}

الموسيقى.. هل هي رأس الفنون؟

أسعد عرابي 12 يوليه 2020
آراء الموسيقى.. هل هي رأس الفنون؟
"ولدت الموسيقى لتعبر عن صراع الوجدان مع الموت أوالعدم"
يُقال بأنه منذ انبثقت شرارة الوجود الأولى ندّت عن حنجرة الإنسان صرخة هائلة (سابقة لفناء الذئاب والطيور). وولدت بذلك الموسيقى المعبرة عن صراع الوجدان مع الموت أو العدم، لذا يُقال بأن هذا الموروث نما في الهند (الراغا) ونُسبت إليهم سلطة النغم والإيقاع والموسيقى.
وبالعكس فإن النقش الحجري في عصر الكهوف يعلن القرار الوجودي البشري عن طريق الرسم واللون. ويُقال بأن طاوية الصين ورثت هذه الغريزة، واخترعت بالمقابل فن التّصوير.
شهدت مساحة فنون الحضارة العربية الإسلامية والإسلامية غير العربية بصمات الصراع الموروث بين تقاليد التصوير الطاوي (أي ثنوية علاقة الفراغ بالامتلاء)، وألوان موسيقى الراغا والهندوستاني. فمنذ القرن الرابع قبل الميلاد يعلن "طاو" أن الخط يُمثل بداية الخلق، علينا أن نقفز حتى القرن الخامس عشر (والسادس عشر) لنسمع بشارة معلم التصوير الإسلامي بهزاد أكمل الدين بأن اللون يُمثل بداية الخلق.
نعثر على ذروة التأثير الطاوي في عصر الجاهلية المانوي لسبب بسيط أن الداعية ماني كان مصورًا درس في الصين، ثم نشهد ثمرات تصوير المناظر الكونية الكونفوشيوسية في العصر الغزنوي الإسلامي بكامل تصاوير مخطوطاته (اللون الأحادي وصلابة جذوع الأشجار البوذية والفراغ الذي يمثل النفس أو الشهيق والزفير القدسي.. إلخ). لكن التأثير الحاسم كان أسبق من هذا التاريخ (وصول ورق الكاغد عن طريق الأسرى الصينيين 750 مـ)، (معركة تسالي) والأحبار والألوان المائية الشفافة التي تصور الضباب الذي يغلف أي لون. نعثر في مذكرة رحلات ابن بطوطة إلى أصقاع الصين ودعوات الأمراء له ما يثبت تأثير الصناعة الحاذقة "الترفانية" بألوان تأملية خرساء.  
 زرياب والموشحات الأندلسية


















ابتدأت مخالفة التصوير العربي الإسلامي للنظرة الطاوية منذ العهد العباسي مع محمود بن سعيد الواسطي، المعلم الذي اختصّ في تصوير منمنماته بمقامات الحريري في بداية القرن الثالث عشر للميلاد إلى جانب ابن جنيد. لن نجد بين رهط هؤلاء العباقرة سوى واحد منخرط في العقيدة التشكيلية الطاوية: الخطوط بألوان متقاربة ومنظور يلتقي من الأمام (بعكس منظور ألبرتي في عصر النهضة الذي يلتقي عند الأفق الخالفي) وهو الرسام محمدي. هي الخصائص الخاضعة لثنائية التنزيه والتشبيه: بأفضلية الأولى وكراهية الثانية، وهو ما يسمى بالمدرج اللوني الموسيقي الذي بلغ ذروته في الروحانية والعلاقة المتواشجة مع المقامات الموسيقية (السبع أو الثماني)، بلغت هذه الطريقة الصوفية مبلغها مع قطب الفن الإسلامي بهزاد أكمل الدين في هيرات وتلامذته فيما بعد الذين التحقوا ببلاط إمبراطور المغول في الهند المسلمة. لم يكن العبقري بهزاد متميزًا لأنه صفوي فقد نصبته الطريقة النقشبندية في آسيا الوسطى على عالم الصناعة الإسلامية قبل استلام الصفوية للحكم، وليس لأنه فارسي أو آري أو إيراني أو شيعي، فبدعة المذاهب والقوميات لم تكن فيروساتها انتشرت بعد فمنذ العصر العباسي كانت القاعدة: "لا فضل لعربي على أعجمي إلّا بالتقوى".
كان استثنائيًا لأن طوبوغرافية ألوانه تعكس عوالم فردوسية مغتبطة تقتصر على ثنائية الأبعاد، وعلى منظور عين العنقاء (أو السيمورغ) المتمركز في القبة السماوية، لذلك فالعناصر متعددة الحضور نراها من الجهات الأربع، ومتعددة مصادر النور والإضاءة.
تبتدئ السلطة الموسيقية من البعد الروحي للون وأسراره التي تجعله صائتًا وليس صامتًا (على الطريقة الطاوية). ولقد أثبت الباحث في ميدان التصوف والمختص بالحلاج، المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون، أنه اكتشف النقابات الروحية المنبعثة عن الطرق الصوفية مثل الرفاعية والقادرية والشازلية والنقشبندية المسؤولة عن تجويد الصناعات والحرف حتى أصبحت جزءًا من قدسية العبادة وفق الحديث "أحب إذا أحدكم عمل عملًا أن يتقنه".

