}

والشِّعر إذا أَبكى.. شهادة هيفاء أبو النادي

عماد فؤاد 8 يوليه 2020
آراء والشِّعر إذا أَبكى.. شهادة هيفاء أبو النادي
غابرييلا مسترال (1889 - 1957)

نافذة سؤالها بسيط لكن إجابته معقّدة: ما هي القصيدة التي تُبكيك، ولماذا؟ فكرة هذه الزّاوية جاءت من التّساؤل: هل ما يزال الشِّعرُ – في زماننا هذا - يُبكي أحدًا؟ تكاثرتْ كتبه وتراكمتْ قصائده جيلًا بعد جيل، لكن ما الأثر الباقي منها في النّاس؟
في كلّ حلقة سنلتقي ضيفًا ليشاركنا إجابته على السّؤالين أعلاه، والمؤكّد أنّنا سنقف في هذه الرّدود على ما آن له أن يُكتب، كما أنّها فرصة أخرى لاكتشاف الشِّعر وما عتم منه، أو قل: مداخل مغايرة لقراءة ما يُبكي ضيوفنا من الشِّعر، هذا.. إذا أَبكى.
هنا شهادة الكاتبة والمترجمة الأردنية هيفاء أبو النادي:

 

*****

 

هيفاء أبو النادي: أخطفُ من القصيدة ما يجعلني أشهقُ "يا الله"



الشِّعرُ لغةُ الخيالِ والعاطفة. إنه، بحسب وليم ووردزوورث: "التدفّق التلقائي للمشاعر القوية الفيَّاضة". يأتي في صورةِ قصيدة خالصة، على تعدُّدِ أنواعها التي لن أذكرها هُنا، وربما يزيِّنُ مبتدأ نثرٍ يفيضُ بالرُّؤى الشّعرية والشّاعرية. إنه نتاجُ دهشةٍ نُعاينها أولًا مع ذواتنا، ثم نخطُّها لنشارك غيرنا دهشتنا. الحِسُّ والذوقُ هُما ما يجعلانِ المُعاينةَ هيِّنةً على صعوبتها. الأمر برمّته يتعلّق فقط بمِران العواطف. ثمّة آصرةٌ تذوبُ بين متذوِّق الشِّعرِ وبين الشِّعر المتأجج نفسه تجعله يُربِّتُ على قلبِهِ كما لو كان كتِفًا! فالغريبُ بين أقرانه لا يقلُّ حزنُهُ عن ذاكَ المغترب في بلادٍ بعيدةٍ، أراد لها أن تحقّق له أحلامَهُ كلَّها بعد أنْ غمَّسَ في مطاراتها بكارة دهشته، على هيئة وطنