}

اللجوء وشم في الروح

سمير الزبن سمير الزبن 25 مايو 2020
سير اللجوء وشم في الروح
لوحة للفنان الفلسطينى باسل المقوسى
لم أعِ كيفية صيرورتي فلسطينيًا، وأنا الذي ولدت في المنافي من أبوين لاجئين، إلا عندما شهدت كيفية صيرورة أولادي فلسطينيين أيضًا. يضطر اللاجئ دائمًا لتعريف نفسه بالسلب. في حالتي، يبدأ السلب من نفيه الانتماء إلى المكان الذي ولد فيه. عندما يبدأ أولاده أسئلتهم الفضولية، عن المكان الذي أتوا منه، يجد اللاجئ نفسه متورطًا في إجابات عصيّة على فهم أطفاله. كل الشرح يكون بلا جدوى، لأنه لا يجد جوابًا بسيطًا مقنعًا على سؤال بسيط يسأله طفله: لماذا يا أبي لا نستطيع الذهاب إلى المكان الذي ننحدر منه؟ ماذا يمكن للاجئ فلسطيني أن يجيب طفله على مثل هكذا سؤال؟! غير أن يروي الحكاية، حكايته، حكاية الألم الفلسطيني الذي لا ينتهي.
خرج أبي من فلسطين في نكبة عام 1948 في الخامسة والثلاثين من عمره لديه خمسة أطفال، ورزق في مخيمات الشتات أربعة آخرين، كنت آخرهم. منذ وعيت على الدنيا كان أبي يردّد القول: «أنا أعرفهم، اليهود جبناء، وأستطيع أن أهزم أي واحد منهم في عراك". كان أبي رجلًا ضخم الجثة صاحب قوة هرقلية مشهودة له من قبل اللجوء، هذه القوة جعلته بصحة جيدة حتى وفاته في التسعين. في طفولتي، فكرت كثيرًا في كلامه، شعرت أن كلامه مقنع. وفي مطلع شبابي سألته السؤال المحرج: «أبي، إذا كانوا جبناء وفعلوا فينا ما فعلوه، أي حال كنا سنصل إليها لو كانوا شجعانًا؟!».. حينها أربك السؤال أبي العجوز، لم يجد كلامًا يرد به، لقد خلق «اليهود الجبناء!» مشكلة لأبي ولي ولأمثالي ولأولادنا من بعدنا، وحولتنا إلى لاجئين أبًا عن جد، عقدًا بعد عقد. فأبي المولود في عام 1913 والمتوفى في عام 2003، حاول أن يلتف على هزيمة سحقت المجتمع الفلسطيني وفككته، بأجوبة تبسيطية تساعده على الاستمرار في حياة اللجوء القاسية. لم يدرك أبي (أو لم يرد أن يدرك عن قصد) أن الصراع الذي دار على الأرض الفلسطينية والذي شهد كل مراحله تقريبًا، لم يكن «عراكًا شخصيًا في حارة القرية» وحتى وفاته لم يصدق أن أرضه سرقت منه، وأنه لن يعود.
في المنفى، حلم أبي طوال عمره أن يعود إلى بلدته في سفح جبل الكرمل، لينظر في تلك المغارة التي خبأ فيها حزم القمح التي حصدها بيديه العاريتين ليلة بدأ مساره الطويل إلى منفى لم يرجع منه. قضى عمره ينتظر هذه اللحظة، لحظة تأمل كومة سنابل القمح أو مكانها على الأقل، ليعرف أن المكان ما زال مكانه. كان يعرف أنه إذا عاد لن يجد قمحه، لكنه حلم باستعادة اللحظة، باستعادة ما له، باستعادة معنى الحياة، حياته. عندما سألته قبل سنوات من وفاته، هل هو نادم على تلك الليلة التي قضاها في حصاد قمحه بيديه، والذي جعله يعجز عن جلب الأشياء التي طلبتها منه أمي، حيث عاد خالي الوفاض وبيدين مدمتين، قال: «لم أندم، ما فعلته تلك الليلة، أفضل ما فعلت في حياتي، إنه حقلي، إنه قمحي».. وبكى.
طوال سنوات اللجوء، لامت أمي أبي على الخروج من فلسطين، كانت تقول له: «لو سمعت كلامي، وبقينا في بلدنا لعشنا مع اليهود أفضل من العيش مع العرب». كان أبي يلوذ الصمت ويخفض رأسه عندما يسمعها تقول ذلك متحدية خياره بالرحيل (هناك رواية أخرى للنكبة يجب أن يُؤرخ لها، بإعادة كتابة التاريخ الفلسطيني بلسان نسائه، عندها سنحصل على تاريخ آخر، تاريخ أكثر إدهاشًا).

