}

عندما شاهدت التلفزيون أول مرة

أحمد طمليه 24 مارس 2024
سير عندما شاهدت التلفزيون أول مرة
أجهزة التلفزيون في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين
عرفت التلفزيون أول مرة في منتصف السبعينيات. كنت، آنذاك، طفلًا لم يدخل المدرسة بعد. أتذكر أن جارنا "أبو محمد" تمكن من اقتناء أحد الأجهزة، وهو تلفزيون صغير 14 بوصة أبيض وأسود. ما أسرع أن شاع الخبر في المخيم، حتى إذا جاء المساء المبكر اكتظت دار أبو محمد بأعين الفضوليين الذين جاءوا للتعرف على هذا الجهاز الغريب. أبو محمد، من جهته، كان سعيدًا بذلك، وإمعانًا في سعادته وتباهيه، وضع الجهاز في حوش الدار، ليتسنى لأكبر عدد ممكن من الجيران مشاهدة جهازه. كنا نحن الأطفال نجلس متلاصقين على الأرض، ونتابع غبشًا على الشاشة، فيما يواصل أبو محمد طوال السهرة محاولة ضبط الصورة بمعاونة ابنه الذي كان يقف على سطح الدار (وهو سطح من ألواح الزينكو)، ويواصل تحريك خشبة ملصق عليها صحنان ألومنيوم يمتد منهما سلك متصل بجهاز التلفزيون من الخلف، فإذا ما نجحت محاولات الابن في التوجيه تتراءى أمامنا صورة تزيد من غبطتنا، حتى لو كانت الصورة محض غبش.
كانت أسرة أبو محمد تمارس حياتها بشكل طبيعي، فهم يأكلون ويتشاجرون، وأحيانًا ينامون، بمعزل عنا نحن المتراصين على أرض الحوش. أتذكر كان يوجد لديهم إبريق شاي كبير، وكان طعام عشائهم يتكون دائمًا من زيت وزعتر... يدعوننا الى العشاء إلا أننا نتمنع ونجلس في وضعيات توحي أننا في غاية الانهماك بمتابعة الغبش. وأذكر أن كثيرًا منا كان يطلب من أمه حين يعود إلى البيت أن تضع له زيتًا وزعتر.
يبدو أن فكرة الريادة استهوت أبو محمد، فما هي إلا شهور حتى أتانا باختراع جديد، ألا وهو قطعة بلاستيك شفافة يضعها على الشاشة فتعكس لونا أزرق، فيقول لنا أبو محمد أن تلفزيونه، هكذا، أصبح بالألوان.
كنا في البدايات، نبحلق بالشاشة أكثر مما نتابع شيئًا ما، فليس مهمًا ما هو معروض بقدر ما هو مهم أن نجلس أمام التلفزيون.
استمرت هذه الحال شهورًا قليلة، وإذ بحمى تسري بين سكان المخيم لاقتناء تلفزيونات مثيلة. وصار ثمة تلفزيونات أخرى في المخيم، بما في ذلك نحن، فقد أصبح في بيتنا تلفزيون، وصرنا نميز بين البحلقة وبين المتابعة، فليس كل ما يعرض يستدعي اهتمام الجميع. وإذا كنت وأقراني قد استوقفتنا الصور المتحركة، فإن الكبار كانت تستوقفتهم نشرات الأخبار التي كانت ثقيلة على من هم في سننا، لكونها تسبق بث المسلسل اليومي الذي ننتظر، إضافة إلى تجهم المذيع الدائم، ونقله أخبارًا كان واضحًا أنها تسمم بدن الآباء والأجداد.
كان التلفزيون الأردني آنذاك يعرض سبعة مسلسلات مختلفة في الأسبوع، الساعة الثامنة والنصف مساء، ففي كل مساء يعرض مسلسلًا مختلفًا، فإذا كنت من متابعي المسلسل الذي يعرض يوم الإثنين، مثلًا، فعليك أن تنتظر أسبوعًا كاملًا لتستأنف متابعة مسلسلك المفضل، ويا لها من خيبة إذا انتهت الحلقة عند موقف حاسم في إطار أحداث المسلسل، إذ تتمنى أن تمر الأيام سريعًا لتعرف ما الذي سوف يجري.
من البرامج التي كانت تنغص على المشاهدين، آنذاك، برنامج "ما يطلبه المشاهدون"، وهو برنامج يقدم منوعات غنائية بناء على طلبات الجمهور تستعرض على شكل إهداءات، أما المنغص في الموضوع فهو طول تلك الإهداءات: من فلان إلى فلان، وتواصل مقدمة البرنامج تعداد الأسماء، فيما المشاهدون ينتظرون بفارغ الصبر المباشرة في بث الأغنية، وفي أغلب الأحيان تقدم الأغنية المطلوبة مبتورة لعدم اتساع وقت البرنامج لها، وقد شكلت هذه الحالة ظاهرة كتب عنها في الجرائد آنذاك. والملاحظ أنني شخصيًا، وعلى الرغم من كثرة الأسماء التي كانت ترد، إلا أنني لم أصدف أن التقيت بأحد من أصحاب تلك الأسماء، مما أوحى لي أن الأسماء الواردة ليست حقيقية، ولا وجود لأصحابها على أرض الواقع، وأنها ترد على لسان المذيعة للإيحاء بأن البرنامج جماهيري، ويحظى بمتابعين.
