}

حكايات من الشتات الفلسطيني

أحمد طمليه 15 ديسمبر 2023
سير حكايات من الشتات الفلسطيني
(مهنا الدرة)
يغلب على المخيمات الفلسطينية في الدول العربية المجاورة لفلسطين، حين يتم الحديث عنها، الجانب الإحصائي، المقصود لحسابات سياسية، إذ يقال: تهجروا في عام كذا، مضى على وجودهم مدة كذا، يبلغ عددهم... وغير ذلك من الكلام الذي يتعامل مع اللاجئين الفلسطينيين باعتبارهم أرقامًا، وإحصائيات، ولوازم. ويتناسى كثيرون أن في هذه المخيمات ثمة ناس تعيش، وتواجه ما تواجه من تفاصيل حياتية يغلب عليها العوز، وتعتريها رغبات، وتشوبها منغصات شخصية، وكثير من الأحلام الصغيرة. في هذه الحلقات، أتوقف أمام حكايات حقيقية حدثت في المخيم الفلسطيني في الشتات، سمعتها من أصحابها مباشرة، أو ممن سمعوا عنها. وإذ أعيد صياغتها، فذلك حتى لا تتوارى، مثلما توارت جثامين بعض أصحابها تحت التراب.

يوسف

يتذكر طفولته في مخيم الوحدات. يتذكر ذات يوم، استيقظ على أصوات أولاد الحارة وهم يعبرون عن فرحهم بمجيء العيد. هو لم يكن فرحًا بمجيء العيد مثلهم، رغم أنه يحبه أكثر منهم. كان ينتظره على أحر من الجمر. كان ينتظره أكثر منهم. لكن، ما حدث ليلة أمس، نزع فرحته، أو بالأحرى دعاه لأن يؤجل فرحه، ريثما تهدأ الأجواء في البيت. ريثما تهدأ أمه.
كانت أمه غاضبة ليلة أمس. تصرخ طوال الوقت. أعدت قلاية بندورة، عشاء، وهي تصرخ، تشتم، ودموعها تسيل على خديها.
هي هكذا تكون عندما تكون غاضبة. ليلة العيد كانت غاضبة. الأب لم يف بوعده، لم يعد في المساء بما وعد. كان قد قال: اليوم سوف تفرج، سوف أعود بمال كثير. موجهًا الكلام لأمه:
"يمكنك أن تشتري للأولاد ملابس العيد. ويمكنك أن تسهري الليل في إعداد كعك العيد". طلب منها أن تستعين بجاراتها، للانتهاء من الكعك مبكرًا.
قال لها: الليل مزدحم بكثير من المهام التي يتوجب علينا فعلها:
"بدك تسدي ديونك، أهمها الدكان، أبو العبد لم يقصر معنا، بس إحنا طولنا عليه".
تقاطعه: أم علي أكلت وجهي، بدها مصاريها. بعدين بدي أحمم الأولاد، وأعزل الدار. ثم تتنهد قائلة: مية شغلة علي.
لكن والده عاد في المساء خالي الوفاض، ما معه مصاري. جن جنونها. راحت تبكي وتشتم. بل إنها شتمت العيد. قالت: مش وقته.
ما يتذكره تمامًا أن أمه طلبت منه. يتذكر أنه كان دائمًا يجلس جانب أمه. سواء كانت غاضبة، غير غاضبة، يجلس جانبها. لا يروق له الجلوس إلا جانبها.
طلبت منه أن يذهب إلى دكان أبو العبد، ليستدين. يستدين ماذا؟ يحاول أن يتذكر: خميرة. نعم خميرة. طلبت منه أن يستدين من دكان أبو العبد خميرة.
يتذكر أنه قال لأبي العبد:
بتسلم عليك أمي، وبتحكيلك بدها خميرة دين.
كاد أبو العبد أن يضربه. صرخ بصوت مرتفع: عيد ودين. الله أكبر. وطرده...
