}

محمد الأمين بلغيث وأحمد رواجعية: ضحايا الأمس يقلّدون جلاديهم

بوعلام رمضاني 5 يوليه 2024
حوارات محمد الأمين بلغيث وأحمد رواجعية: ضحايا الأمس يقلّدون جلاديهم
يشهد العالم تضامنًا غير مسبوق مع فلسطين (Getty)
هما مؤرخان ليسا من التوجه الأيديولوجي والانتساب اللغوي نفسه. محمد الأمين بلغيث المعرّب(*)، وأحمد رواجعية المفرنس(**)، أكدا في مناظرة خاصة أن الهجمات التي قامت بها حركة حماس يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي لا تبّرر الإبادة الإسرائيلية العرقية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة ورفح، وهي من صلب وطبيعة استعمار استيطاني ما زال يصف أصحابه كل الذين يقفون في وجههم بـ"الإرهابيين"، والمعادين حتمًا للسامية حتى وإن كانوا من غير الإسلاميين. المؤرخان أبديا موقفًا يسند صحته السياق التاريخي للاستيطان الإستعماري منذ عام 1948، والذي بات واضحًا في كتاب "التطهير العرقي لفلسطين" للمؤرخ الإسرائيلي المعروف إيلان بابيه. بلغيث ورواجعية لبيا دعوتنا بسرعة قياسية، خلافًا لمثقفين جزائريين وفرنسيين وآخرين من أصول عربية خضعوا في تقديرهما "للجماعات الضاغطة الصهيونية التي تضمن حصولهم على الجوائز"، وترعى كتاباتهم التي تخاطب الأوروبيين بطريقة استشراقية تكّرس الروح الإستعمارية. هنا نص المناظرة في حلقتين. تأخر نشر المناظرة، لأسباب تتعلق بالوضع الصحي لكاتب هذه السطور. 

(*) ما هو تعليقكما الفكري والسياسي المبدئي عما يوصف بالنكبة الثانية في فلسطين بعيدًا عن الوطأة العاطفية التي ليس من السهل التنصل منها حيال هكذا مأساة غير مسبوقة؟

محمد الأمين بلغيث: ما يحدث في غزة، وما سيحدث في رفح كما هو مرتقب، نكبة ثانية فعلية، وإبادة جماعية لشعب يعيش الفصل العنصري الإسرائيلي الناتج عن قوانين دولية تمّ سنّها أيام غلبة الغرب الذي أراد التخلص من يهود العالم (راجع "المسألة اليهودية" للمفكر الراحل مالك بن نبي). منع الماء، والغذاء والدواء، أدلة ناطقة بإبادة جماعية بتواطؤ قوى غربية تربط وجودها بالكيان الصهيوني. الأدهى والأمر، دعم جيش الاحتلال العنصري بميليشيات فرنسية وبريطانية وأميركية وهندية وإيطالية وإسبانية (المؤرخ يتحمل مسؤولية تصريحه). العالم المتشدق بحقوق الإنسان والطفل والمرأة في حياة كريمة، يشاهد على المباشر تحت ذريعة حق الدفاع عن النفس، تهجير أكثر من مليون شخص في حيز ضيق، وضرب عائلات وأبراج لا يوجد فيها في معظم الحالات إلا الأطفال والنساء والعجزة.

محمد الأمين بلغيث: حماس حركة مقاومة تحررية

أحمد رواجعية: ما يحدث في غزة جريمة ضد الإنسانية، ولا يمكن مقارنتها في تاريخ الإنسانية إلا بما قام به النازيون ضد اليهود عقب الحرب العالمية الثانية. السخرية التراجيدية تؤدي إلى القول "إن ضحايا الجرائم البشعة أمس هم أنفسهم اليوم الذين يقلدون بوفاء جلاديهم الذين لا يقلون وحشية عنهم" (كلام قاله في السابق المخرج الفرنسي الراحل جان لوك غودار... راجع مقال نشر في "ضفة ثالثة" تكريمًا للراحل).

