطورة ومحبذة موجودة في شعره...

كتب أبو زيد، إلى جوار الشعر، روايات وقصصًا وأعمالا سردية ونقدية أيضًا. أنجز ترجمات عديدة. لا شك في أن هناك تأثيرات تسربت إلى كتابته، وساهمت في تقوية صوته ونبرته. في حوار سابق، أشار إلى أثر رينيه شار، وهي إشارة تؤكد ذلك المذاق التأملي والفلسفي لشعره هو.

هنا حوار معه لمناسبة صدور مجموعته الشعرية الجديدة "كوريغرافيا/ رجل الضّواحي":


(*)
تقولُ في أوّل قصيدة من مجموعتك الجديدة:

"أسكبُ ثلاثة أغصان

لأصنعَ طيرًا،

وندًى لدهريْن معًا،

ليحصلَ فيءٌ

ويختمرَ التّرابُ ثانيةً

معَ عصفٍ نداءات وأنواء

مطفأة مع الثّمار،

ولأجدَ متّكأ على

حاجبِ المنزل،

وتحت رمشِ الجنينة"

لنبدأ من هذه النبرة الخافتة والمواربة في الكتابة؛ كيف اهتديتَ إليها، الذهاب إلى الأشياء والتفاصيل والعالم من زاوية غير مباشرة، وغالبا غير متوقّعة؟

للإجابة أراني مجبرًا على التفكّر، بنحو ارتدادي، في ما كنتُ أكتبه، ولا أزال، منذ أربعين سنة. في سؤالك عن النبرة الخافتة، أو تبدّلها بين سريالية وانطباعية، أو وجدانية- غنائية لا على الصيغة الرومنطيقية المألوفة، وإنما على النهج الفكري-العاطفي المنطلق من ذات الشاعر كائنًا- في - العالم على ما يحدده هيدغر، يحاول أن يتواصل مع الآخرين، والكائنات الأخرى، مسائلا العناصر، وزمنه، ومكانه، ومعضلاته، بلغة شعرية هي خطاب ذاتيّته، لا المنتفخة أو المتورّمة أو المتعالية، وإنّما خطاب ذاتيّته المأزومة في شروط وجودها.

إذًا، أعزو التحوّل في النبرة الذي لحظتَه، منذ كتابي الأول "نبات آخر للضوء" والذي اعتبرتَه سورياليا، في خطوطه العريضة، إلى يقين مفاده أنّ التخييل المحض والذي يكاد يكون، لتطرّفه، خاليًا من المعنى، أو من التجربة، ومن الألم، لن يسعه الصمود طويلًا، ولن يبلغ مرتبة الشعر الخالص الذي أطمح اليه، ولن يؤسس أسلوبًا شعريًا ذا آفاق منفتحة. وإن صحّ ما نسبتَه إلى النبرة الخافتة الحاصلة الآن، وما قبل هذه المجموعة بحسبي، فإنّ ما كان يوصف سابقًا بالنبر العالي، الضاجّ، والحماسي، والتخييلي الجامح، على ما وصفت- والذي تمثّل في كتابي الأول، إنما كان نوعًا من إثبات وجود أسلوبي، ومانيفست أولا لصوت شعري يستهلّ وجوده في هذا العالم.

أما الاهتداء إلى النبرة الخافتة، كما قلتَ فلم يكن من طريق المعرفة الأكاديمية وحدها- إذ تمدّ الشاعر بالنظريات النقدية التي تعينه على تقييم كتابته ذاتيًا، كما تمنحه من الأدوات والمفاهيم التي تجعله قادرًا على الإحاطة بمجمل العملية الإبداعية، أو الكتابة الشعرية؛ كأن يدرك مثلًا أنّ ثمة قضايا ومسائل وثيمات تحدّد ذاتية الشاعر، بل يمكن أن تشكّل سواتر عازلة ما بينها (الكتابة) وبين ذاته العميقة والحقيقية والصادقة: فعلى سبيل المثال، يمكن أن تشكّل ثيمة الوطن، والمرأة، والدفاع عن الوطن، وعن القضايا العادلة، كالسلام والعدل، وغيرها، لو نُظر اليها باعتبارها مجالا للمعالجة وحدها في شعره، ومن دون أي توظيف جمالي لها. وعليه، يصحّ أن يسمى الشاعر عندئذ، شاعر القبيلة، أو الجماعة، أو الطائفة، أو الحزب، أو العقيدة.

