}

الأدب وما بعد كورونا

فيصل خرتش 8 سبتمبر 2021
يوميات الأدب وما بعد كورونا
(عبدالله العتيبي)

 

اليوم تلقحت باللقاح الثاني من "أسترا زينيكا"، ولم أعد أخاف من الإصابة بكورونا، فقد ذهبت إلى مستشفى التوليد الحكومي، ليس من أجل أن ألد، وإنما وضعوا به ملحقًا للذين يريدون أن يتلقحوا، فتلقحت، وعدت إلى المقهى.

في البداية تباعدت، بخاصة على دور الفرن، عندما أتوكل لجلب الخبز، بمجرد أن أستمع إلى صوت المؤذن عند الفجر، أكون قد جهزت نفسي وأخذت البطاقة الذكية وثمن الخبز، وانطلقت في الشوارع، التي لا يوجد فيها أحد سوى الجرذان واليمامات والقطط المتربصة بها، والغربان التي تلتقط رزقها، أصل إلى الفرن فأرى حشدًا من الناس يصطفون، دور للنساء ودور للعسكر ودور للمدنيين، فأصطف وراءهم، وفي تلك الأثناء ينبهونني بأني يجب أن أتباعد وعند ذلك أتباعد.

في باص النقل الداخلي وضعت الكمامة، ولم أتباعد عن الناس، والدولة حفظها الله وأبعدها عن كلَ مكروه، حرصت على تكميمنا وتباعدنا، ففي البداية أجبرتنا على وضع الكمامات، ووضعت عناصر الشرطة على أبواب البنوك التابعة لها، وفي دائرة الهجرة والجوازات وأماكن السجل العام، تستطيع أن تقول إنهم وضعوا الشرطة في كل مكان فيه ازدحام، وكانوا يجبرون الناس على وضع الكمامة، حتى إننا رحنا نشاهد رجالًا يبيعونها عند المداخل المزدحمة، وكنا نشتريها ونضعها أمام الشرطة، ثم نخلعها عندما نصبح في الداخل.

الدولة كانت حريصة على صحة المواطنين، فقد بخوا لنا البيت، إذ قدم أربعة شبان ومعهم بنت، أحدهم كان سمينًا ويحمل بخاخة لها خرطوم، وتعمل باليد، قالت الفتاة لزوجتي التي فتحت لهم الباب: هل تسمحون أن نبخ لكم البيت؟ نحن فرحنا وصفقنا مسرورين، وقلنا لهم: طبعًا، وسمحنا للسمين بأن يدخل ويبخ البيت، وغمرتنا سعادة لا توصف.

في المراكز الثقافية واتحاد الكتاب العرب تباعدنا ووضعنا الكمامات، وفي المقهى الذي أجلس فيه أبعدوا الطاولات ومنعوا الأراكيل، وبعد ثلاثة أيام، عندما أدرك صاحب المقهى أنهم جادون في الموضوع، قرر أن يعود عن قرار الحكومة، وفضل أن يدفع المخالفة، إن هم أمسكوا به.

كنا نسمع أصوات المساجد وهي تودع واحدًا إلى المقبرة، وعدد الذين كانوا يموتون لم يكن يتجاوز الخمسة عشر ميتًا.

بعد فترة قليلة، لم نعد نبالي، وصار الناس يمشون دون كمامات، حتى إنني اليوم، وفي سوق باب الجنائن حيث يباع كل شيء، استوقفني أحد الذين كانوا معي في الجامعة، في البداية لم أعرفه، لكن عندما خلع الكمامة عرفته وتعانقنا، قال إنه لا يستطيع السير دون كمامة، ثم مشينا كل في طريق، فلم أجد أحدًا غيره في السوق يضع الكمامة.

فيما بعد أيضًا لم نعد نضع الكمامة، ولم نتباعد، واختلط الحابل بالنابل، كما يقولون. وقد أصابت مدينتنا عدة جوائح في الزمن القديم، وخرجنا منها بحمده، تبارك وتعالى، فمن الهيضة (الكوليرا) إلى التيفوس، إلى الجدري والجرب وحمى القملة والطاعون، لكننا، وبفضل أجدادنا، خرجنا من هذه الأوبئة، وعشنا لنتفرج على هذا العالم المدهش والجميل، وهذا ضمن الغلاء العظيم الذي ضرب حلب عدة مرات، فقد كانت تقل فيها الأقوات، وصار الناس يزدحمون على الأفران ازدحامًا شديدًا، ويظهر أنهم لم يكونوا يعرفون الدور، فأمر الوالي بسد أبواب الأفران وفتح طاقة صغيرة، يتناول الناس  فيها الخبز على قدر سد الرمق، وقد حصل ذلك مرات عديدة، ففي إحدى السنوات، وقع برد شديد على مدينة حلب، وجمد الماء واستقام الجليد، وكان الغلاء شديدًا، فقد بيع شمبل الحنطة بعشرة قروش، والشعير بسبعة، والحمص والعدس بستة، ورطل الدبس بنصف القرش، والعسل بقرش وربع، والسمن بقرش وثلاثة أرباع، والخبز باثنتي عشر بارة، وكل المشكلة كانت كيف ستحصل القرش.