(*) إسرائيل التي تدعي أنها تدافع عن نفسها تستمر حتى ساعة تحرير هذه الأسئلة في إبادة أهل غزة بدعوى "سحق حركة حماس الإرهابية"، وهو الكلام الذي ستقوله أيضًا عند اقتحام رفح، والمقاومة في نظر المؤمنين بها كحركة تحرر، يعرفون جيدًا أن إبادة الفلسطينيين برنامج صهيوني يعود تاريخه إلى عام 1948، والسابع من أكتوبر ذريعة مكشوفة للاستمرار في النهج الإبادي التقليدي. ما الذي بدا لكما غير مسبوق من الناحيتين الفلسطينية والإسرائيلية في الوقت نفسه، علمًا أن كل جهة تدعي أنها حققت انتصارات أولى من نوعها؟
أحمد رواجعية: لعل الفعل غير المسبوق في التاريخ، فلسطينيًا، يتمثل في تمّكن حركة مقاومة قليلة كمًا وكيفًا من كسر خرافة الجيش الصهيوني المحتل. 
محمد الأمين بلغيث: حماس حركة مقاومة تحررية، في حين لا يختلف قادة الجيش الإسرائيلي عن النازيين، ولا يختلفون جوهريًا في أكاذيبهم وأساطيرهم المؤسسة لدولة الفصل العنصري عن العساكر النازيين، وعن غوبلز، وزير الدعاية الألماني. العالم اليوم تأكد أن الإبادة التي ترتكب ضد عزل بأحدث الأسلحة الغربية، ومن ضرائب المواطن الأميركي، وقتل الصحافيين، أمر لا يبّرر بالدفاع عن النفس. فرضية توظيف المستشفيات والجامعات بغرض المقاومة، ليست مبررًا لإبادة عائلات كاملة ومسحها من الخريطة السكانية في غزة.




لقد بينت الإبادة التي يتعرض لها أهل غزة، والتي سيتعرض لها أهل رفح، ومناطق أخرى من فلسطين الشهيدة، أن الإسرائليين قتلة، والجيش الإسرائيلي سليل حركة الهجانة.

(*) ألا تعتقدان أنه حان الوقت للتأكيد على مسؤولية معظم القادة العرب والمسلمين الذين يزّكون إبادة فلسطينيي غزة باعتبار حركة حماس الإسلامية عدوًا لهم وللإسرائيليين. الإسلاميون أضحوا عدوًا في معظم البلدان العربية والإسلامية، وأقصد بهم تحديدًا الإخوان المسلمين. ألم يشكر الرئيس الفرنسي الرئيس السيسي على محاربته إسلاميي بلاده، على حد تعبيره، عند استقباله في القاهرة؟ لقد فازوا ديمقراطيًا في انتخابات أرادها النظام المصري الرسمي. قول هذا الكلام لا يعني تزكية توجههم حتمًا. لكن يبدو أن مصالح الدول العربية والإسلامية المناهضة للإخوان المسلمين هي اليوم نفسها مصالح إسرائيل. ما تعليقكما؟
أحمد رواجعية: لقد أكدت ما تقولون مرارًا، الأمر الذي يجعل من الدول التي ذكرتها حليفًا لدولة إسرائيل الفاشية. هذه الدول تخشى عدوى انتشار حركة حماس المقاومة، وبالتالي إعادة النظر في الأسس التي قام عليها حكمها المفروض على الشعوب. حركة حماس المكروهة لدى قادة دول عربية تمّثل رمز مقاومة وشرف وتحد لدى الشعوب العربية المضطهدة، الأمر الذي يشكل كابوسًا عند طغاة الأنظمة القمعية والخائنة. كتحصيل حاصل، مصالح الأنظمة الفاسدة وغير الديمقراطية تتقاطع موضوعيًا مع مصالح إسرائيل، والتطبيع التي تقوده أميركا أبلغ دليل على ذلك. الوهابية الرجعية تقف وراء الترويج لفكرة عداء الشيعيين للسنيين.

أحمد رواجعية: لا أدافع عن جماعة الإخوان المسلمين من منطلق أيديولوجيتها

انطلاقًا مما قلت، من الطبيعي أن تقوم أميركا وإسرائيل بنشر هذه الفكرة كوسيلة دعاية ضد إيران وحزب الله وحماس. شكر الرئيس الفرنسي للرئيس المصري السيسي يصب في صلب تحليلي، وكلنا نعرف أن الرئيس المصري قد وصل إلى السلطة بانقلاب عسكري ضد الرئيس محمد مرسي الذي انتخب ديمقراطيًا. الرئيس الفرنسي كان منسجمًا مع تعاطفه حيال إسرائيل.