أورد هذا لأقول إنّ النبرة المصوغ بها الشعر، هي مكوّن من الخطاب العام، وتمثيل صوتي وفرديّ له. وهذا المكوّن لا يتوفّر لكثيرين من الشعراء إدراكه، ووعي وظيفته الاجتماعية والسياسية، وتقديمها على الوظيفة الجمالية أو الشعرية، بحسب ياكوبسون. والحال أنّ سمة المواربة التي ألحقتَها بالنبرة عندي إنما هي لصيقة بالأدب، فالأخير نتاجُ السبيل غير المباشر، والمجازي، والمفارِق، والمدهش، وعديم التوقّع. هذا من دون أن نتحدّث عن التجربة المعيشة والتأمّل الاستبطاني بها باعتبارهما مكوّنين آخرين للأدب.

(*) لعلّ هذا يأخذنا إلى بداياتك عمومًا. أظنّ أنّ هذه الصفات كانت موجودة بجرعات معيّنة في مجموعاتك السابقة، بل في أوّل مجموعة لك. وهذا واضح من عنوانها: "نبات آخر للضوء"، ولكن ذلك تطور وحدثت تحولات واضحة فيما بعد.

البدايات على ما وصفتَ كانت متأرجحةً بين سريالية مفرطة، في أوّل مجموعة شعرية صدرت لي، وهي "نبات آخر للضوء"، وبين صوَرية مشهدية داخلية، قريبة إلى حدّ ما من أسلوب الهايكو، في المجموعة الشعرية الثانية "جسم ظلال وخطوات" (1988). وللحقيقة يمكن اعتبار هذه المجموعة الأخيرة نقطة تحوّل حاسمة، وبداية لمنعطف آخذ في التمدّد إلى آفاق أخرى، تكون فيها التجربة الذاتية والتأمّل العميق في الذات، وفي أحوالها، عارية من أي فكر أو أيديولوجية أو تصنيفات عامة.

على أنّ نهجَ البدايات لديّ بدا مختلفًا، إذ تعيّن عليّ أن أتخلّى عن كثير من الأساليب الكتابية المتّبعة، والعمل الحثيث على وضع البدائل؛ من ذلك مثلًا أنه توجب أن أضع تصوّرًا مسبقًا لبنية قصيدة النثر، في حين أنّ السياق الفكري والشعوريّ هو الذي يضع حدودًا للقصيدة ويرسم أطرَها، ويفرض إيقاعًا لكلماتها وأسطرها الشعرية، ما دام ليس ثمة أبيات بالمعنى العروضي للكلمة. مثلما تجنّبتُ، في حينه، الإسراف في الصور الغريبة إلى حدّ الإدهاش، مفضّلًا عليها الصوَر ذات الوظيفة الإيحائية والتعبيرية الدقيقة والحاملة قدرًا من المشاعر، والبعيدة نوعًا ما عن سجلّ الصور الشعرية المألوفة، والتي سبق اندراجها في التراث الشعري الحديث والمعاصر.


(*) ولكننا لا نزال نجد في شعرك سريالية مخففة وجذّابة تعمل في خدمة الصور والاستعارات، سريالية تأملية تساهم في جعل شعرك يبدو ذا خصوصية واضحة، بالمقارنة مع مجايليك شعراء السبعينيات، وفي الشعر اللبناني في نفس الحقبة وحتى اليوم؟

سبق أن أشرتُ إلى أني تخطّيتُ هذا الفهم الأوّليّ والخاطىْ للحداثة والمعاصرة الشعرية التي تجعل السريالية عنوانًا يكاد يكون وحيدًا للتحديث، والثورة الشعرية. وذلك بالعودة إلى جذر الشعر، بل جذوره، عنيتُ بها التراث الشعري العالمي، قديمه وحديثه، والفكر والفلسفة، والفنون القديمة والحديثة، والتراث الأسطوري والديني واللاهوتي وغيره.

