}

المتقاعدون: نزلاء الحدائق والمقاهي

فيصل خرتش 14 يوليه 2023
يوميات المتقاعدون: نزلاء الحدائق والمقاهي
(ياسر الصافي)
المتقاعد في تعريفه: هو من قضى عند الدولة يعمل بجدّ ونشاط، أو من دونهما، مدة ثلاثين سنة، أو أكثر، فهذا لا يهم، أو من خدم الدولة موظفًا حتى بلغ الستين من العمر. عند ذلك يسرّح، ويجمعونه مع بقية المتقاعدين ويعطونهم قطعة كرتون مطبوعة مثل كرتونة الشهادة يبيّن فيها أن المدعو قد خدم الدولة، وأنّه حسن السيرة والسلوك، ثمّ يتبع ذلك تصفيق نيّء. هكذا تنتهي رحلة هذا الإنسان الذي قضى نصف عمره يخدم الدولة، وانتهت به الحال على هذا الشكل، يقلق أيامًا عدة، ثمّ يستدلّ على الأماكن التي يجلس فيها المتقاعدون، فيتسلل إليهم، وشيئًا فشيئًا يصبح واحدًا منهم.
يرتاح المتقاعد من هموم البيت ومشاكله في أماكن عديدة، منها: الحديقة العامة، ومقهى الأقصر، ومقهى الجميلية، ومقهى الشباب. وهنالك أماكن كثيرة يتواجدون فيها في المدينة، لكني سأتناول هذه الأماكن لمعرفتي الجيدة حولها، ومعرفة الناس الذين يتوافدون إليها، وأنا منهم.
قبل الحرب الأخيرة، كان المتقاعدون يتوافدون على المقهى السياحي، وهو يطلّ على شارع القوتلي (رئيس جمهورية سابق) من طرف الجنوب. كان عرّاب المقهى وليد إخلاصي، الكاتب والروائي والقاص، الذي يعمل في مؤسسة تسويق الأقطان، ويسافر كثيرًا إلى أوروبا، ثمّ يعود منها ويقصّ الحكاية تلو الحكاية، لا يكلّ ولا يملّ. هو رجل دمث الأخلاق، مرح، الابتسامة تعلو وجهه دائمًا، وعندما اعتزل الناس واعتكف في المنزل ولم يعد ينزل إلى المقهى السياحي، قرّر الأدباء والمثقفون، ومنهم جمال باروت، ونجم الدين سمان، ونذير جعفر، وفراس سوّاح (حين كان في حلب)، والفنان سعد يكن، قرّروا أن يطلّقوا السياحي، ويصعدوا إلى مقهى جحا، الذي يقع أمامه مباشرة. لم يذهبوا جميعهم، ذهب الفنان سعد يكن إلى مقهى وانيس، والبقية باتت تصعد كلّ يوم إلى الطابق الثاني، حيث مقهى جحا.
ظلّوا هكذا حتى وقوع الحرب. وبعدها، جاؤوا في أحد الأيام، ورأوا العمارة وقد زالت من الوجود، وزال معها المقهى والفندق السياحي. انفجرت في وسط الشارع سيارة ملغومة، لأنّ الفندق كان مأوى للضباط، وبات المثقفون المتقاعدون يبحثون عن مكان يأويهم عثروا عليه في مقهى الأقصر، الذي يقع في منطقة الجميلية. راحوا يداومون عليه، وبسبب الحرب والظروف التي تقضيها، تقرّر سفر جمال باروت، ونجم الدين سمان، إلى بلاد المهجر، وزاد عليهم تعرّفهم على أناس جدد كانوا يحلّون في المقهى، ثمّ يغادرون إلى أوروبا الواسعة، بعضهم في الدانمارك، وآخرون في السويد، أو هولندا، أو بلجيكا، وألمانيا، وفرنسا، كلّهم كان يغامر مع أسرته في ليلة ما فيها ضوء قمر، ليهاجر.
صارت القذائف والمتفجرات والصواريخ تتوالى عليهم، لكنهم لم يأبهوا بها، وقالوا الموت هنا أرحم من الموت في البحر، وتابعوا حياتهم وكأنّ شيئًا لم يكن. بعضهم قرّر الذهاب إلى الحديقة العامة، لا ليستمتع بجمال الطبيعة، ولكن هربًا من القذائف، والحديقة العامة هي مكان واسع بني قبل رحيل فرنسا بقليل، يأتي الناس إليها من كلّ طرف من المدينة، يستجمون ويقضون يومهم بالتنزه، أو اللعب مع أطفالهم. يلتقطون الصور بين الأشجار والأزهار، أو يجلسون على الكراسي التي بعضها مهشّم لأنّ بعض الناس اقتلعوا خشبها لإحراقه كي يتدفؤوا عليه. يجلس المتقاعدون حول البحيرات الجافة يراقبون القادمين والذاهبين، ويتناقشون في أمور الكون، بعضم عند التمثال الصغير لخليل الهنداوي، وبعضهم في الساحة الرئيسية، وآخرون عند شجرة الغار، يقطفون منها أحيانًا من أجل تتبيل طعامهم، وحدها الشجرة تبارك الله في الحديقة العامة، وتبارك المتقاعدين.
معظمهم كانوا مدرسين، وهم غالبًا ما يتذكرون أيامهم الماضية، ويقولون لك: أنا كنت لما أدخل إلى الفصل في أول العام، أبطش بأحد الطلاب (هذا قبل أن يمنعوا الضرب في المدارس)، ويكون الفصل كلّه قد تربى، وعندما يرى الطلاب أنّ العصا حامية، ينضبط الفصل حتى آخر العام. متقاعد آخر يقول: أنا، وأعوذ بالله من هذه الكلمة، كنت أدخل إلى الفصل، فأجد الطلاب مثل الألف. كنت أقول: بدي أدخل إلى الفصل ألقي الإبرة فأسمع رنتها، وخذ من هذه القصص. أحدهم يدرّس التاريخ، ولم يفتح غير الكتب المدرسية، ويفتخر بذلك.