محمد الأمين بلغيث:
 الدول العربية والإسلامية التي طبعّت مع دولة الفصل العنصري تخضع لتهديد إسرائيل هؤلاء الحكام بكشف ملفاتهم الصادمة. دولتا الإمارات والبحرين تسهلان مرور الطائرات والسلع (من السعودية والأردن عن طريق دبي). هل تخفى هذه الحقائق عن وسائل الإعلام العالمية، وعن وسائل التواصل الاجتماعي؟ هذا التواطؤ لم يعد كافيًا، والعالم كشف جبن وخور وعمالة بعض الأنظمة العربية في حرب يقودها جيش عنصري يستمد قوته من مال الغرب. هذه الدول تتمنى وتحلم بالقضاء على حماس. هذه الدول تؤدي وظيفتها، وهي مكبلة باتفاقيات وقوانين مذلة لها ولشعوبها، وحتى المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين ممنوعة، ولو خرجت، ستخرج تحت أنظار وحماية رجال الأمن تكريسًا لخريطة وزارات الداخلية.

(*) التعامل مع الإسلاميين ليس أمرًا فلسطينيًا محضًا، وهو عربي شامل الأمر الذي يفرض علينا مقاربة سياسية تعالجه عربيًا وإسلاميًا سياسيًا وليس أمنيًا. يبدو لي أنه إفراز سياسي جدلي يعبر عن فساد سياسي عربي شامل أنتج دموية متبادلة، وتدجين الإسلاميين كما تم في بعض الدول العربية ليس حلًا، والديمقراطية هي الحل لكي تعبر كل التوجهات السياسية السلمية عن وجودها بحرية. فساد الأنظمة العربية تركها تساند إسرائيل لضرب إسلاميين مضروبين أصلًا في عقر دارهم، وعنفهم يخدم إسرائيل التي تبرر دمويتها بهم تماما كما يخدم الدول العربية القمعية لتبرير عنفها ضدهم هي الأخرى. ما رأيكما؟
أحمد رواجعية: لا أدافع عن الإخوان المسلمين من منطلق أيديولوجيتهم وأفعالهم غير البريئة، حينما أذّكر بدمّوية أنظمة عربية قمعية، وسياق طرحي جدلي كما جاء في سؤالكم. للذين يخلطون بسهولة بين المعطيات، أضيف مذّكرًا إياهم بأن الإخوان المسلمين في الدول العربية والإسلامية ليسوا كلهم سواسية سياسيًا، ولا يحملون الطموحات نفسها، ويجب لفت الانتباه إلى الفروقات النسبية بينهم. حركة حماس هي واحدة من نماذج الإخوان المسلمين، لكنها تعبّر عن فعل وطني قوي قبل كل شيء لمناهضة الاحتلال الصهيوني، وهنا يبرز الفارق بينها وبين الحركة الأم.

محمد الأمين بلغيث:
 إسلاميو فلسطين هم الذين يواجهون جيش الفصل العنصري. لقد حفظوا القرآن الكريم وهم فتية، ويحاربون مودعين رفقاء دربهم على أمل اللقاء في الجنة. هؤلاء ليسوا خريجي فنادق خمسة نجوم، وهم أحفاد الشهيد أحمد ياسين، وخرجوا من صحون المساجد وأنفاق غزة التي علّمتهم الصبر والثبات. أخشى ما تخشاه دولة الفصل العنصري أن يكون هؤلاء المرابطون وحفظة القرآن هم ورثة صلاح الدين الأيوبي، والشيخ عزالدين القسام.




هؤلاء يخشاهم نتنياهو لأنهم يتكلمون اللغة نفسها، وإذا كان اليهود الصهاينة من النساء والرجال يطالبون بإبادة سكان غزة وهم يستذكرون "عمليق"، فكيف سيكون مجاهد حماس في نظرنا إلا إذا استلهم دروس خالد بن الوليد وعمرو بن العاص.

(*) إذا كنتما غير مقتنعين بطرحي الواضح في السؤال، هل ترون الإسلاميين وسيلة موظفة تخدم كل الاستعماريين، بمن فيهم الصهاينة الذين عملوا على تهميش السلطة الفلسطينية، أو محاربتها، كما يقول كثير من المحللين، وعلى تقوية وتشجيع إسلاميي حماس، علمًا أن السلام الديمقراطي لا يخدم الطرفين في تقدير محللين آخرين؟

