}

تحت شجرة المشمش

قص تحت شجرة المشمش
(مروان قصاب باشي)
رجع عصرًا من عمله في بلدية المدينة.
في الباص وقعت عيناه على ربطة خبز سياحيّ أبيض نسيها أحد الركاب في المقعد المجاور لمقعده، شعر بجوعٍ ممزوج بإرهاق خفيف يداعب بطنه، مرّر عليها أصابعه وقرَّبها منه بلطف وكأنَّها خاصته، اِبتسم ووَدَّ اِلتهامها في الحال، لكنه ومن باب التهذيب تراجع في اللحظة الأخيرة، وأجَّل إشباع حاجته إلى حين وصوله إلى البيت.

آه كم أنت جائع يا حمزة، لا للحريات السياسية الفارغة، رغم أنك تعلم أنَّ الحرية الشخصية كنز لا يفنى، بل للطعام حتى من دون حرية شخصية، تنام جائعًا، تحلم وأنت جائع، ثم تستيقظ ساغبًا لاغبًا.
لعلك لا تحلم بالطعام بالقدر ذاته الذي تحلم فيه بحميمية الجلوس إلى مائدة طعام، وبالأم، أو الزوجة، التي تهتم بك من قلبها من دون مقابل، لأنَّها تُقدِّر عاليًا أنّك تعمل صباح مساء كي تبقى العائلة على قيد الحياة، تهتم بك من دون أن تراها جالسة بجانبك، بل تسمع صوتها الدافئ قادمًا من المطبخ: شبعت يا حبيبي؟ هل ترغب بقرص بندورة، أو خِيارة؟ أأقلي لك بيضتين إضافيتين؟
أنت جائع ومنهك القوى هذا المساء كما كل مساء، جائع وتقتلك الوحدة والمائدة الفارغة، يقتلك المطبخ وهو يتثاءب من شدة الإهمال، تقتلك المرأة الغائبة بصوتها الطري وابتسامتها الشهية وفرحتها وجسدها ورائحتها، أنت جائع، تستيقظ من نومك لا لتأكل وحيدًا، بل لتجلس وحيدًا رغم الجوع، آخذًا بالكتابة عن أحلامك قبل أن تنساها.
هل كان ما عشته في لحظات تمددك واستلقائك بعد عودتك من العمل حلمًا، أم كان حقيقة واقعية؟ أم أن الواقع والكابوس لديك صنوان؟
كنت تحلم قبل قليل بأنَّك جائع وبقربك مائدة فطور شهيّ، وها أنت في اليقظة جائع وبقربك طاولة خاوية ومتسخة من بقايا طعام بائت لا مذاق له، لكنك تمتلك ربطة خبز سياحيّ، جواز سفرك الاِستثنائي لهذا المساء.
كنت تهذي بأنَّك في عجلةٍ من أمرك، وأن اِمتحانًا أكاديميًا في انتظارك، وها أنت في الحقيقة كان لديك اليوم موعد اِمتحان حزبيّ مع رفيق لم يأتِ، ظروف الامتحانين مختلفة، اِمتحان الحلم واِمتحان الواقع، وظروف الجوعين كذلك مختلفة، جوع الحلم، وجوع اليقظة، الامتحان والجوع كالضوء والعتمة، كالحاضر والماضي، كالاستيقاظ والنوم.
ما الذي دفعك يا حمزة في دهاليز الحلم كي تمسك بيدك صحنًا على هيئة شَخْتُورة وتمضي به في الصباح الباكر إلى بيت الجيران!؟ تدخل بَهوه وأنت جائع، وأنت خائف من أن ترمقك الأم القميئة صاحبة البيت والنظرات الكريهة الكارهة، وأنت تشعر في أعماقك بكرهها لك، أنت تعرف أنها لا تحبك، وأنت لا تجهل السبب، ولما ينبغي عليها فعل غير ذلك؟ وأنت لا تلومها ولا تطالبها بالمحبة، لكنك تطالبها باحترام شخصك على الأقل، تدخل إلى صحن البيت، تلمح البئر بجانب شجرة المشمش الكبيرة، ولداها الضخمان يجلسان فوق كراس خشبية بعد أن وضعا تحت مؤخرتيهما طرّاحتين مملوءتين بالقش اليابس، يجلسان وأفخاذهما متباعدة، يجلسان وهما يعانقان طاولة خشب دائرية مدهونة بالأزرق، أحدهما أسند ذراعيه على الطاولة وأخذ يأكل حبّات المشمش من جاط ألومينيوم كبير بعد أن يقسم الحبّة الواحدة إلى قسمين متناظرين، وأنت تراقبه كيف يمضغها، والآخر يحتسي شوربة العدس من مقلاة واسعة بعد أن فتّ فيها رغيف الخبز ورشّ عليها الفلفل الحارّ، وبين اللحظة والأخرى راح يطلق نيران الغضب من مؤخرته، يضحك ببلاهة بينما يداعب بطنه استعدادًا لحفلة المرحاض الصباحية.
هما يأكلان ويتبارزان بالجشع، وأنت جائع وعقلك متعب من التحضير المكثَّف للامتحان، وتريد أن تملأ شَخْتُورتك بالماء وحسب. ما الذي دفعك إلى تلك الزيارة الصباحية أيها الجائع؟ هل أردت فعلًا الحصول على الماء؟ ألم يكن لديكم في المنزل ماء؟ هل يِنبغي عليك أن تصير شاهدًا صباحيًا على ما يحدث تحت شجرة المشمش؟
يسألك أحدهما باقتضاب: ألديك اِمتحان هذا الصباح يا حمزة؟




