}

يوسف شاهين: بحث عن الجديد حتى الرمق الأخير

أحمد طمليه 4 أبريل 2024

في السابع والعشرين من شهر تموز/ يوليو 2008 توفى المخرج المصري يوسف شاهين عن عمر 82 عاما بعد دخوله في غيبوبة لأكثر من ستة أسابيع. وشخصت الوفاة بنزيف بالدماغ.

لعل أهم ما يميز الراحل يوسف شاهين ويجعله حالة استثنائية ليس بين أقرانه، وبين الذين عاصروه فحسب، بل على مستوى تاريخ السينما العربية عمومًا، أنه ظل يمارس التجريب في الأسلوب والمضمون والرؤية، منذ فيلمه الأول: "بابا أمين" 1950 حتى فيلمه الأخير: "هي فوضى" 2007، فخلال هـذه الفتـرة حقـق شاهيـن (41) فيلمًا. ولا أبالغ إذا قلت إن كل فيلم من هذه الأفلام شكل في حينه محاولة من شاهين لتقديم أسلوب مختلف والتعامل مع الفكرة عبر شكل مختلف.

الواقع برؤية افتراضية

غير أن هذا الاختلاف في الأساليب والرؤى لم يحد عن الرؤية العامة التي تشبث بها شاهين، التي تعد المبدأ الذي يعمل على أساسه، ومفادها أنه يصنع سينما متقنة وقابلة للإسقاط على الواقع الاجتماعي، بمعنى أن أفلامه ليست واقعية بالمعنى الحرفي للمصطلح، وليست على النقيض من ذلك أيضا، بل هي سينما قابلة للإسقاط على الواقع. ويتفنن المخرج يوسف شاهين كل مرة في كيفية إحـداث عمليـة الإسقـاط تلك.

ومما يسجل له أنه لم يسقط في ما سقطت فيه الكثير من الأفلام في السينما المصرية، خاصة خضوعها لشروط السوق، وشيوع ما سميت بأفلام المقاولات، أو الأفلام التجارية، التي تخضع لشروط شباك التذاكر على أرضية "الجمهورعايز كده"، فلم يقدّم أفلامًا جماهيرية بالمعنى الذي كان سائدًا، بل ظل قابضًا على تقديم رؤيته الخاصة حتى لو خلت قاعات العرض من شريحة الجماهير، التي هو أصلًا ليس معنيًا بمخاطبتها.

وفي هذا السياق، يطيب له أن يحكي عن التأويلات التي يثيرها فيلمه الجديد، وليس عن قصة الفيلم، فمن يستمع إلى تصريحات وآراء شاهين كلما ظهر له فيلم جديد، يلاحظ أنه يتحدث عن قضايا اجتماعية، وعن ظواهر سياسية، وعن مبادئ وأخلاق ليست واردة مباشرة في سياق الفيلم، لكن الفيلم يشي بها أو يحذر منها. ففي سيـرته الذاتيـة الممثلة بـ"إسكندرية ليه" 1979، و"إسكندرية كمان وكمان" 1990، و"إسكندرية نيويورك" 2004، وأيضًا "حدوته مصرية" 1982، لم يعكس شاهين سيرة ذاتية على النحو المألوف، بل عكس أزمة ذاتية، سرعان ما تخلصت من ذاتيتها وأخذت بعدها، ومسّت كل واحد فينا بشكل أو بآخر، مست الروح التواقة لتثبيت القدمين على أرض تهتز تحت الخطوات.

