}

المتدارَك في الجنون

زيرفان أوسى زيرفان أوسى 22 نوفمبر 2023
يوميات المتدارَك في الجنون
عمل للتشكيلي الإسباني خوان ميرو (1893-1983)

 

إذا أخذنا - دون انعطاف نحو مدارك العقل – بمقولة "هناك درجات أو مدارات للجنون"، والدرجة هنا بمثابة مرتبة وجودية ـ روحية لا تخضع لأي تعريف محدد، فنحن مجانين في وحدتنا، مجانين بمجرد أن ندخل عنوة أو رغبة في معترك، روحيًا أو دون ذلك، الإيماءات والحركات ليست مقاييس للجنون، هي أصداء طبيعية تحدث، ففي الجانب الآخر، الذي نجهلهُ، نروّضُ الذوات على الاقتراب منه، الجانب الغامض الذي يمكنُ أنْ يكون أكثر اطمئنانًا وأخف شرًا، قد يكون هو الجنون، فكل ما يتعلق بالجنون، إضفاء دلالة أخرى على الكون، ذلك الكونُ لوحدهِ، الجانب الآخر اللامحتدمُ بأيّ شكلٍ من أشكال السلطة.

جنون يوميٌّ

سألني صديق، ما الفرق بيننا وبين المجانين، قلت: تنقصنا الصفة الرسمية، حتى تكتب في الأوراق الثبوتية، نحن مجانين غير رسميين، جنون على الملأ دون تصنع أو كلفة، هو الأسمى من حرثٍ يبدو أنه حرث في البحر، تذكرتُ حينئذٍ مقولة الشاعر صلاح حسن: أنا مجنون بسبب، وأنت عاقل بلا سبب. لعل الناتج عن تلك السببية هو الكمال، كمال فحسب.

الجنون وسمٌ عالٍ، لماذا ليس لدينا أزقة أو شوارع أو حدائق تحمل أسماء المجانين؟ هذا السمو الذي يترك بصمة دون أن يلتف مثل الطبيعة، يقول بيسوا: الطبيعة جميلة لأنها لا تلتف، نعم الجنون لا يلتف لأنه جميل.

كنتُ أحدّق في السماء قرابة ثوان، أشار صديق مُنبّهًا، إلى أين؟ ثم مضى، لم أتكلم. كثير من الناس، لا يتركون لنا مجالًا أن نمضي مع الخيال، أو نتخيل، أو نستدرك بعد الفوات، ألّا نتفاجأ مثل الهيمنة المميتة في الواقع، هؤلاء الناس، يقذفون أنفسهم في الخيال، لكنهم لا يريدون أن نفعل ذلك، لماذا؟

الكتابة بالجنون

كُتب عن الجنون كثيرًا، نثرًا أو شعرًا، من خلال كتب مستقلة، لكن لم أرَ أحدًا كتب عن طبقات المجانين، محاكاةً من خلال رؤية كتب الطبقات للشعراء والفقهاء، فتكون الوجهة مغايرة، سَربٌ لا ينتهي لحياة المجانين، لكل مدينة أو دولة.

الكتاب الذي يعرفه المهتم بالأدب "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" لميشيل فوكو، لم يأخذ فوكو منحى وجوديًا عميقًا تجاه المجانين، فهو تشخيص تاريخي ذو طابع سردي للحالات المرضية، وهناك كتاب آخر للكاتب الإنكليزي روي بورتر، بعنوان "موجز تاريخ الجنون" يعيد المفاهيم النمطية للجنون، محاولًا تفكيكها، من خلال عصور مختلفة، والكتاب لا يخلو من المتعة. الكتابة عن الجنون تستدعي الجنون نفسه من خلال فضاءات لا متناهية بالوجود، فالكتابة عنه حفرٌ بالعيون، نمطٌ لا يشبه أي نمط، أو بالأحرى كتابة ضد أي نمط سائر.

أرى، كتابة طبقات المجانين، أمر صعب، من نواحٍ كثيرة، لعل أبرزها لا نعرف "الفضاء الجنوني" لمجنون معين، ولا ندرك تلك الثيمات المتلاصقة بحياتهم، من أحداث خاصة في وحدتهم، لكن ثمة إرثٌ يمكن الإسناد عليهِ، وهو (ما قالوا وما تركوا) بناء على تلك القيمة، نحدد الطبقات، في ضوء (الإرث الجنوني). الكتابة ستكون هوسًا، ذات نزعة جنونية حتمًا، واللغة ديناميت تتراءى للحرف وهو يحاول ألّا يحدث قتلًا داخل النص، مغامرة داخل مغامرة، عملية للاستئناس بالوجود، أو بوجودنا.

أكرّر، الأمر صعب، لكنه ليس مستحيلًا، هو عمل شاق، يشبه إيجاد فردوس غير مرئيّ، يكون على مرأى من العين. هناك تلازم بين الشاعر والعاشق والمجنون في الخيال، يقول شكسبير "المجنون والعاشق والشاعر هم وحدهم أصحاب خيال كامل". انطلاقًا من قول شكسبير، من المؤمّل أنْ تدون الكتابة من خلال أحد هؤلاء الثلاثة، والشاعر أقربهم.

حرية أخرى

ممارسة الحرية في جميع الحقب، إجراء مزدحمٌ مثل وقع السوطِ وبُقع الدم المتبقية على ثوب الجلاد، إجراء لا يحملُ سوى الخضوع أو التمرد، الحياد ليس إلا من أماراتِ الخدعةِ أو الهزال، هل نستطيع أن نجد مأوى آمنًا بعيدًا عن ذلك الصراع الحتمي؟ هل من المأمول أن نخرج من مكائد يومية، من الوجود العاقل برمتهِ؟ قد يفاجئنا الجنون، بالتقرب شررًا من كينونة "المجنون" الممارس بالحرية، دون أي خوضٍ يدعوهُ ليكون حرًا، دون أي اختبار ليقطع وهمًا، ننعته بــ(الحرية)، فيكون حرًا، أو يكون خاويًا من أي حريةٍ، بمفهوم مستهلك عابر، نتّخذهُ يوميًا شعارًا أبديًا، حرية المجنون حرية أخرى، فهي حرية يومية غير متكررة، جنون اليوم لا يشبه جنون الأمس، وحرية الأمس لا تمثل حرية اليوم.

*شاعر وكاتب من كردستان العراق.

مقالات اخرى للكاتب

شعر
31 ديسمبر 2023
يوميات
22 نوفمبر 2023
شعر
26 يوليه 2023
شعر
9 فبراير 2023

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.