}

ذكريات عن وقع الانفصال

فيصل خرتش 6 أكتوبر 2023
يوميات ذكريات عن وقع الانفصال
(مروان قصاب باشي)
كنت في مدرسة المثنى بن حارثة الابتدائية، وهي مدرسة صغيرة ومنمنمة، عبارة عن دار جميلة، لأحد وجهاء المدينة، وقد استأجرتها مديرية التربية والتعليم منه، وقسّمتها إلى صفوف، ووضعت لكلّ صفّ معلّمة مسؤولة عن تربيتنا وتعليمنا، كما وضعت على هذه الصفوف مديرة تشرف على سير العملية التربوية، وتتابع عمل كلّ معلمة، ووضعت على الباب مستخدم، عمله يكون في الإشراف على المدرسة، فهو يكنس الصفوف بعد رحيلنا، ويدخل التلاميذ، ويجلب الخبز للمديرة والمعلمات، كما يجلب أشياء أخرى لهن، ويذهب إلى المديرية لأخذ البريد وجلبه.
المثنى بن حارثة هو أحد قوّاد معركة دارت بين الفرس والعرب. والمدرسة لا تزال كما هي، وقد زرتها مرّات عدة، كنت كلما مررت بالسوق التي تقع بجانبها، أمرّ عليها، أنحرف من جهة اليسار، فأجد لوحة صغيرة تعرّف بها، لكنني لم أجرؤ على الدخول إليها إلى الآن، وربما يعود ذلك إلى أنني أخاف من وجود معلّمتنا تنتظرني، فقد كانت تشدّ أذني، وتصفعني، قبل أن أدخل إلى الفصل.
كان الصباح خريفيًا جميلًا، وكنت قد أفطرت شايًا وزعترًا، مشطت شعري، ولبست الصدرية السوداء، واتجهت إلى المدرسة، لم يكن فيها فصول كثيرة، فقط ستة، ولكلّ فصل اثنان، فالأوّل يتكوّن من شعبتين، وكذلك الثاني ثمّ الثالث، كانوا يرحلون التلاميذ إلى مدرسة سعد الله الجابري، وهي مدرسة نموذجية تبعد عن مدرستنا قليلًا، ونظلُ نلبس الصدرية السوداء، ولكننا لا نضع القبعة، فهي خاصة بهذه المدرسة، عند ذلك تذكرتها فأخرجتها من جيبي، ووضعتها حول رقبتي، فكنت كالبرغوت باللبن، صدرية سوداء تلفّحني، وفي أعلاها دائرة بيضاء تسوّر رقبتي.
في الصباح الباكر، قبل أن أفطر، كان أبي يجلس إلى الراديو (الفيليبس) وكان أبي يدير إبرته، وقتها أعلن أنّ الانفصال قد وقع، وكان اليوم هو الثامن والعشرون من شهر سبتمبر/ أيلول، لم أدر عن أيّ انفصال هو هذا، كنت مستعجلًا كي أنهي فطوري وأرتدي ثيابي وأمشط شعري وأنطلق إلى المدرسة، فقد تأخرت هذا اليوم، ومعلمة الباحة سوف تعاقبني، قال أبي: لا تذهب إلى المدرسة اليوم، فقد وقع الانفصال، لم أستمع إليه، قلت: سوف تضربني المعلّمة، وأسرعت راكضًا، ومغلقًا باب الدار خلفي.
وصلت إلى المدرسة، كان التلاميذ يجتمعون أمام الباب، بدأ واحد منّا يهتف، ثمّ أخذنا نردد وراءه، وخرجت المعلمات من المدرسة، كنّ متحمسات وغاضبات، خرجت معلّمتنا الآنسة (صفية) وأخذت تهتف، وتعيّش عبد الناصر، وتسقط الخونة المأجورين الذين باعوا أنفسهم للأجنبي، هؤلاء هم عملاء الاستعمار، لم نكن ندري ما هو الاستعمار، وما معنى كلمة الأجنبي، والخونة المأجورين، فقط كنا نهتف وراء معلّمتنا، وبصوت قوي يهزّ أركان البناء، وقرع الجرس بقوّة مرّات عدة، وفتح باب المدرسة على آخره، ووقف المستخدم رافعًا يديه في نهاية الممر، وخرجت المديرة إلى الشارع الضيّق وبيدها عصًا، وأخذت تضرب التلاميذ على أرجلهم، وكانوا يفضّلون البقاء في الشارع الضيق، ومعلمتنا تهتف بنشيد الثورة "ناصر ناصر الله الناصر".