الأكثر تأثيرًا في تجربة أمي وسببت لها غصة عميقة، لم تشفَ منها حتى وفاتها، كانت تجربة الأونروا والوقوف في صف طويل لتلقي المساعدات الغذائية. اعتبرت ذلك ذروة الإذلال، لامرأة من عائلة مكتفية مع بعض الغنى تعيش في قرية على ساحل المتوسط، جميلة وتحبها. فجأة، تجد نفسها تبحث عن قطعة من قماش خيمة لتغطي فيها طفلها الرضيع. تدخل أوديستها الخاصة في الرحيل على أمل العودة، ما بين العيش في الجامع مع آخرين تفصل بينهم قطعة قماش، والتنقل من مكان إلى آخر وصولًا إلى قطعة أرض منحتها الهيئة العامة للاجئين، تأذن لهم بالسكن عليها دون تملكها. رغم الإذلال الذي شعر الفلسطينيون به تجاه الأونروا، إلا أنها كانت أمهم الحقيقية لحد كبير. أمهم التي حمتهم من الحاجة وأطعمتهم من طعام أرسله آخرون إلى «الإعاشة» كما سماها اللاجئون. أمهم التي حمتهم من الجهل، بتعليمهم القراءة والكتابة، التي أخذت بيدهم إلى مستقبل صغير في المنافي في مدارسها. أمهم التي رعت مرضهم عندما مرضوا، وحمت جراحهم من التعفن في عيادتها، وفوق كل هذا، كانت وما تزال الشاهد على الجريمة الكبرى التي ارتكبت بحقهم وسلبوا بفعلها أرضهم وحياتهم ومجتمعهم ومستقبلهم. لولا تلك المؤسسة الدولية على عيوبها، لزادت معاناة اللاجئين الفلسطينيين أضعاف معاناتهم التي شهدوها طوال عقود تجربة اللجوء القاسية.

ضياء العزاوي ـ النكبة بالأسود والأبيض والرماديّ 

















عاش الفلسطينيون في بلدان لجوئهم حياة لا تشبه حياة الآخرين، الإحساس بالغربة الدائمة كان عنوانها الرئيسي، وهو شيء لا يمكن تفسيره بسهولة، كيف تكون غريبًا، في بلد تولد فيه وتعيش فيه طوال حياتك، دون أن يسمح لك بالانتماء إليه، تحت حجة حماية هويتك الأصلية، وحفظ حقك في العودة إلى «فلسطينك» السليبة!
عندما بلغ ابني المولود في عام 1991 سن الرابعة عشرة، ذهبنا للحصول على هوية، هي في الحقيقة كما هو مكتوب في ترويستها «بطاقة إقامة مؤقتة للاجئين الفلسطينيين». هناك خانة في طلب الهوية، تطلب تحديد سنة اللجوء. عندما سألت الموظف ما المقصود بـ«تاريخ اللجوء؟» قال الرجل «عام 1948». اعتقدت أنه يسخر، لكن ملامحه كانت جادة جدًا. ملأت خانة تاريخ لجوء ابني المولود في عام 1991 بتاريخ لجوء جده في عام 1948، أي أن ابني لجأ قبل ولادته بثلاثة وأربعين عامًا. في حياة اللاجئين الكثير من المفارقات من هذا النوع. لذلك، ليس من الغريب أن يحمل اللاجئ الفلسطيني مفتاح بيته في فلسطين، وعندما يُهجر من مخيمه مرة أخرى، يحمل مفتاح بيته في المخيم إلى منفى آخر.
بعد العيش في ثلاثة بلدان لجوء مختلفة، عرفت أن اللجوء وشم في الروح، وشم يدّلنا ويدّل الآخرين على أننا غرباء، مطلق غرباء، من لا يعيش الطبيعي، لا يعرفه، يبقى غريبًا حتى مماته.

مقالات اخرى للكاتب

شعر
5 أبريل 2024
شعر
29 يناير 2024
يوميات
13 سبتمبر 2023
شعر
7 أغسطس 2023

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.