تجيبه وأنت تخاف أن تسمع الأم صوتك: نعم.
ثم ترغب بأن تسأله كي يتطوَّر الحديث، كي تنسى سغبك لا أكثر: أموعد اِمتحانك ظهرًا؟ عليك أن تكون متيقظًا هذا اليوم، إنها فرصتك الأخيرة للبقاء في الجامعة، أظنك قد استنفذت فرص الرسوب المسموح بها، أليس كذلك؟ لكنك تتراجع في اللحظات الأخيرة، تتغير صورة السؤال في رأسك المتعب فترى نفسك تسأله راجيًا: أشعر بالجوع قليلًا، أتسمح لي بتذوق حبّة مشمش؟
بطرف سبَّابته يُكرّج حبّة في اتجاهك، تدور الحبّة في مكانها كأنَّها تأبى الوصول إليك، ينفخ عليها، تتابع تدحرجها لتصل إليك، تمسكها بحنان، تقسمها قسمين كما تراه يفعل لتدفنها في فمك شاكرًا: ما أطيب مشمشكم، لم أتذوّقه منذ سنتين.
يسألك: ألم تأكل منه في موسم السنة الماضية؟
تجيب على سؤاله: لا، لكني تذوقتها في السنة قبل الماضية في المكان نفسه، لكن أخاك من دحرج الحبّة لي لا أنت، كان يجلس يومها على كرسيك هذا.
هما يأكلان مقبلاتهما بشهية، وأنت الجائع تراقبهما، تخجل من نفسك ومنهما، تتظاهر بضرورة اِنصرافك، تسأله باحترام: هل تفضَّلت بملء الشَخْتُورة بالماء؟
يتجاهل سؤالك، ومثله فعل أخوه، لم يرغبا في سماعك، أحدهما اِنشغل بالبحث عن خرقةٍ بالية ينظّف بها فمه ويديه من آثار ماء المشمش ودبقه وجريمته، وعندما لم يجد شيئًا في متناول يده أمسك غصنًا من الشجرة وفرك فمه ويديه بأوراقها، أما الآخر فراح ينده أمه المنشغلة في المطبخ: أمي، يا أمي، هل جهزت لنا الفطور؟
جاءه صوتها الغليظ الدميم: "كل شيء جاهز يامو، فيّق أخوك".
ينهضان وينتقلان إلى مائدة دائرية مجاورة في فَيء الجهة الأخرى من شجرة المشمش، يصل الأخ الثالث وهو يتنحنح ويتأتئ: أدامك الله فوق رؤوسنا، أتعرفين أنك كعبة أمومة وحنان؟
الطاولة كبيرة يتوسَّطها إبريق الشَّاي، وكأنَّه مركز العالم والعائلة، وحوله تَوَزَّعت صحون كثيرة وكأنَّها الكواكب، صحون كبيرة ومليئة بما لَذّ وطاب، جبنة مُشَلَّلة، جبنة مالحة، مكدوس، زعتر بلدي، زُبْدَة، زيتون وعيطون، خيار وبندورة، لبنة، أغصان النعناع والبقدونس الغضّة، مربَّى الباذنجان، بصل أخضر، سوركي، مقلاة كبيرة مملوءة بالبيض المقلي، وسَلَّة مستطيلة الشكل كسرير طفل مُعبَّأة بأرغفة الخبز الطازج.