التجديد والتجريب

ولأن يوسف شاهين ظل مسكونًا بهاجس أن أية خطوة ينجزها تعني وجود الكثير من الخطوات التي تليها، فقد كرس نفسه عبر مسيرته الفنية على التجديد، بل وأحيانًا محاولة التجريب. ومن ثمّ فإن الحديث عن تجربته ورصيده يظل موضع اختلاف، فلا يمكننا أن نقول مثلًا إن فيلمه الأحدث هو فيلمه الأفضل، بل قد نجد من يقول إن يوسف شاهين أبدع في البدايات وكشف عن طاقته الاستثنائية في "باب الحديد" 1958، و"الناصر صلاح الدين" 1963، و"الأرض" 1970، ثم "العصفور" 1974، ثم "عودة الابن الضال"، 1976. وقد نجد من يقول إن أهمية يوسف شاهين كمخرج برزت في التسعينيات مع "المهاجر" 1994، و"المصير" 1997، و"الآخر" 1999. ويرى أصحاب هذا الرأي أن شاهين ارتقى في أسلوب تعبيره في هذه الأفلام على نحو باتت الصورة في كاميرته تنطق شعرًا، فقد لا يستوقفك الحدث في فيلم "سكوت ح نصوّر" مثلًا 2001، ولكن الصورة وذكاء الحوار الموجز، وحركة الكاميرا سوف تستوقفك بالتأكيد، مع ملاحظة أن التطور هنا ليس على الصعيد التقني فحسب، بل وعلى صعيد المضمون والفكرة، فقدرته على تجسيد شخصية السيدة الأرستقراطية (نبيلة عبيد) في فيلمه "الآخر" 1999، يعد بحد ذاته نجاحًا استثنائيًا، فشاهين لم يجسد شخصية سيدة أرستقراطية فحسب، بقدر ما زرع الديناميت في بنية المجتمع المصري، الذي وصل به التهافت على كل ما هو غربي إلى إلغاء خصوصية السيـدة العربية، أو بالأحرى الأم العربية، التي تحمــي ابنها بـ "رموش عينيها" كما فعلت الأم (لبلبه) في الفيلم، ولا أن تذهب بابنها إلى التهلكة كما فعلت الأم (نبيلة عبيد). وأماط، بذلك، اللثام عن "الطبقة المخملية" في المجتمع المصري التي وصل بها الفساد إلى حد العفن: زوجان لا يطيقان بعضهما البعض، يعيشان تحت سقف واحد ليحكما الخناق على ابنهما الوحيد.

إن الإصرار على التجديد في مسيرة يوسف شاهين السينمائية لم يسهم، كما أشرت، بتراكم إبداعي لديه بحيث نضمن أن ما هو أحدث من أفلامه ليس هو الأفضل، بل أسهم في تجذير التجربة، مما أبقى خيوطًا متشابكة في مجمل تجربته، أي أنك ترى في "هي فوضى" 2007، شيئًا من "عودة الابن الضال" 1976، والعكس صحيح.

في نهاية عام 1999 عاد شاهين ليقدم أفلامًا مختلفة في الشكل والمضمون ولكنها محملة كعادته بالإشارات والدلالات والتداعيات، كما تجلى ذلك بفيلم "الآخر" 1999، ثم "سكوت ح نصور" 2001، وأخيرًا "هي فوضى" 2007 


ثلاثة محاور سينمائية

غير أن الوعي الخاص بخوض تجارب جديدة، وعشق يوسف شاهين للسينما، وكثرة التحولات التي سادت بداياته، دفعت تجربته إلى التمحور في ثلاثة محاور إن صح التعبير، واكتسى كل محور خصوصية معينة، وهذا ما انعكس على الأفلام.

بهذا يمكن تقسيم أفلام يوسف شاهين إلى ثلاث مراحل حسب التدرج الزمني، تضم المرحلة الأولى أفلامه من 1950 حتى 1976، وهي على التوالـي : "بابا أمين" 1950، "ابن النيل" 1950، "المهـرج الكبيـر" 1953، "صراع في الوادي" 1954، "شيطان الصحراء" 1954، "صراع في الميناء" 1956، "ودعت حبيبي" 1956، "إنت حبيبي" 1957، "باب الحديد" 1958، "جميلة الجزائــريـة" 1958، "حب إلى الأبـد" 1959، "بين ايديــك" 1960، "نداء العشاق" 1960، "رجل في حياتي" 1960، "الناصر صلاح الدين" 1963، "بياع الخواتم" 1965، "فجر يوم جديد" 1965، "رمال من ذهب" 1966، "الأرض" 1970، "الاختيار" 1971، "سلوى" 1972، فيلم قصير، "الناس والنيل" 1972، "العصفور" 1974، "عودة الأبن الضال" 1976.

أما المرحلة الثانية لأفلام يوسف شاهين فتمثلت في "اسكندرية... ليه؟" 1979، "حدوته مصرية" 1982، "وداعًا بونابارت" 1985، "اليــوم السادس" 1986، "إسكندريــة كمان وكمان" 1990، "المهاجر" 1994، "المصير" 1997، "كلها خطوة" 1998 وهو فيلم قصير.

