}

حيث لا ندم ولا مأثرة... بقيت كبقية الأشياء الباقية

منذر مصري 2 يونيو 2024
يوميات حيث لا ندم ولا مأثرة... بقيت كبقية الأشياء الباقية
مدينة اللاذقية
(تفكيك عنوان ــ تفكيك حالة)

1 ــ حيث:
ذلك ما أصرح به تعريفًا بنفسي على صفحتيّ في فيسبوك، وفي تويتر! إلا أن هذا مع الأيام، بعد انقضاء كل تلك السنين، وسورية تنحدر من السيء إلى السوء، والسوريون العالقون بها ينحدرون ويسقطون معها، ما عاد دقيقًا مئة في المئة! العبارة التي كان عبد اللـه هوشة يفتتح بها كلامه كلما وجد نفسه على خلاف مع رأي أبداه أحدنا أمامه، فأقاطعه: "ولكن يا (أبو يوسف)... لا شيء على الإطلاق دقيق مئة في المئة". الجزء الصحيح، الدقيق كفاية من تصريحي، هو أني ما أزال حيث أنا، في الحفرة السعيدة، كما أسميتها، من دون أن أدرك تمامًا ما تعنيه هذه التسمية، أحاول، بكل ما لدي من مقدرة وصبر، وأمل ويأس، ووسائل وسبل، أن أستمر في البقاء... في الحياة!

***

وعلى ذكر الراحل (أبو يوسف 1940 ــ 8/ 12/ 2018)، الأمين الأول لحزب الشعب الديموقراطي السوري، كان كلما سألته: "أليس خطأ أننا بقينا؟"، يتنهد ويجيب: "وإلى أين تريدنا أن نذهب!".

2 ــ لا ندم:
ولكن، كثيرًا ما ندمت. كثيرًا ما سندت رأسي على المخدة وأنا أفكر أنه غدًا سوف أستفسر، كما يجب على أمثالي من السوريين قبل شراء تذكرة السفر أن يفعلوا، عن وضعي الأمني؟ ما إذا كانت هناك إشارة ما على اسمي في المطار، أو على الحدود؟ فقد حدث لي هذا ليس مرّة واحدة، بل مرّات! ولكن قبل هذا، يجب عليّ تجديد جواز السفر، وما أدراك ما تجديد جواز السفر! "لا ندم"؟ ولكن، كثيرًا كثيرًا ما أيقظني في منتصف الليل كابوس شديد الواقعية، ورحت أسأل نفسي: "ماذا أفعل هنا؟"، إلى متى سأستيقظ من كابوس ليلي وأجدني في كابوس نهاري أشدّ وأعتى؟

3 ــ ولا مأثرة:
ولكني أيضًا شعرت، لماذا لا؟ لماذا هذا التواضع! بمأثرة أني بقيت! بقيت رغم كل ما ذكرت! صحيح أنه لم يهدم بيتي، لم أفقد أحد أبنائي، لم تتشرد عائلتي، كما حدث لكثير من أبناء شعبي. ولكنه صحيح أيضًا أن ما مررت به، ما عبرته، لم يكن قليلًا؟ من يعلم يعلم ومن لا يعلم، ويدفعه الفضول، ليسأل من يعرفني. قالت لي (ن. س) في السهرة التي أقامها (خ. خ) احتفالًا بصدور حكم براءتي: "منذر أنت علمتنا درسًا. أنت لم تهرب!". ولكني أعرف سوريين آخرين، ليسوا قلة، تعرضوا لما تعرضت له، وربما أشد، وبقوا. لذا أكتب ما أكتبه الآن، باعتباري واحدًا منهم، لا أكثر ولا أقل من مواطن سوري؟ أم ترونها صفة لا تطابق الموصوف؟ حسنًا إذن، بني آدم سوري، يحمل هذه الأفكار، وله هذه السمات، ويدّعي هذه المواقف! نعم، حدث مرّة، وأنا أقف على صخرة بارزة عند الغروب أتملّى انعكاس ألوان السماء على وجه البحر، حدث مرّة وأنا أقود سيارتي عائدًا من جبانة ما، حدث مرّة وأنا أغني مع الأصدقاء بصوتي النشاز، حدث مرّات من دون سبب محدد، سوى شعوري بدفق الدم في جسدي وروحي، أني أطلقت صيحة نصر!