جلس الأخوة حول المائدة، المَجَرَّة المُلوَّنة، بدأوا يتناولون فطورهم وعلامات الرضى مرسومة على وجوههم الدائرية المكتنزة، وأنت الجائع ما فتئت تحدّق بهم، تراقب نهمهم وموعد الاِمتحان يقترب، وأنت الجائع تقف بجانبهم لا تريم، إلا أن أحدًا لم يعر انتباهًا لوجودك الزائد... تناسوا وجودك واقفًا قربهم، لا يدعونك للجلوس والمشاركة ولا يطالبونك بالرحيل، وأنت جائع وتراهم كيف يقتطعون لقماتهم الكبيرة من الصحون ويمضغونها من دون أن يتوقَّفوا عن الاجْترَار، لا هم جائعون ولا امتحانات تهمهم، وأنت المنهصر جوعًا تُقاطعُ انهصار لقماتهم تحت أضراسهم القوية وتزعق بأعلى صوت: يا عالم... يا ناس، هل تفضَّلتم بملء الشَخْتُورة بالماء؟ أو بالمشمش إن أحببتم؟ أنا جائع وعندي امتحان.
لا أحد يسمعك، لا أحد يفهمك، فقد طغى صوتها الفَظّ على صوتك الجائع: هل يكفيكم الطعام يا أولاد؟ هل أقلي لكم مزيدًا من البيض؟
وقبل أن يسمع حمزة إجابتهم على سؤال أمهم اِستيقظ مذعورًا، كان قد سقط في نوم عميق حالما وصل إلى البيت. كان مرهقًا وحزينًا وقلقًا، تنفَّس الصُّعداء وحمد الآلهة في سره أنَّ ما عاشه لتوّه لم يكن حقيقة، بل مجرد كابوس للإذلال حتى في النوم، أشعل سيجارة وما زالت معدته فارغة، أعد إبريق الشاي، وملأ صحن الشَخْتُورة البلاستيكي بالزيت النباتي والزعتر، وانقضّ على ربطة الخبز السياحي كما ينقضُّ العُقاب على فريسته، بينما راحت كلمات الشيخ إمام في أغنيته "صبر أيوب" تحوم حوله وتُطيّب خاطره وتهدِّئ من رَوْع الكابوس. صار يغني معه ويستعجل مرور الساعات كي يأتي موعده مع رئيس البلدية الذي سيحدّد مصيره بعد مشاركته في التوقيع على بيان لحماية حقوق العمال المياومين.

مقالات اخرى للكاتب

قص
31 مايو 2024
آراء
27 يناير 2024
قص
13 يناير 2024
قص
2 ديسمبر 2023

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.