لم يعرف كيف يعود إلى أمه من دون خميرة. الخميرة مهمة. بل إنها أهم شيء في الدار بالنسبة لأمه. من دون خميرة لا يوجد خبز، لن تتمكن أمه من أن تعجن.
كان يضحك حين يتذكر أمه وهي تعجن. يحب أن يراها وهي تعجن. أجمل مشهد يراه مشهد أمه وهي تعجن:
تجلس على الأرض. تفرج قدميها لتضع وعاء العجين بين قدميها، بما يساعدها على التحكم بالعجين بقدميها ويديها. ثم تصب الماء. صب الماء يتم تدريجيًا، وضمن تعليمات الأم، أي خطأ في صب الماء، زيادة، أو نقصانًا، يمكن أن يتسبب بإفساد العجين، وبالتالي خراب الخبز. أثناء صب الماء تضع أمه الخميرة، وتبدأ تعجن فيه. تظل تعجنه، تقلبه بيديها، إلى أن تكتفي منه. تغطيه، وتضعه جانبًا حتى يستريح. يجب أن يستريح العجين قبل خبزه. إذا لم يسترح يفسد.
صب الماء على العجين مهمة ليست سهلة. يجب أن يصب بهدوء. قطرة... قطرة، حسب تعليمات الأم.
كان هو الذي يقوم بهذه المهمة. يقاتل إخوته من أجل أن يفوز بهذه المهمة. يحب أن يقوم بهذه المهمة. يستمتع وهو يرى كيف يتحول الطحين إلى عجين.
لكن، كيف يعود إلى أمه من دون خميرة: صعب. قرر أن لا يعود إلى البيت، أن يمضي بعض الوقت في أزقة المخيم، إلى أن تنسى أمه أين أرسلته. سوف تنسى أمه بعد قليل. سوف تنساه. الأم تتفقد أولادها فقط ساعة النوم، قبل ذلك، الأم مشغولة، والأب شارد الذهن.
في بيتهم، يمكن أن يغيب الطفل ساعات، من دون أن يفطن لغيابه أحد. أمه تفطن فقط عندما يحل المساء. تعدهم. آخر شيء تفعله قبل أن تنام هو أن تعد أولادها، لتتأكد أن لا أحد مفقودًا.
ثم، وهذا ما راقه، أمه سوف تنسى أين أرسلته. سوف تنسى موضوع الخميرة. سوف يستجد في نهارها ما هو أهم من الخميرة. سوف تتدبر أمرها بالنسبة للخميرة:
"لن تعجز عن تدبير نفسها إذا اتصل الأمر بالخبز".
يعصر ذهنه ليتذكر ما حدث بعد ذلك. يحاول... يحاول: ماذا حدث بعد ذلك؟ هل هدأت أمه؟ هل عوضها أبوه بعد ذلك؟ هل أعطوا أبو العبد دينه؟ كم كان أبو العبد يريد منهم؟
المبلغ لن يزيد، في أسوأ الأحوال، عن بضعة دنانير. أقل من خمسة دنانير، ربما أكثر قليلًا. أبو العبد لا يغامر بأكثر من ذلك. أبو العبد يعرف إذا زاد المبلغ، قد يصبح الدين معدومًا. يكتب على دفتره الخاص: دين معدوم، أي لن يحصله. والأجدى له أن ينساه: صعب أن تطلب دينًا، قد يصل إلى خمسة دنانير، وأكثر قليلًا، من رجل لا يملك قرشًا في جيبه، من أم لا تملك مصروفًا تعطيه لأولادها حين يذهبون إلى المدرسة.
يعرف ذلك. لهذا يندم كل مرة أن نفسه طاوعته ووافق أن يبيع أحدهم على الدين، على الدفتر، على أرضية الدفع عندما يفرجها الله.
لكنه لا يملك إلا أن يبيع على الدين، إذا لم يفعل سوف تتكدس البضاعة في الدكان، ثم تفسد، ينخرها العفن، تخرب.