4 ــ بقيت:
[بولس: هناك سؤال لا يملّ أهل لاودكية من سؤاله لبعضهم: "هل تفضّل السباحة على الشاطئ الصخري أم الشاطئ الرملي؟"
منذريوس: الرملي. مرتين كادت الصخور أن تقتلني.
بولس: لهذا إذن لم تغادر].

***

[منذريوس: لا أستطيع أن أحيا في مكان لا تغرب فيه الشمس من البحر.
بولس: ولكن ألا يوجد مكان تغرب فيه الشمس من البحر، سوى لاودكيتك؟
منذريوس: أنت قلت!].

***

على ضوء المصباح (بعدسة منذر مصري)

أظنّه من الأفضل لي الآن، ولأسباب وجيهة جدًّا، أن أعمل بنصيحتي أنا بالذات لبوريس باسترناك في نهاية قصيدة لي عنه: "قل لهم، بقيت. وكفى".

5 ــ كبقية الأشياء الباقية:
لم أقل: "كبقية الناس"؟ ولكن نعم بقيت كبقية الناس الذين بقوا. من كانوا يستطيعون المغادرة ولم يفعلوا، ومن لم يستطيعوا سوى البقاء والاستمرار في العيش. قلت: "كبقية الأشياء". لأنه، ربما رغبت أن أتعفف عن أي ادعاء! أن أنزع عن نفسي أي فضل! لأني، كثيرًا أيضًا، ما شبهت نفسي بمكان ما في اللاذقية، في حارتي مشروع تجميل الصليبة! ليس جميلًا بالضرورة، ولكنه أحيانًا كذلك، كشارع بغداد مثلًا. الشارع الذي كلما مشيته وأنا في طريقي إلى مرسمي في حي (الأميركان)، وليس (الأمريكان) كما يصححها اللواذقة الجدد! سيرًا على قدمي، أقول في نفسي: "أمشيه على نخب أخوي رفعت! أمشيه وأخوي رفعت في داخلي، لا بل أمشيه على أني أنا أخوي رفعت، أعرف كم يحنّ إليه وكم يتمنّى لو يمشيه بجانبي الآن". وأعرف أنه عندما سيقرأ هذا سيبكي.

***

يرافقني على طول شارع بغداد، من عمود السنكلكس، مرورًا بالمشفى الوطني، ومدرسة الراهبات، حتى ما بعد كنيسة اللاتين، صفان من أشجار الصنوبر الباسقة الخضراء دائمًا، أظنها مزروعة منذ أيام فرنسا! ولكني أعرفها شجرة شجرة وتعرفني طفلًا وشابًا وكهلًا. لطالما تمنيت لو أن روحي يومًا ما ليس ببعيد، تجد مطرحًا بين غصون إحداها وتبني عشًّا لها. شرط الّا يأتي عمال الحدائق العامة ويبالغون في تقليمها، بغية بيع حطبها. آخر مرة، منذ سنوات ليست كثيرة، أو بالتحديد منذ 7 سنوات، جذوا بعضها من أواسط جذوعها، فشوهوها بدل أن يجملوها، وقتلوا أشجارًا عدة منها.

***

في ذهابي وعودتي إلى مرسمي، غالبًا ما لا أتخذ طريقًا محدّدًا، فأجدني في كل مرّة، أعبر أماكن مختلفة توزّعت عليها ذكريات طفولتي ويفاعتي وحياتي كلها. ولحسن حظي، ولكن ليس لفرحي، ذلك لأني كثيرًا ما شعرت بحزن سحيق يتغلل في أعماقي، تكاد تكون جميعها ما زالت قائمة! نعم، أنا من قال: "الأماكن لا تبارح أماكنها، لا يذهب مكان إلى مكان آخر". ولكن سكانها، أهلها، يذهبون. يغادرون بهذه الطريقة أو تلك! منهم ما يزال، يقف على شرفته ويلوح لي بيده، أو يطل من نافذته ويناديني، أو ألقاه وهو يخرج لتوه من باب بيته، فأقف معه قليلًا ونتبادل الأحاديث!