عندما كان لقاح الجدري يصل إلى المدينة، لم يقبل به الأهالي، إلا بعد دخول إبراهيم باشا المصري إلى حلب، وكانوا يقولون: "المصيبة من عند الله، والله هو الشافي"، وحين تفشت حمى التيفوس بين المساجين، وصار يموت كل يوم بضعة محبوسين، عينت الحكومة مستشفى لهم في جبل الغزالات، أفردتهم به وتركتهم يجابهون الموت وحدهم.

لما شاع ظهور الهيضة (الكوليرا)، أقيمت في جبهة الرها وحران والبيرة والرقة حواجز على كل مار من هذه المناطق إلى حلب، ومن لم يكن معه تذكرة مشعرة بنظافته، كان يحجر عليه صحيًا، وفي هذا الشهر قدم من إستانبول إلى حلب الشيخ وفا الرفاعي، ومعه من حلية رسول الله شعرة أعطته إياها امرأة من أكابر نساء إستانبول، فتلقاه الناس بالتكريم، ووضعت الشعرة في زاوية الشيخ تراب.

وفشا كذلك في مدينة حلب داء الجرب، وأصيب به ألوف من الناس، ومرض آخر سماه الأطباء (حمّى القملة) وربما أسموه حمّى التيفوئيد، وكان المصاب بهذا المرض يعتريه شبه صداع في أول الأمر ثم زكام مدة ثلاثة أيام، ثم تشتد به أعراض الحمى يومًا أو يومين، فيسوّد لسانه وشفتاه، ويتلعثم في كلامه، ثم يسكت ويموت، وقد بلغت الوفيات في اليوم الواحد مائة وعشرين نفسًا.

على أن أخطر هذه الأوبئة هو مرض الطاعون، يقول عنه كتاب "نهر الذهب" لبشير الغزي: "وفي هذه السنة كان الفناء العظيم والطاعون العميم الذي جاز البلاد والأمصار، ولم يسمع به في سالف الإعصار، وأخلى الديار والبيوت وأوقع الناس في علة السكوت، وكان إذا طعن به إنسان لا يعيش أكثر من ساعة رملية، وإذا عاش ودع أصحابه وأغلق باب حانوته وحضر قبره ومضى إلى بيته ومات، وقد بلغ عدد الموتى في حلب نحو خمسمائة".

وفي سنة أخرى يقول: "وقع طاعون جارف وتوفي ما لا يحصى من الأشراف والأعيان والعلماء، وحصل معه غلاء عظيم، وكذلك في سنة 1546 حدث طاعون جارف أهلك العباد وأطار الرقاد، وتلف فيه ما لا يعد ولا يحصى، وقدر بعضهم أنه هلك فيه عشر سكان حلب، ويسود الاعتقاد لدى الحلبيين أن الطاعون يصيب المدينة مرة كلّ عشر سنوات، ولا ينتشر في الشتاء، بل يفد مع قدوم الربيع، ويصل إلى ذروته في شهر حزيران، ويتدنى في تموز ويختفي في آب"

ويبدو أن الوباء اقترن بمشاهد من الفوضى والرعب، والسكان يعتقدون بتأثير القمر على الطاعون، ومن بين أولى أعراض المرض، كما يقول الدكتور راسل: "برودة ورعشة وغثيان، وقيء كميات كبيرة من مادة صفراء، تنبعث منها رائحة كريهة، مع ارتباك في المعدة، وألم في الظهر وأسفل البطن وفي الرأس، ودوخة غير عادية، وفقدان مفاجئ للقوة. وكان ينتاب بعضهم ألم حاد مفاجئ ينطلق من حين لآخر في الغدد النكفية والإبطية، وتعقب تلك الأعراض حمى شديدة، فيشتكي المريض من ارتفاع الحرارة الداخلية، وعندما تزداد حالة المريض سوءًا، يصبح لون وجهه قرمزيًا ثم يتحول إلى داكن على مزرق أشبه بشخص  مختنق، وفجأة يتغير لونه ليصبح شاحبًا كالأموات، وسرعان ما تفقد العينان بريقهما الطبيعي، وتصبحان غائرتين، وكانت ملامح معظم المرضى ساهمة شاحبة كالموتى ومضطربة، ثم يدخل في حالة الهذيان، وترتفع حرارته ارتفاعًا شديدًا، ويشعر برغبة في التحدث إلا أنه يتعثر في كلامه، ويشارك اللسان أعضاء الجسم الأخرى في الوهن والضعف العام، وتكون الدمامل المؤلمة في الأعلى شبيهة بندبة كبيرة ناجمة عن حرق بسبب مادة كاوية، وفي هذه الأثناء تظهر بقع زرق وسود بأحجام مختلفة متناثرة على الجسم، وفي اليوم الثالث، كانوا يموتون، وبعضهم يعيش إلى اليوم الحادي عشر، وكان السكان يعتبرون أن الطاعون لعنة أنزلها الله لمعاقبة الآثمين، وكانوا لا يعتبرون بفعالية الدواء للشفاء من هذا المرض".

لقد غادر معظم هذه الأوبئة، بفضل اللقاحات التي أوجدها الإنسان، وكذلك سوف يغادرنا وباء كورونا إلى غير رجعة، وسوف نعيش ونغني ونرقص ونكتب إلى ما شاء الله، وسيظهر غيره، لكن الأدب مستمر طالما هناك حياة تدق للإنسان وتقول له: أن يغني من أجل مستقبل سعيد.                               

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
11 فبراير 2024
يوميات
5 يناير 2024
يوميات
25 نوفمبر 2023
يوميات
6 أكتوبر 2023

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.