استطاعت المديرة أن تدخلنا إلى المدرسة، بعد أن قرّرت أن تغلق الباب وتخبر مديرية التربية والتعليم بما نفعله، وأنها سوف تفصلنا جميعًا. نحن خفنا، فالمديرة يحق لها ما تشاء، لذلك دخلنا، ودخلت المديرة وراءنا، وطلبت من المستخدم أن يغلق الباب، وألّا يسمح لأحد بالخروج إلا بإذنها، أمسكت البوق وصارت تنادي علينا كي نصطف. اصطففنا في رتل ليس كما تحب المديرة، ووقفت المعلمات أمام كلّ فصل، وصرخت المديرة من خلال البوق: استارح.. استاعد.. النشيد الوطني، فما كان منّا إلا وبدأنا نردّد نشيد "الله أكبر"، وهنا طار صواب المديرة، المعلمات يهتفن وهنّ أمامنا ونحن نهتف:
الله أكبر الله أكبر الله أكبر فوق كيد المعتدي
والله للمظلوم خير مؤيد أنا باليقين وبالسلاح سأقتدي
بلدي ونور الحق يسطع في يدي قولوا معي...
الله الله الله أكبر فوق المعتدي.
وما إن انتهى النشيد إلا وبدأنا بغيره، كانت المديرة تحوم بعصاها ونحن نحاول أن نتفاداها، إنها تحاول أن تسلخنا على أرجلنا، فنزيح عنها مما جعل الصفوف تتمايل ذات اليمين وذات الشمال، ونحن نغني:
عبد الناصر يا جمال           يا مقدام عروبتنا
فيك محقق للآمال              وأنت غاية وحدتنا
المديرة تصرخ: عليكم بالنشيد الوطني.. استارح.. استاعد،.. حماة الديار عليكم سلام أبت أن تذلّ النفوس الكرام، ونحن نرد عليها: عبد الناصر يا جمال. أصبحت المدرسة كأنها حمام وانقطعت مياهه، كانت المديرة تقفز من مكان إلى آخر، بين التلاميذ، وهم يروحون يمينًا وشمالًا، والمعلمات يرقصن ويدبكن أمام التلاميذ، بل إن معلمتنا الآنسة (صفية) أزاحت التلاميذ، وصنعت فسحة أمام باب الإدارة وأمسكت يد آنسة الصف الثاني الشعبة الأولى، وصارت تدبك وتزغرد وتصيح بحياة عبد الناصر. المديرة جنّ جنونها، أحيانًا تضربنا على أرجلنا، وأحيانا على أجسادنا، وأحيانًا تكون في الصف الثالث، ثمّ فجأة تصير داخل الصف الثاني، والعصا بيدها تهوش بها علينا، ثمّ انفتح الباب على مصراعيه، وتكوّم التلاميذ خلفه، وهم يصرخون بحياة عبد الناصر زعيم العروبة الخالد، وصارت الهتافات تملأ الفضاء، وصعد تلميذ على أكتاف تلميذ آخر، وصار يهتف والتلاميذ يرددون وراءه، وعاش الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، عاش عاش عاش.
انطلقت المسيرة نحو السوق، ومرّت من أمام المقهى، ووقف جلساء المقهى يحيونها، مرّت أمامهم والتلميذ الذي كان على الأكتاف شعر بالفخر حين رأى زبائن المقهى وهم يحيون المسيرة، ثمّ مشينا في السوق، مجموعة تكرج وراء أخرى، وأصوات الأطفال الصغار تملأ الفضاء، والسوق كلّها تصفق، والنساء تزغرد، والكلّ يتجاوب مع المسيرة، وانتهى المشوار بنشيد: الله أكبر.

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
11 فبراير 2024
يوميات
5 يناير 2024
يوميات
25 نوفمبر 2023
يوميات
6 أكتوبر 2023

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.