لا أقول إنّ الشعر حين يصوغه الشاعر يظلّ على حالته الأولى أو مادّته الأولى، أي تأثيراته والعوامل المؤدية إليه. وإنما يصير نصًّا عرضة للقراءة، والتحليل، وفقًا لأبعاده كافة، على ما رسم ياكوبسون بكتابه "في الشعرية"، وأيضًا غريماس، ولا سيما البعد العاطفي - الوجداني. أما سؤالك عن خصوصية تجربتي الشعرية، بل كتابتي بالمقارنة مع الشعراء السابقين واللاحقين، فأقول إنّ ذلك من مهمة النقاد والقراء، ولا يسعني بالتالي توضيح نسبة السريالية في شعري، وأحسبها في أدنى درجة منها، وأزعم أيضًا أن لي عوالمي الشعرية الخاصة، وحساسيتي التي تستخلص من مجموع أعمالي إلى اليوم.

(*) ماذا كانت قراءاتك في البدايات وما تلاها؟ وأيّ تأثيرات حدثت لقصيدتك ولفكرتك عن الكتابة؟

لا أتحدّث كثيرًا عن تجربة الشعر الحرّ التي مررتُ بها، أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، قبل شروعي في كتابة قصيدة النثر، وقبل صدور كتابي الأول "نبات آخر للضوء". في الواقع ظللتُ أكتب قصائد تامة منظومة على سمت الشعر الحر، أو التفعيلة، متأثرًا بالتجربة الصوفية التي قرأت لها كثيرًا، من ابن عربي، والحلاّج، والنفّري، إلى التراث الشعري المشرقي الكنسي مثل مار إفرام السرياني، ومار يعقوب السروجي، وغيرهما، وصولًا إلى شعر سمير الصايغ وأدونيس الذي كان أستاذي في كلية التربية، ومحمود درويش، وأغلب الشعر العربي الحديث. ولئن نشرتُ العديد من هذه القصائد في الصفحة الثقافية لجريدة "الأنوار"، بإدارة الشاعر رياض فاخوري، فإنّي لم أحتفظ بأيّ منها ولا جعلتها في عداد مجموعة شعرية بعينها.

وقد انتهت تلك المرحلة بانكبابي ثانية على مجال آخر من القراءات، ومناهل أخرى، مثل شعر أنسي الحاج، وشوقي أبي شقرا، وفؤاد رفقة، وعصام محفوظ، ويوسف الخال، أعني كلّ شعراء مجلة شعر، وأغلب الشعر الأجنبي المترجم من الفرنسية، والفرنكوفوني الأصيل، من بودلير إلى أندريه شديد، وصلاح ستيتية، وجورج شحادة، مرورًا بكلّ الشعراء الفرنسيين وشعراء من لغات حية أخرى، لا مجال لتعدادها. ولم تكفني تلك المصادر، بل وجدتُ أنّ ترجمةَ الشعر، ولا سيما قصيدة النثر من اللغة الأجنبية (الفرنسية بالغالب) سوف تفيدني، وتقوّم كتابتي، وتجعلني أكثر دراية بتفاصيلها ولعبها ومداوراتها التي تختلف عما وجدته في قصيدة الشعر الحرّ. فكان لي ذلك. وقد أعانني وجود الشعراء والكتّاب أمثال شوقي أبي شقرا وأنسي الحاج وإلياس خوري وعباس بيضون وبسّام حجار وحسن داوود على رأس الصفحة الثقافية في جرائد "النهار" و"السفير" و"المستقبل" وغيرها. وكانت ترجماتي لشعراء مثل غيوفيك، وبيار ريفردي، ورينه شار، وبيار جان جوف، وإيف بونفوا، وغيرهم. وكان هذا بالتزامن مع انشغالي بالترجمات ذات الوظيفة الأكاديمية في اللسانية الحديثة، بعلم السيمياء، وعلم الدلالة، لبيار غيرو، ولكل من رولان بارت وأومبرتو ايكو، فيما خصّ الأبعاد الخفية في كلّ من الشعر والسرد.