الإنشاد الصوفي مع رسوم الواسطي 

















في قرون الإنبثاق الثقافي (التاسع والعاشر والحادي عشر للميلاد) كان كل فيلسوف موسيقيًا مثل الفارابي (وكتاب الموسيقى الكبير) وكل طبيب كان موسيقيًا مثل ابن سينا وذلك ما بين سلطة إبراهيم موصلي، موسيقي بغداد، وتلميذه زرياب، موسيقي قرطبة، بل إن أحد أكبر الأئمة مثل أبي حامد الغزالي يخصص في مؤلفه الشهير: إحياء علوم الدين، نصف الجزء الثاني، 250 صفحة، تحت عنوان: آداب السماع، (والسماعي مشتق من السماع)، وهو للإنشاد الصوفي أرقى أنواع التراث السمعي. أمّا مولانا جلال الدين الرومي، مصمم المولوية في قونيا، فكان يقول: "كثير من الطرق تقود إلى الحق أمّا أنا فقد اخترت طريق الموسيقى والرقص".




انبلج البرعم الأول في محافل الموسيقى والإنشاد الروحي (المعروف باسم "السماعي") مع قراءة القرآن وترتيله وتجويده وتلاوته، وما زالت بعض من جلساته تُستهل بالتجويد هو الأقرب إلى التقاسيم في المداخل الموسيقية، ولا ينكر تأثير ألوان الآذان (مقام حجاز) والتكبير والتسبيح، ولا سيما حلقات الذكر (إذعانًا للآية "اذكروني اذكركم").
لا يمكن التناغم مع "السماعي" دون استيعاب معاني الذكر: من الكيفيات إلى اللطائف. تُختزل شهادة التوحيد موسيقيًا بـ"اللهو اللاها اللاهي"، وهنا ندرك معنى عبارة هو في خط الثلث، وألوان من الذكر تعني رموزًا "الأصفر والأبيض والأحمر". يُوقع السماعي وفق أوزان الشعر (منظومات ابن الفارض) وربما ارتبط اسم صاحبه "قوال" بالعبارة العرفانية الشطحية "قول ما لا ينقال إلّا باللون والأنغام" (بخطأ في الصرف والنحو مقصود).