أن يكون له نقود في ذمة أحد، حتى لو كانت نقودًا معدومة، مستحيل تحصيلها، أفضل من أن لا يكون له شيء.
ثم، الدين يعطيه وجاهة في المخيم. الكل يخافه. الكل يحسب حسابه.
يتذكر أبو العبد عندما كان يذهب إلى بيت أجر، حين يموت أحد في المخيم. الكل يقف من أجل أن يجلسه مكانه. جميعهم كانت أعينهم مكسورة أمامه. أغلبهم يريد أبو العبد منهم دينًا. حتى الذين لا يستدينون منه يخافونه. يعرفون أنهم قد يحتاجونه. أبو العبد يعرف أن الجميع قد يصبحون في حاجته.
عندما "يزعل" أبو العبد من شخص ما. شخص، على رأي أبو العبد " شايف حاله"، يمر من أمام الدكان ولا يلقي السلام. يحاول أبو العبد أن يستدرجه من أجل أن يستدين. عندما يفعلها ذلك الشخص ويستدين، يصبح في قبضة أبو العبد. يلقي السلام غصبًا عنه، ويرده بأحسن منه.
كلما حاول يوسف أن يتذكر المبلغ الذي كان أبو العبد يريد منهم صبيحة يوم العيد، تبوء محاولته بالفشل.

فاطمة
عواد، لم تسعفه ثقافة، أو تعليم، يصارع وحده مراهقة تباغته، من دون أن يعرف عن كثير من مظاهرها التي راحت تبدو عليه. يمضي وقته بالتسكع في أزقة المخيم. ذات مساء، وقد حل الظلام، كان يمشي في زقاق ضيق، لا يمر منه اثنان جانب بعضهما بعضًا، سمع صوت فتاة تغني، وصوت ماء، أخذته شهوته إلى أن البنت تستحم، كادت عيناه أن تخرج من بين جفنيه، قفز عن سور ليقترب من شباك الحمام. وجد ثقبًا، راح يتلصص منه. رأته البنت صرخت. هرب، وبينما يحاول تسلق السور خلعت فردة حذائه. تركها وهرب.
خرج الأهل على صياح البنت، كان عواد قد توارى تمامًا في الزقاق، لكن فردة الحذاء موجودة. عرف الجميع أن عواد هو الذي كان يتلصص على البنت وهي تستحم.
في المخيم، يعرف الأشخاص من أحذيتهم. الحذاء بطاقة شخصية، مثله مثل بطاقة الأحوال المدنية. في الجامع، يوم الجمعة، لا يجدون مشكلة في خلع أحذيتهم أمام الباب، والعودة إليها بعد نهاية الصلاة. لم يحدث أن سرق حذاء. من يجرؤ على سرقة حذاء، سوف يكتشف أمره فور أن يلبسه ويخرج به. الكل يعرف هذا حذاء من.
الغريب في أمر الأحذية أنها ليست هوية صاحبها فقط، بل تشبهه. حذاء أبو حسن، مثلًا، مضغوط من الباطن، الرجل يعاني من تبسط في القدمين تظهر معالمه واضحة على الحذاء. حذاء أبو العلاء ملتف شمالًا، قدمه تنحرف إلى الشمال عندما يمشي. وعواد يعاني الأمرين: تبسط، والتفاف القدم نحو الشمال حين يمشي، أي أن حذاءه معروف لا يختلف عليه اثنان. ثم، وهذه ملاحظة مهمة، الحذاء يعمر عند صاحبه، لا يتم الاستغناء عنه إلا بعد أن يهترئ تمامًا، ولا يبقى فيه نبض.
كل الأدلة وضعت أمام عواد ليعترف. لكن، مستحيل أن يعترف. المسألة ليست سهلة. انتهى الأمر بعدم اعتراف عواد، رغم معرفة الجميع أن عواد هو الذي كان يتلصص على البنت وهي تستحم.