وبناء على هذا، عاودتُ الكتابة في قصيدة النثر، متّكئا على تجربتي في الكتابة الموازية، أعني الترجمة، من دون التنازل عن سجلّ اللغة البليغ، والجمالي إن أمكن. كما استندتُ إلى تجربتي الشخصية وهي مزيج خيبتي من واقع الحرب الأهلية التي مسّت الإطار العائلي من تهجير وخراب، ومن الإطار المكاني الأهلي والاجتماعي الاقتصادي، ومن الإطار العاطفي - الوجداني الذي ألفيتُه ينحلّ باطّراد، ويستبعدني من صلبه على النحو نفسه الذي استُبعد فيه طرفة بن العبد، الشاعر الجاهلي.


(*)  من خلال حديثك عن الترجمة وأثر الشعر الفرنكوفوني خصوصًا، هل هذا هو السبب في أنّ بعض التجارب الشعرية اللبنانية ظلت إلى حد ما لبنانية
ولم تُقرأ عربيًا بشكل كافٍ. شوقي أبي شقرا مثلًا وعصام محفوظ... حتى أنسي الحاج كان يقول إنه غير مقروء عربيًا وغير معروف كفاية. بالمقابل هناك تجارب لبنانية أخرى (الأسماء التي خرجت من تسمية "شعراء الجنوب" مثلًا) يبدو أنها كُتبت بمزاج عربي أكثر مما هو لبناني محض؟ ما رأيك؟ (لا أقصد التقييم هنا بل مجرد التوصيف)

لا أظنّ ذلك. إذ ينبغي عدم الخلط بين اشتغال الشاعر بالترجمة وبين نصّه الشعري المكتوب بلغة عربية بليغة، وإن تكن بلاغتها مخالفة للبلاغة التقليدية. إنما أظنّ أنّ لذلك التظليل، إن لم نقل الاستبعاد سببًا يُعزى إلى الخطاب الشعري العربي وميله إلى النبرة العالية، والحاملة قضايا (الريف، والحنين، والمشاعر الوطنية، والرومنسية) لم يضعها الشعر ذو الحساسية الفردية والخاصة موضعًا أوّليًا. بالإضافة إلى ميلٍ جمالي لا يزال تقليديا أو من أثر التقليدي (شعر التفعيلة، أو الحرّ). أما التجارب الشعرية اللبنانية الحديثة والمعاصرة، والتي أزعم أنّي أندرج في صفوفها، فقد تنوّعت حساسياتها، وافترقت لغاتها وهواجسها كثيرًا عن رؤى الرواد؛ فعلى سبيل المثال، يمكن اعتبار تجربة بسّام حجّار أقرب إلى لغة الشاعر الألماني جورج تراكل المغرقة في جنائزيتها وسوداويّتها وتحررها من قوالب قصائد النثر السابقة، من لغة أنسي الحاج المعتدّة ببلاغتها المضادّة وثورتها الفجّة على شعارات المجتمع التقليدي. في حين تعتبر لغة عباس بيضون مفارقة لأي نموذج لبناني معروف، بينما أجدها مكمّلة أو قريبة من تجربة سركون بولص العراقي، ذي الثقافة الأنكلوفونية!