 

القصيدة السمعية البصرية
إذا خرجنا من المساحة العرفانية إلى نقيضها الحداثي عثرنا على الهاجس التواصلي نفسه، بين الكلمة والنغم، "فالأذن ترى والعين تسمع".
كان الشاعر بلند الحيدري يبشّر بالقصيدة المرئية – السمعية، التي تقتصر في تنقيطها على الوسائط البصرية مثل الفيديو دون ورق أو كتابة، ومن المعروف أن صبوته التشكيلية لونت شعره بحداثة ما يُدعى بـ"خفقة الطين" (ديوان عام 1946 مـ)، ينظر فيها إلى الموسيقى كأرضية تعانق الشعر والعمارة، يربط أبواب الشعر بأبواب البيت، بين الشطرين والمصراعين، كأن يرى أن تشكيلية الحرف تصدر عن موسيقاه. دعونا نتأمل موسيقيًا قصيدة "حلم" في أربع لقطات:

"تفترش الشاشة عينان

انفرجت شفتان - ابتسمت

التمعت عدة أسنان

ويفوز اللون الأخضر بكل الألوان"                                

 أما موسيقى الحيدري فهي:

"ساعي البريد ماذا تريد؟

أخطأت لا شك فما من جديد"

يبدو أن سياحتنا هذه لم تخرج عن صورة الدعوة إلى نظام الشورى والمساواة بين فورانات المبدعات الثلاثة: الكلمة اللون النغم طالما أن عرسها السمعي - البصري اليوم أصبح يقع تحت سقف الروحية الإبداعية نفسها.

 

كيف ينظر الأعمى ويبصر من به صمم

يقول شاعرنا الأعمى بشار بن برد:

          "يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة                والأذن تعشق قبل العين أحيانا

          قالوا: بمن لا ترى تهذي فقلت لهم               الأذن كالعين توفي القلب ما كانا"

 




من المعروف أن المعلم الفرنسي إدغار ديغا، المختص بكواليس الباليه، نحت أبرز أعماله الراقصة وهو أعمى، متلمسًا إيقاعات الرقص وحوماناته النخبوية في الفراغ مستنجدًا بحاسة ذاكرة لمسه. وأنجز بيتهوفن أبرز سيمفونياته وهي التاسعة (أو القدر)، بعد أن فقد سمعه نهائيًا، وما أبلغ مفاخرة المتنبي حين قال:

"أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي                  وأسمعت كلماتي من به صمم"

بل إن السيوطي يقارب بين صناعة الإيقاع وصناعة العروض في الشعر، معتبرًا "الأولى تقسيم الزمان بالنغم، والثانية تقسيمه بالحروف". وإذا صعدنا في هذا المعراج التوليفي درجة أعلى عثرنا على زعم الحلاج (في كتاب الطواسين صفحة 134) يقول: "من وصل إلى النظر استغنى عن الخبر ومن وصل إلى المنظور استغنى عن النظر".

بهزاد أكمل الدين والمقامات اللونية 


















يُقال عن شعر أبو نواس إنه كان متفردًا في جرسه الداخلي الذي ينمّ عن موهبة شعرية استثنائية تتجاوز موضوعاته الإباحية من غلمنة إلى معاقرة الخمر وسواها، حتى أن هارون الرشيد غالبًا ما كان يصفح عنه لرهافة حساسيته السمعية، وضبطه ذات مرة يُمسك بكأس من الخمر فسأله عما يحمل فادعى بأنه كأس لبن، فحاصره بقوله وهل هناك لبن أحمر؟ فأجابه بأن بياضه احمرت وجنتيه خجلًا من حضرة الخليفة، فسامحه على وعد بالتوقف عن الخمرة، وكان يُبرر هذه المعصية بأنها إشارة وتأكيد على سعة رحمة الرحمان. يقول في إحدى درره:

"رق الزجاج وراقت الخمر                       فتشابها وأُشكل الأمر

فكأنما لا خمر ولا قدح                             وكأنما لا قدح ولا خمر"    

يستعير هذه الصورة محي الدين ابن عربي نفسه في شرح وحدة الوجود وإمعانًا في تقديره لشعره، يتحدث عن تلون المعرفة بلون العارف كما يتلون الإناء بلون الماء.
هي سلطة الموسيقى الشعرية قدس الله سرها، ورحم شوبنهور الذي وضعها في المنزلة العليا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.