إن علاقة المرء بالتلفزيون ترصد كثيرًا من معالم تبلور وعيه، وذلك من خلال رصد التطور الذي طرأ على اهتماماته، ففي البدء كان وميض الصورة، ثم الصور المتحركة، ولا أدري لماذا، في سن معين، تستهوينا الصور المتحركة، وليس الأفلام التي يمكن أن يؤديها بشر من لحم ودم، هل لأن الشخصيات الكرتونية المجسدة بالصور المتحركة تمتلك قدرات خارقة تفوق البشر؟ وإذ كان الأمر كذلك فعلينا أن نتوقف أمام هذه الظاهرة، أي ظاهرة بحث الطفل عن قوى خارقة تفوق تصوره، وكأنه قد خاب ظنه بالبشر من لحم ودم، وكيف يبدأ بالتنازل عن هذا الطموح كلما تقدم به السن، حتى إذا تفتح وعيه رضخ لمتابعة ما يمليه الأمر الواقع من معطيات متنازلًا بذلك عن القصور التي بناها في الهواء، ومضطرًا إلى الاستماع إلى المذيع المتجهم وهو ينقل أخبار تسمم البدن.
سنوات قليلة، وإذ بتحولات عاصفة تطرأ على هذا الجهاز، وذلك بدخول الفضائيات على الخط، ليبقى التلفزيون ركنًا أساسيًا من أثاث البيت، إذ يندر أن تدخل بيتًا ولا تجد التلفزيون متصدرًا غرفة الجلوس، ومستقطبًا الأنظار نحوه، سواء للمتابعة، أو لمجرد تصريف الوقت.
ومع دخول الفضائيات على شاشة التلفزيون، خدشت، إن صح التعبير، براءة العلاقة مع التلفزيون، وذلك بعد أن دخل إلى فضاء الإعلام برامج يحار المرء في تصنيفها، فهي ليست تثقيفية، أو مسلية، بقدر ما هي موجهة لمسايرة مزاج عام لدى جيل نشأ على غفلة منا، وراح يتحكم في محاولة تشكيل ذوق عام، وتشكيل رأي عام ما، ناهيكم عن شيوع قنوات لا غاية من وجودها إلا الكذب والتضليل.




برامج راحت تفرض شروطها على الجمهور، فلا الأغنية برونقها المألوف غدت مقبولة، ولا الدراما بعمقها المعهود غدت مستساغة. لهاث نحو الشهرة والمال هو الأساس، فهذا برنامج يكفل للمشارك به الفوز بالمليون إذا أجاب على سؤال بعد أن يستعين بصديق، وتقدم له كل التسهيلات التي تضع الإجابة على طرف لسانه، وغالبًا ما يتلعثم بالنطق بها. وذاك برنامج يكفل للمشاركة به الشهرة والنجومية إذا فاز على منافسيه بثقالة الدم، ولا نقول بخفتها، ومن خلال تصويت الجمهور، من دون التقيد بالمعايير الفنية والمنطقية. شروط سهلة للشهرة والثراء، ومع ذلك يتلعثمون، وإذا لم يحالفهم الحظ يخسرون، والأنكى من ذلك حال المشاهدين الذين يتحولون إلى بلهاء تسرقهم الإضاءة واللقطات السريعة المتتالية، والعري المتناثر على مد البصر، من دون أن يسمح لهم بالتقاط أنفاسهم وتقييم ما يشاهدون.
ويمكن القول إن عددًا كبيرًا من الأسر الأردنية كانت تمتلك تلفزيونًا واحدًا يتصدر عادة غرفة الجلوس، ويكون محط الأنظار في المساء، وهو وسيلة الترفيه الوحيدة لأفراد الأسرة، والمعروف أن متوسط عدد أفراد الأسرة الواحدة في المخيم كان يتراوح، في الغالب، بين أربعة إلى ثمانية أفراد، وكل فرد له ميوله واهتماماته الخاصة التي تمليها ثقافته ووعيه، فهنالك دائمًا الأطفال الذين يتلهفون على برامج الصور المتحركة، وهنالك الشباب في مقتبل العمر، الذين يميلون الى البرامج الخفيفة، وهنالك الكبار في السن والناضجون الذين يختارون البرامج الجادة.
