قال ذلك ومضى يشرح للبقية عن عملية "طوفان غزّة"، ويفصّل فيها، حتّى إنّ أحدهم ملّ من هذا الحديث، وهو خريج اقتصاد، فأخرج الموبايل، وصار يلعب به، إنّه قد بلغ عمرًا عتيًا، وهو يصبغ بقايا شعره ويفرقه من فوق أذنه إلى الأعلى، ويأتيه من الخلف فيمشطه من الأسفل، ثمّ يرتفع به على أن يصل به إلى القمة، وكان يسمّى بالأرقش. لقد عافت نفسه الحروب، ومشاكلها، ويكره القتل والخراب والدمار وتشريد الشعوب، لذلك اختار أن لا يستمع إلى مثل هذا الحديث، وفضل الموبايل عليه.
الناقد الكبير ظلّ صامتًا، لا يعرف ماذا يقول، وذلك لأنه لم ير شيئًا، إنّه يفضل القراءة والتأمل على مشاهدة التلفاز. لقد نال الشهادة بعد جهد ومعاناة، وكلّ إخوته لم يدرسوا، حتى الابتدائية لم يأخذوها، اندمجوا في العمل، بينما هو راح يدرس ويكافح حتى أخذ الشهادة. صحيح أنه لم ينقد كثيرًا، لكنه نشر في الصحف العربية والصحف المحليّة بعض المقالات، وأضاف عليها نشر روايتين لم تلقيا ناشرًا، حتى وزارة الثقافة لم تطبعهما، فطبعهما على حسابه الخاص، وهما تتحدثان عن طفولته البريئة ولعبه مع أولاد الحارة، وهاتان الروايتان هما عصارة فكره، وما كان قد عاشه قبل التأمل.
الشاعر الذي يتقن لعبة الموزون والمقفى، ويتقن أيضًا لعبة الشعر المنثور، نشر في المجلات والصحف غير المعروفة، وحاول أن يبدي رأيه في الحرب على غزّة، لكن القاص مدرّس اللغة العربية لم يتركه يتابع كلامه، وقاطعه مرات عدة. الشاعر أصرّ على أن يتابع الكلام، كان يريد أن يقول: إنّ نتنياهو قرّر الحصار على غزّة، وإنّ دباباته تفرض عليها كامل الحصار، بحيث يمنعون عنهم: الدواء والماء والطعام والكهرباء والوقود، كلّ شيء، إنّهم محرومون حتى من تنفس الهواء، القتلى صاروا بالآلاف، وهنا أجابه الناقد الكبير: إنه بحر من الدماء يطوف فوق غزّة.
في الأيام التاليات استمر القصف على غزة، والشبان المثقفون كانوا يتابعون جلساتهم، كانوا في حاجة إلى مدرس لغة عربية، على رأس عمله، يوضح لهم الأمور، جاء نصف البرميل الفارغ وجعل يوضح لهم بأنّ إسرائيل هي عدوّة للإنسانية، لقد شرعوا في قصف المستشفيات، ها هم يحتلون مستشفى الشفاء، وتابعوا بمستشفى الرنتيسي، ولم يجدوا شيئًا، إنهم لا يستطيعون القتال، ولا يتقنون إلا قصف المدارس والمستشفيات وتهديم الأبنية على رؤوس ساكنيها، لا يستطيعون القتال وجهًا لوجه، يختبئون في الدبابات والمجنزرات، ويقصفون بالطائرات، يبحثون عن المخطوفين، كمن يبحث عن إبرة في كومة تبن. هنا، صاح صاحب الوجه الأرقش، دعونا من هذا الحديث، ألا يوجد غير غزة لنتكلّم عنها؟ قالوا جميعًا: لا يوجد، أتحفنا بحديث يبيّض الوجه. وهنا انبرى إلى موبايله يلعب به، وأصبحا اثنين في واحد، اندمجا معًا في كلّ واحد.
استمر القصف على غزّة، وأوقع أكثر من أربعة عشر ألف قتيل وخمسمئة، سبعون في المئة منهم من الأطفال والنساء، ونصف هذا العدد تحت الركام، قصفت البيوت والمباني والمستشفيات، والمقاومة ما زالت تردّ على إسرائيل.
وجاء من آخر المجموعة الدكتور خبير الأعشاب الطبية، خريج الاتحاد السوفياتي سابقًا، وأدلى بدلوه في الحرب على غزّة، قال: ألم تكن حماس والجهاد وفصائل المقاومة الأخرى تدري النتائج الكارثية التي ستنجم عن أخذها الرهائن، قالوا جميعًا: نعم، هم يعرفون ذلك، وهنا انبرى الأرقش إليه، وقال: يا جماعة هل أدلكم على طعام ينسيكم حليب أمهاتكم اللاتي أرضعنكم، هات واسمعنا لنرى كيف يكون هذا الطعام، فقال: ننزل على سوق اللحم، ونشتري اثنين كيلو منه، ونفرمه ناعمًا حتى يصبح كبابًا، كفتة يعني، ثمّ نأتي إلى سوق الخضار ونشتري البندورة والفليفلة الحدّة والبصل، ونأتي إلى البيت، نفرمها جيدًا، وبعد ذلك نمد اللحم على الصينية ونضع فوقه البصل والفليفلة والبندورة، مع قليل من التوابل، وندفعها إلى الفرن، ثمّ نخرجها عند الاستواء، نضعها أمامنا على طاولة الطعام وبجانبها الفليفلة والخبز، سكوت بدأ الطعام، وهنا تدخل الدكتور خرّيج الاتحاد السوفياتي، خبير الأعشاب الطبية، وقال: حرام عليك، يا رجل، أهلنا في غزّة لا يجدون ما يأكلونه وأنت تريد أن تأكل الكباب، فقال الأرقش: إنه كلام بكلام، نحن لم نصنع الكباب ولم نبدأ بأكله، وهم هناك جياع، إننا وبسبب الغلاء لا نرى لحمة ولا توابعها، لا تقيد علينا، وعاد إلى الموبايل يلعب به.
جاء النادل من أقصى المكان، قال: ما زلتم تختلفون، لقد حصلت هدنة لأربعة أيام بين إسرائيل وحماس، على أن تفرج حماس عن خمسين امرأة وطفلًا من الذين احتجزتهم مقابل مئة وخمسين من الأطفال والنساء في سجون إسرائيل، وإدخال كمية من المساعدات الإنسانية تقدربـ300 شاحنة، مع كمية من الوقود إلى قطاع غزّة، صرخ الجميع: هيه، وقال النادل لهم: هيا إلى بيوتكم، فقد بدأت مناوبتي.