6 ــ الأصدقاء:
حتى إني أستطيع تقديم شكوى في حقهم، غادروني، أو بتعبير أقرب إلى الواقع، غدرني أقرب أصدقائي! مضوا من دون وداعي بكلمة ولا حتى بنظرة، ربما لأن ذلك كان يتطلب السرية التامة! مضوا من دون أدنى مبالاة بعاطفتي نحوهم، بحاجتي لهم، ومن دون أدنى حساب، أو تعويض، لخساراتي نتيجة تركهم لي وحدي! يومًا، انسقت لتلك العاطفة التي لا أخجل من إظهارها أمامهم، وقلت لأحدهم: "غيابك تدريب على الموت". إلّا أنه، مع كثرة المغادرين منهم، مع مبالغتهم غير المحتملة، ومع تفننهم في أنواع الغياب، كان من الصعب عليّ أن أتعامل معهم بهذا المستوى من الانفعال طوال الوقت! كان من الصعب عليّ أن أحيا وأنا أعاني كل هذا الفقدان والأسى! فكان أن استعرت من أوسكار وايلد أسلوبه في تحويل أهوال الحياة إلى أقوال مأثورة: "الأصدقاء غادروا، فليكن. الصديقات لا!". ولكن، مع مرور الوقت، مع تحدر الأوضاع، مع فقدان كل أمل، الصديقات غادرن بدورهن، فأي عزاء على الأرض بقي للفينيكس المحلق!

7 ــ شهادتان:
أفضل ما يختم به المرء مرافعته هو الإتيان بشهود إثبات. وأنا لدي شاهدان تامّا الصلاحية، جاهزان لهذه المهمة، رغم أن شهادتيهما مجروحتان بالصداقة والشعر، الأولى لـ (ف. ب) المقيم منذ أمد في برلين ــ ألمانيا، والثانية لـ (ف. س) المقيم في نيويورك الأكثر بعدًا، ومنذ زمن، لا أدري كم أكثر قدمًا. ومن سيعرف هذين الإنسانين، من الأحرف الأولى التي ذكرتها من اسميهما، سيعرف من أي نوع نادر من البشر يأتي شهودي:
(ف. ب): "يكافح منذر مصري ضد الهجرة، وهي متاحة له في أي لحظة، فكأهم شاعر سوري، لمنذر معارف في دول كثيرة. لكنه لا يريد أن يهاجر، ولا يحب أن يدعوه أحد للهجرة! أصدقه لأنه في مدينته لا يعاني فحسب، بل يستمتع قدر ما يستطيع، أو هذا ما أشعر به عندما ألمح صورة له مع صيادي السمك، أو أقرأ شيئًا جديدًا كتبه، أو تعليقًا على لوحة رسمها يوم كان جون لينون في عز شبابه! يعيش منذر في وطنه الذي اختاره، مثلما سيعيش في أي مكان في العالم، فالذي قال في مقابلة قبل أكثر من ربع قرن، إنه حزين لأنه لم يعد عرقًا أخضر، إذا كسرته خرج منه حليب أبيض، ما زال حزينًا، ولكنه ما زال عرقًا أخضر غير قابل للكسر".
30/5/2015


(ف. س): "... لننس أين ولد والداك، ولنتذكر أنك ولدت سوريًا أكثر من الجميع، ليس لأنك تؤمن بتلك الهويات التي ركّبت... لكنك انتهيت لتكون سوريًا أكثر من كثيرين، إن لم نقل الجميع. سيخجل من سيحاول أن يشكك بأنك أنت هو أنت. رجل لا يؤذي. رجل لا يفكر بإيذاء حتى أولئك الذي آذوه. رجل يصدق الجمال. يصدق تلك البساطات الآتية من الحياة الذاهبة إلى الحياة. لن أتكلم... أعني أني لا أكتب، أحكي عن ابتسامتك. شيء صعب بسيط، شيء لا يتكرر كيفما اتفق فكيف لأحد أن يحوش العالم بابتسامة وهو يدرك كمّ القسوة والألم اللذين يفيضان من كل شيء.
كان من السهل أن تكون في مكان آخر، وكان من السهولة الأصعب أن تبقى في المكان نفسه أعني بيتك، مدينتك، بلدك، قصيدتك. أختلف وسيختلف معك كثيرون وستبقى الأكثر مرونة في ضم ذلك الاختلاف، في تصديق أن ما لا يشبهك يمكنه أن يكون بعضًا منك، وأنت تمضي تركض باتجاه نفسك، على العكس من الذين يظنون أنهم يمضون نحو أنفسهم لينتهوا ظلالًا باهتة لغيرهم. منذر أنت واحد من القلة الذين كلما التقوا بأنفسهم التقوا بالجميع ليتصادقوا".
3/12/2021

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.