(*) إضافة إلى ذلك، يلاحظ أيضًا أنّ ما سمي بقصيدة التفاصيل اليومية لم تدخل في صلب الشعر اللبناني. باستثناءات نادرة. لا نجد في هذا الشعر سردًا عاديًا أو حكاية أو قضية عامة كما أشرتَ أنت. لماذا برأيك؟

ما ألمحتُ إليه سابقًا، أوردتَه في السؤال أعلاه. منْ قال إنّ القضايا الكبرى محصورة في ما تحسبه العامّة من القراء قضايا؟ ألا يكفي أن تكون للشاعر قضيّته، أو ألا تكفيه أن يبصر القضية من خلال المشاهد التي يبرزها في قصائده، والأجواء التي يوحي بها إيحاءً. أما الحكاية، وهي موجودة في بعض شعري (في مجموعتي "أعمق من الوردة"، و"سكنى بين غفلتين")، ولكنّها تخدم الجوّ الشعري، ولا تحلّ السرديّ محلّ الشعريّ. ثمّ إنّ الشعريّ لا يختصر في سرد، او وصف، أو حوار. الشعري ماثل في وجهة النظر الغريبة والفريدة إلى الأشياء. أما مسألة التفاصيل، والعناية بها وإبرازها في الشعر، ومنها شعري، فمردّها، برأيي، إلى تبدّل جوهري في وعي الشاعر المعاصر، الذي اقتنع أخيرًا بوجوب الافتراق عن خطاب الجماعة الشعرية والاجتماعية، اللائذ بالمطلقات، والالتفات إلى ذاته والعناية بالمحسوسات، ومنها تفاصيل وجوده، وتعيينها، ومن ثمّ استخلاص الشعرية والدرامية من تناهيها.


(*) هل هذا هو جزء من خصوصية (أجدها شخصيًا إيجابية ولافتة) لتجارب شعرية ظلت بطريقة ما "لبنانية"؟ ليس المقصود هنا أنها مكتوبة في حدود ضيّقة، بل انها ظلّت وفية لسياق شعري ولغوي وتخييلي
أشبه بالهوية المكتفية بذاتها، رغم انفتاحها على العالم؟

لا يسعني أن أجزم بأنّ ما كتبته يندرج في تجارب لبنانية، على ما وصفت. وهذه الملحوظة تحتاج المزيد من الدرس والمتابعة مما يضيق عن المجال. ولكنّ ما أعرفه أنّ ثمة خطًّا موصولًا بين تجربتي وتجربة الكثيرين من لبنانيين وسوريين ومصريين وعراقيين، وغيرهم، ممن اختاروا قصيدة النثر قالبًا لصوغ تجربتهم الشعرية، وإن تكن لبعض شعراء النوع الروّاد تميّز أسلوبي وفرادة في الرؤية (مثال أنسي الحاج، وشوقي أبي شقرا). وما أزعم أنّي أتميّز به، أو أرسمه لنفسي، من ضمن الخطّ الشعري اللبناني، هو التأمّل في الذات الواقعة بين التناهي واللاتناهي، بين الهنا والهنالك، وبين الآن والأبد، وبين قاع المحسوس وذروة المجرّد، والبهيّ المحال استرداده.  

(*) داخل هذه الصورة هل ترى أن تجربتك الشعرية قُرئت بشكل كاف؟ أم أن "لبنانيّتها" إذا صح التوصيف ظلمتها؟ أم أنها أزمة في قراءة الشعر عمومًا؟

أحسب أنّ الإطار الثقافي، ولا سيما منه الصحافي، أتاح لي مكانًا للنشر، ومنحني مكانًا وموضعًا في السجلّ الشعري اللبناني، ولا سيما ما خصّ قصيدة النثر من الثمانينيات حتى اليوم. ولكنّ المسألة تكمن في النقد الثقافي الذي لم يستطع، باستثناءات نادرة، أن يُنشئ شبكة نقدية موضوعية يسلّط فيها الناقد العارف أضواءه الدقيقة على مواطن التميّز والاختلاف، والجودة، والوهن، لدى كلّ شاعر، ولديّ أنا. بالفعل هي أزمة قراءة الشعر بعامة، وأزمة النقد الثقافي في آن معًا. وإلى أن نحظى بهذا الناقد والنقد، سوف نظلّ نكتب انطباعات عن شعرنا وشعر الآخرين.