لكن الأمر لم ينته بالنسبة لفاطمة، الفتاة التي كان عواد يتلصص عليها وهي تستحم. راحت تتذكر: ما الذي حدث؟ كيف حدث ما حدث؟ كانت عارية تمامًا، تصب الماء على جسدها، فيجري الجسد خلف الماء، يحاول أن يلحقه قبل أن ينصرف. يلعبان معًا: جسدها والماء كانا يلعبان معًا، حين انتبهت إلى ظل خلف الشباك. ظنته مجرد ظل: هواء يلهو في الفناء، قطة ضلت طريقها، أو وجدت مكانًا تأخذ فيه استراحة، فوجدته على حافة الشباك.
بدا الأمر بالنسبة لها كذلك، لولا أن الظل فور أن رآها قد رأته، هرب. حينها، صرخت. تدافعت أقدام، على مسمع منها، تمشط المنطقة حول الحمام. كانت أمها تطرق الباب بقوة وتناديها. ارتدت ملابسها بسرعة خاطفة. ليس من العرف، في المخيم، أن ترى الأم ابنتها عارية.
تفقدتها الأم. كانت تتحسس جسدها بهلع، كأنها تخشى أن يكون الظل قد أخذ شيئًا منه. أوشكت الأم أن تأخذها إلى عيادة الطبيب العام لتطمئن على سلامة غشاء بكارتها.
كلهم كانوا يعرفون أن عواد هو الذي فعلها، والدليل فردة الحذاء. لكن عواد ينكر. ومثل هذه الأمور يفضل إنكارها. هذا ما كان يردده الأب للجمع الذي تجمهر أمام بيته.
ـ لا شيء، البنت تتخيل.
لكن فاطمة لم تكن تتخيل. ظنته ظلًا، وهاهم يقولون إنه عواد. من عواد؟ هي لا تعرفه. لم تر وجهه يومًا. لكن هو الذي رأى جسدها عاريًا.
تناسى الجميع ما جرى تلك الليلة، إلا فاطمة بقيت تتذكر. فاطمة تجاوزت الخامسة والعشرين بقليل، والبنت في المخيم إذا أصبحت في هذا العمر، يصبح ثمة خوف عليها، قد "تبور"، أي يفوتها قطار الزواج.
راحت فاطمة تسأل عن عواد. عرفت أين يسكن. أين يتواجد، فقررت أن تراه، لو مرورًا عابرًا من أمامه. وفعلتها. قررت أن تراه حتى لو دفعت حياتها الثمن، أو هكذا كانت تردد وهي ذاهبة إلى المكان الذي يتواجد فيه عواد.
حين مرت، حين مشت أمامه، مطرقة، مدعية أنها ذاهبة في سبيلها، تجمد الدم في عروقها، وهي تشعر أنه ينظر إليها. تسارعت دقات قلبها. تلعثمت خطواتها. كادت أن تقع على وجهها، قشعريرة غريبة سرت في كل أنحاء جسدها. كادت أن تقع مغشيًا عليها، لولا حلاوة الروح التي أنقذتها وهربت بعيدًا.
عواد رآها. خفق قلبه بشدة حين رآها. لم يطل الوقت بعد ذلك، حتى كان عواد يطلبها على سنة الله ورسوله.
لكن، كيف؟ كاد عقل الأب أن يطير من رأسه. ماذا سوف يقول الناس. سوف يشكون في حقيقة ما جرى تلك الليلة. وسوف يشطحون في خيالهم: لم يكن مجرد ظل على شباك فاطمة. الله أعلم ما الذي حدث بالضبط، وها هو عواد يحاول أن يكفر عن الذنب الذي اقترفه بطلبه يدها!
"على قطع رأسي". هذا آخر ما كان لدى والدها.
عواد وفاطمة، بعد اشتباك مع الأهل والجيران هربا معًا. الناس، في المخيم، قالت إنه خطفها. الناس، في المخيم، ما زالت حتى اليوم تتذكر قصتهما.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.