لقد نحل جسده بعد التقاعد. يغير المكان حسب مزاجه، فيذهب إلى مقهى الجميلية للعب الشطرنج، ودائما هو الخاسر الوحيد. هناك يلتقي مع أصدقائه ويجبرهم على اللعب معه، وغالبًا ما يأتي بعض الأشخاص الآخرين الذين يلوذون بالمقهى، هم أيضًا متقاعدون، يتفرجون على هؤلاء الذين يلعبون الشطرنج.
غالبيتهم كانوا يدرسون اللغة العربية، وجلساتهم تبدأ بطه حسين، وبأنه ليس معه حقّ بأن ينكر الشعر الجاهلي، فيقول آخر: لم ينكره كلّه، وإنما بعضه. يتطرقون إلى نجيب محفوظ، وكيف بدأ بالكتابة التاريخية، ثمّ يسأل أحدهم: هل كتب السيناريو، فيرد عليه بعضهم بأنه كتب، ويردّ آخر، بأنه لم يكتب، وتدور النقاشات حول هذا الموضوع. يسأل أحدهم عن سعر البطاطا، فيجيبه أحدهم، وتبدأ المناوشة عن الأسعار والتجار الذين يحتكرون السوق. الأسعار غالية، واللحم يحلّق عاليًا، والبيض أصبح في الأحلام، وسعر كباب الدجاج ارتفع على العيد، وأسعار الضيافة أصبحت بالنار، ويعلن أحدهم بأنه لن يدخلها إلى بيته، فيؤيده الجميع، ثمّ يتحدثون عن الرواتب التي يتقاضونها، والتي لا تكفي إلا يومين في أحسن الأحوال. والحديث يجر الحديث لينتهي بأجور السرفيس التي جاؤوا بها إلى المقهى.
مثل هذه الأحاديث هي التي تجري في مقهى الشباب، ومعظم الرواد الذين يأتون إليه هم من العجزة الذين صبغوا شعرهم، أو من الصلعان، أو من ذوي الشعر الأبيض. بعضهم يقول الشعر الموزون والمقفى، وآخرون يقولون الشعر الحرّ، لا بل إنّ بعضهم اكتشف أنه يستطيع قول الشعر بعد أن تقاعد، وسمّى نفسه الغراب الأبيض، وصار يشارك في الأمسيات، وغدا نجمًا يشار إليه بالبنان. شِعره هو حصيلة تدريسه اللغة العربية، من مجموع تدريسه للقصائد التي اختمرت في عقله، وبعض الشعراء قضى نحبه، ليس على مذبح الحرية، وإنما هنا في مقهى الشباب، حيث تختمر العقول، وتبدأ بالتحليق عاليًا. والشاعر الذي فارقهم هو زاهد المالح جاء من دمشق وتزوّج في حلب، وأنجب بناتًا ولم ينجب ذكورًا، وعندما بلغ من العمر عتيًا، هاجرت زوجته مع البنات إلى دولة الإمارات، وصار يكتب الشعر العمودي والحرّ، يبث لوعته وأشواقه للذين كانوا هنا بالأمس واليوم قد رحلوا. بعد ثلاثة أيام اكتشفوا موته.بعض المتقاعدين يأتون مبكرين، قبل أن تستيقظ زوجاتهم، يجلسون في المقهى، ثمّ يفتحون شريط التسجيل، ويستمعون إلى فيروز، أو أمّ كلثوم، وينتهون بفريد الأطرش، فتجدهم يحلّقون إلى الماضي عندما كانوا شبابًا بعمر الزهور. يأتي أبو جورج، وهو شاب في الثمانين من عمره، يبدأ يومه بصباح الخير يا شباب. يجلس، ويبدأ الكلام ذاته من جديد.

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
11 فبراير 2024
يوميات
5 يناير 2024
يوميات
25 نوفمبر 2023
يوميات
6 أكتوبر 2023

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.