الشعر نتاج تأمّل الكائن في تفاصيل حياته

(*) في نصوصك عمومًا يلاحظ القارئ فعلًا ذلك التأمّل الداخلي الثمين الذي يحدث نتيجة لغتك ونبرتك التي تتجنّب الذهاب إلى الموضوع بشكل مباشر. فهل يمكن إحالة جزء من هذا التأمل على مزاجك الحياتي الميال إلى العزلة؟

أنا لا أفصل ما بين التأمّل والشعر؛ فالشعر بنظري هو نتاج تأمّل الكائن في تفاصيل حياته، وفي المطلقات الكبرى أو الكلّيات على ما يدعوها الفلاسفة (الحياة، والموت، والحرية، والرغبة، والزمن، إلخ). أما الذهاب إلى الموضوع بشكل غير مباشر فهذا من طبيعة الأدب الذي يترك للقارئ فسحة للتفاعل مع الشعر، ولملاقاته إلى المعنى في منتصف الطريق. في حين أنني لم أختر العزلة، الحياة وأوضاع العيش أجبرتني عليها؛ فعلى سبيل المثال، أجبرني العيش في بلاد لا ضمان فيها لذوي فكر أو مكانة أكاديمية، على الانشغال ساعات وراء المكتب طلبًا للرزق، كتابةً، وترجمة، وإشرافًا على الأطاريح، وعناية بولديّ اللذين كبرا ونهيّئ الثاني للهجرة، وقد سبقه الأول طبيبًا إلى الغرب، ضمانا لكرامتهما وتقدمهما العلميين. 

(*) تحدّثنا عن السريالية والمواربة والنبرة الخافتة في كتابة قصيدتك، ولكن ما هي مناخات عالمك الشعري، وكيف تطوّر أو توسّعت حدوده من مجموعة إلى أخرى؟

أوردتُ سابقًا أني انحزتُ، في مرحلة ما، إلى الخطّ السريالي في الكتابة، بعد انصرافي عن الشعر الحرّ أو التفعيلة، وتجلّى ذلك الانحياز في أوّل كتاب لي هو "نبات آخر للضوء". أما المواربة فهي نتاج الجهد المجازي التخييلي في ابتكار معادل للحالة بالكلام، لا يحاكي بالضرورة الواقع، وينأى عن منطق اللغة المألوف والمباشر، والمرجعي. ولعلّ هذه الصفات تناسب تصوّري عن الأدب بعامة، والشعر بخاصة.

وفي الإجابة عن مناخات المجموعات الشعرية أراني أوفّر على القارئ جهد اكتشافها واستخلاصها؛ وأيًا يكن، أقول إنّ لكلّ مجموعة شعرية مناخًا يمكن للقارئ أن يتبيّنه؛ فعلى سبيل المثال، يجد القارئ في "جسم ظلال وخطوات" مناخًا غالبًا عليه الانطواء، والركون إلى مسرح مكانيّ ضيّق، ترسم فيه الذات خطوط عزلتها وأطياف ألوانها وظلالها وأثاثها الضئيل في انتظار الأفق الذي لم يكن بعد. وفي قصيدة "الأرض خفيفة ولا خشية" وهي قصيدة طويلة، مقسّمة أناشيد متفاوتة في الطول، نوع من استعادة غنائية- وجدانية لموطن رعويّ مفتقد، ومسقط للرأس، بات ساحة اقتتال حقيقي، في التسعينيات من القرن الماضي، وكنتُ مهجّرًا عنه سنة كاملة.