رغبات عديدة في بيت واحد، وتحت سقف واحد، وأمام جهاز تلفزيون واحد، ومما يزيد من تزاحم تلك الرغبات وتصادمها أنه مع تعدد القنوات الفضائية لم يعد ثمة أوقات محددة للبرامج المتنوعة، فقد تجد برنامجًا جادًا يبث في المساء المبكر، وأحد برامج الصور المتحركة في المساء المتأخر، والبرامج الخفيفة على مدار الساعة، ذلك أن ثمة قنوات متخصصة كل في مجالها تقدم برامجها، فيستطيع ابن الخمس سنوات أن يشاهد برنامجه المفضل في الوقت الذي يشاء، غير أن هذا الوقت ليس له وحده، فثمة آخرون يتوقون لمشاهدة برامجهم المفضلة عبر قنواتهم الخاصة في هذا الوقت بالذات.
أزمة من نوع ما صار يخوضها أفراد الأسرة الواحدة، في البيت الواحد، وتحت سقف واحد، وأمام جهاز تلفزيون واحد، وهي أزمة كثيرًا ما يتخللها تنازلات تنجم عنها مفارقات، فقد تتنازل ربة البيت عن مشاهدة مسلسلها اليومي المفضل مقابل أن يشاهد زوجها نشرة الأخبار، وقد يلوذ الأطفال إلى الصمت إذا لم يجدوا لأنفسهم موطئ قدم إزاء التزاحم أمام الشاشة الصغيرة.
ولأن التلفزيون وسيلة لتصريف الوقت، وليس للإفادة والترفيه فقط، ولأن خيارات التسلية الأخرى معدومة، فلا مفر من جلوس الجميع في ساعات المساء أمام جهاز التلفزيون، على الرغم من تناقض الرغبات، وفي هذا السياق، وفي حمى التنازلات التي يتبادلها أفراد الأسرة، تحدث المفارقات، فقد تجد رجلًا طاعنًا في الوقار يتابع صورًا متحركة على الشاشة، والمفارقة الأكثر اثارة أن هذا الإجراء الذي يبدو للوهلة الأولى مجرد إتاحة الفرصة للأطفال لمشاهدة برنامجهم المفضل، يتحول الى ما هو أبعد من ذلك، وذلك حين يجد الرجال أنفسهم متورطين بمتابعة ما يدور على الشاشة، وهو مشهد مثير للمفارقة، رجل في كامل رصانته يتابع، رغم أنفه، محاولات سندباد وعلي بابا الهروب من قطعان الفيلة بواسطة تعليمات من الطائر ياسمينة.
وفي هذا السياق أيضًا، وعلى المنوال نفسه، قد تجد ربة البيت غير الملمة بالأحداث السياسية التي تدور حولها متورطة بمتابعة برنامج جاد يرصد آخر القراءات لحمى الانتخابات الأميركية، وذلك تماشيًا مع رغبة زوجها بمشاهدة هذا البرنامج، فتجد السيدة نفسها حائرة أمام فيض المعلومات المتداخلة والمتناقضة التي تطرح أمامها، فتروح تسأل قاصدة المعرفة ببراءة، ان لم نقل السذاجة، عن حيثيات ما يدور، وهنا تسنح الفرصة للزوج لأن يمارس هوايته المكبوتة في الاستعراض والتحليل وتقديم الآراء التي لا تمت إلى الواقع بصلة.
ومن المفارقات، حين يأتي ضيوف المساء، ولا مجال في الغالب، إلا لجلوسهم في غرفة التلفزيون، ويصدف في ذلك الحين أن تكون الفتاة اليافعة قد ثبتت على القناة التي تبث أغاني خفيفة.
تخيلوا: حوار جاد يتم على أنغام أغنية نانسي عجرم "نص نص". والأنكى من ذلك حين يكون الفتى يتابع فيلمًا أجنبيًا جريئًا، فإذا ما كان ثمة قبلة بين البطل والبطلة على الشاشة، نجد الجميع قد أشاحوا بوجوههم تجاهلًا للمشهد. اللهم عيون الأطفال التي تواصل البحلقة في شيء لم يعهدوا رؤيته من قبل.
في بيت واحد، وتحت سقف واحد، كان ثمة تلفزيون واحد، وثمة رغبات وميول مختلفة، والمعركة بين أفراد الأسرة تصل إلى حد توتر الأعصاب، فكل فرد يريد أن يفرض ميوله ورغباته، ويرغم الجميع على مشاهدة ما يرغب هو بمشاهدته، وتتراءى معالم الشد والجذب حين تدخل بيتًا فلا ترى على شاشة التلفزيون سوى مسلسلات متتالية وشخص واحد في الغالب يتابع فيما يضع البقية أيديهم على خدودهم ويلوذون الى الصمت، وقد تدخل بيتًا فلا تشاهد على شاشة التلفزيون إلا أغاني فيديو كليب فرضتها الفتاة المراهقة، وقد يحتدم شجار بين أفراد الأسرة، لسبب ما، من دون أن تتوقف الأغاني التي تدعو إلى هز الخصر.
لا أبالغ في ما أسرد، بل إنني شخصيًا كنت أبحث بنظراتي حين أدخل البيت عن صغيرتي "ريف"، خشية أن يضطرني جلوسها أمام التلفزيون لأن أتابع برنامجًا كرتونيًا، شاهدته قبل ذلك مليون مرة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.