أحمد رواجعية:
 المسألة ليس أن أكون موافقًا على طرحكم أو لا. المسألة تكمن في سؤال: "عن أي إسلاموية أو إسلام سياسي نتحدث؟". الجواب أن هنالك فروقات سياسية ودينية بين مصطلحات الإسلاموية، والإسلام الراديكالي، والأصولية، والإخوان المسلمين، وهذه الفروقات تعكس الاختلاف في التوجه واللون على الصعيدين الوطني والأيديولوجي. ردًا على شق سؤالكم الخاص بمدى توظيف هذه التوجهات استعماريًا، أقول إن ذلك ناتج عن صناعة دعائية تشهرها الأنظمة العربية التسلطية والدكتاتورية لأغراض سياسية محض. أكيد، هنالك، وسيكون هنالك دائمًا عناصر خارجة من الطيف الإسلاموي بالشكل الذي يخدم الاستعمار والصهيونية. إذا كانت هذه الفرضية واردة، فإن ذلك لا يمّثله كل الإخوان المسلمين الذين يرون أن الأنظمة العربية القائمة وحماتهم العدو الأول. حركة حماس لا تصنف في أي حال من الأحوال ضمن الإخوان المسلمين بالمعنى الضيق، وهي حركة مقاومة وطنية تحارب الاحتلال الاستيطاني الصهيوني.

محمد الأمين بلغيث:
 اختلف معكم شكلًا ومضمونًا. ليس هنالك من يستطيع أن يتهم الجهاد الإسلامي ورجال ونساء القسّام بأنهم جزئية من جزئيات دولة ونظام ما. هؤلاء خرجوا من رحم المعاناة والقهر طيلة 77 عامًا من الفصل العنصري. هؤلاء فقط من يمكن أن تخشاهم إسرائيل والأنظمة العربية الوظيفية التي تتمنى إبادة ساكنة غزة. لقد تبين أن هؤلاء هم عنوان الشرف والمروءة واحترام حدود الشريعة في التعامل مع الأسرى، على حد تعبير وائل الدحدوح مراسل قناة "الجزيرة". 

(*) لماذا تختلف معي أستاذ بلغيث، والسؤال يستند لمحللين كثر يؤمنون بالطرح الذي جاء في سؤالي باسمهم، وهو فعلًا متداول إعلاميًا بقوة كما تعرفون، والدكتور رواجعية أشار إلى ذلك بحديثه عن صناعة دعائية...
ــ محمد الأمين بلغيث بالفعل، هذا الطرح رائج، وأنا اختلف مع أصحابه شكلًا ومضمونًا.

هوامش:

(*) محمد الأمين بلغيث:
 من مواليد عام 1956 بتبسة شرق الجزائر. دكتور مؤرخ صاحب عشرات الكتب في الحضارة العربية والإسلامية بأشكالها المتعددة دينًا وتاريخًا وأدبًا وفكرًا وسياسة ولغة، ومن بينها 13 مجلدًا عالج فيها أيضًا تاريخ الجزائر الحديث والمعاصر وتعليم الجزائريين في العهد الاستعماري. وله مؤلفات قيد التحضير تصب في مجرى تخصصه، ومساهمات في مجال الإشراف الجامعي، وفي وحدات بحث أهمها: معجما الفقه المالكي، وأعلام التربية والتعليم والتدبير بالمغرب، والفتاوى الفقهية في الغرب الإسلامي من القرن السادس إلى القرن الخامس عشر هجري.
(**) أحمد رواجعية: من مواليد عام 1947 بولاية بسكرة شرق جنوب الجزائر. هو عالم اجتماع سياسي وكاتب صحافي ومختص في سوسيولوجيا الظاهرة الدينية وأنثروبولوجيا الحركات الدينية. أستاذ التعليم العالي بجامعة محمد بوضيف بمدينة المسيلة، ومدير مخبر الدراسات التاريخية والاجتماعية والتغيرات السوسيو اقتصادية في الجامعة ذاتها. من مؤلفاته: "الإخوان والجامع (تحقيق حول الحركة الإسلامية في الجزائر)، وعظمة وانحطاط الدولة الجزائرية، والأطفال غير الشرعيين للجمهورية، والمانجمنت: دراسة لاستخدام الشركة". ساهم في تأليف كتب جماعية عدة، من بينها "أزمة العلوم الاجتماعية في الجزائر"، و"أي انتقال ديمقراطي للجزائر"، و"سيرة تاريخ النزوحات القسرية"، و"الإرث والتراث خلال القرنين التاسع عشر والعشرين"، وكتب أخرى هامة. صاحب مقالات علمية عديدة داخل وخارج الوطن في المجالات السياسية والدينية والتاريخية والإجتماعية والنسوية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.