وبناء عليه، تعتبر كلّ مجموعة جديدة تجسيدًا لتجربة مختلفة، وإطارًا لغويًا وأسلوبيًا ملائمًا لتلك التجربة، ومحاولة للتجديد في الكتابة الشعرية. وتحقيقًا لذلك، يمكن القول إنّ كتاب "أعمق من الوردة"، اختبار لنوع آخر من الكلام الشعري، حيث يختلط السرد بالوصف والتعليق والتصوير، يقترب من المسرح العبثي، مع الحفاظ على أجواء يغلب عليها الفقد والحنين إلى الابن، وقبول مصير الانتظار، وإن بلا أمل. وأحسب أيضًا أنّ لكلّ من المجموعات الشعرية الباقية مناخات تعبّر عنها، وتختلف عن سابقاتها. وأود اختتام الإجابة عن هذا السؤال بالكلام على مجموعة "لتخدمْكِ عيناكِ الجميلتان في الهوّة" وهي، في موجز العبارة، تأمّلات في ما آلت اليه حالي، أنا وزوجتي وطفلي الصغير، بعيد طردنا إلى المدينة، وإقامتنا فيها، عراةً من الأقارب والأصدقاء.

(*) كتبتَ روايات وقصصًا أيضًا. ما هي حاجة الشاعر إلى السرد؟

بداية ثمة خرافة مفادها أنّ الشاعر اليوم يفترض به التزام حدّه في الشعر دون غيره. ثمة ما لا يحصى من الروائيين الكبار بدأوا شعراء، أو زاوجوا بين الشعر والسرد، وما لا يحصى من الشعراء من اكتفى بالنوع الواحد. أما حاجة الشاعر إلى السرد فنابعة من رغبته في خلق عالم شبه واقعي مواز لعالمه - ويعجز عنه الشعر- ومن قدرته الفنية على ذلك الخلق. وهذا ما قمت به في رواية "الحفار والمدينة" و"المشّاء"، وقصص "زهرة المانغو".

(*) إلى جانب الشعر والكتابة السردية لديك ترجمات عديدة. ماذا أعطتك الترجمة؟

خير ما أعطتني إياه الترجمة التي استهلكت مني نصف جهدي في الكتابة (خمسة وعشرون كتابًا من الفرنسية إلى العربية) هو يقين بأنْ لا حدود للمعرفة، ولا مستحيلات في الكتابة، حتى بالعربية. ولكنّ الملفت والمنغّص في هذه التجربة الترجمية هو ظاهرة العقوق من قبل دور الترجمة، وقد أعيدت طباعة بعض الكتب التي ترجمتها ثلاثًا أو أربع مرات، ولم أحظَ بأي التفاتة استحسان أو شكر. أضف إليها ظاهرة التناحر الثقافي الخفيّ والبيّن.

(*) كيف تصف اليوم علاقتك بالشعر. هل بات طيّعًا أم أن الكتابة دومًا هي مرة أولى؟

عليك أن تسأله. علاقتي بالشعر اندماجية غير ظرفية. لا يتوقف التجريب فيها ولا التخريب. ويكون الشعر طيّعًا معي حين أشعر بأنّ ثمة حالة شعورية باتت تتطلّب مني التعبير عنها، ويصير البحث، غير الواعي، عندئذ عن الصيغ الشعرية الأكثر ملاءمة للحالة.

(*)  يُقال إن المعرفة بالشعر ونقده وأسرار كتابته قد تقتل عفوية الشعر، أو تجعله حصيلة صُنعة وحرفية. هل حدث ذلك لك وأنت المواظب على القراءة والترجمة والبحث والمتابعات النقدية التي تكتبها للصحافة الثقافية؟

لا أظنّ أنّ المعرفة الأكاديمية بالشعر وبأسرار كتابته قد تلغي العفوية في كتابته. ولم يحسب القائل أنّ ثمة لحظتين مفارقتين جدًا إحداهما للأخرى، هما لحظة يكون الكائن فيها أكاديميًا، ولحظة يكون فيها الكائن نفسه شاعرًا. وحين تحدث أبو هلال العسكري عن الصناعتين (الشعر والنثر) كان قارئًا وناقدًا، ولم يكن شاعرًا.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.