فيما اختط شاهين بعد ذلك خطًا جديدًا تجلى بالأفلام التالية: "الآخر" 1999، "سكوت ح نصور" 2001، "إسكندريـة نيويورك" 2004، "هي فوضى" 2007.

إن المتابع لتجربة يوسف شاهين عبر هذه الأفلام، وعبر هذا التقسيم، الذي استثني منه بعض الأفلام القصيرة، يلاحظ تجذر التجربة لديه، ففي أفلام المرحلة الأولى، حاول شاهين أن يقترب من واقع المجتمع المصري وأن يعبر عن هموم الناس، وأن يتفاعل مع نبض الشارع المصري، كما بدا واضحًا رفضه لهزيمة 1967، وهذا ما عكسه في "الأرض"، و"العصفــور"، و"عودة الابن الضال". ومع أن هذا الفيلم الأخير يحسب على مرحلة أفلام المقاومة إلا أنه بشّر ببدايات التحول الجديد لدى شاهين، من حيث الابتعاد عن الانكسار والبكائية، ومحاولة إشاعة الفرح رغم أن الظرف كان يطحن الجميع، والأفق معتم، غير أن الأمل ليس معدومًا. وهذا ما برع شاهين في تجسيده حين أظهر الجد (محمود المليجي) في فيلم "عودة الابن الضال" يدعو الحفيد (هشام سليم) لكي يبتعد، ويحاول صياغة معالم مستقبله لوحده. وحرصًا على إضفاء الجماليات نجح شاهين في توظيف وجه وصوت ماجدة الرومي على نحو تفاعل إيجابيًا مع رشاقته في رصد الصورة والخلفيات بطريقة تداخلت معه بعض مشاهد الفيلم بالفن التشكيلي.

في المرحلة الثانية من أفلام يوسف شاهين التي طغت عليها أفلام السيرة الذاتية، برز تطور شاهين وأدواته، وبدا كأنه يقدّم سينما لنفسه، غير معني بالاستماع إلى أي رأي آخر، وأكثر رغبة بتقديم ما يدور في رأسه فقط، ضاربًا بعرض الحائط آراء نقاد، وإيرادات شباك التذاكر، مؤكدًا، كما جاء على لسانه: "إذا كان علي أن أقدم أفلامًا على أرضية (الجمهور عايز كده) فالأجدى بي أن أترك الإخراج، وأمتهن أية وظيفة أخرى".

الرمق الأخير

غير أن شاهين عاد في نهاية عام 1999 ليقدم أفلامًا مختلفة في الشكل والمضمون ولكنها محملة كعادته بالإشارات والدلالات والتداعيات، كما تجلى ذلك بفيلم "الآخر" 1999، ثم "سكوت ح نصور" 2001، وأخيرًا "هي فوضى" 2007، بالتعاون مع تلميذه خالد يوسف، وكاد يوسف شاهين في هذا الفيلم الأخير أن ينقلب على نفسه، وأن يخرج من ثوب التأويل، ويرصد أحداثًا، بصرف النظر عن مدى المبالغة بها، إلا أنها على تماس مع أرض الواقع. ولا أستبعد أن يكون يوسف شاهين قد استعان بتلميذه خالد يوسف كي يستفيد من قدرته على ضبط إيقاع الفيلم في سياق واقعي إلى حد ما، ليتسنى له إدارة فيلم تدور قصته حول أمين شرطة فاسد يستعمل سلطته ونفوذه، ويحاول السيطرة على المحيطين به، ويقف في وجهه وكيل نيابة شاب يرتبط بعلاقة حب مع فتاة، وتتوالى في هذا السياق الأحداث راصدة واقع حال المجتمع المصري.

ترى، لو أسعف الموت يوسف شاهين قليلًا، فهل يمكن اعتبار فيلمه الأخير "هي فوضى" انعطافة جديدة في مسيرته الفنية، مع ملاحظة أن هذه الانعطافة ليس بالضرورة أن تكون نحو الأفضل بقدر ما هي ناجمة عن الرغبة التواقة لدى شاهين بالتجديد؟ إن الإجابة التي ترد فورًا على طرف اللسان هي: نعم، وبمجرد أن نجيب بذلك فإنما نعترف باستثنائية هذا المخرج الذي ظل يبحث عن الجديد حتى الرمق الأخير.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.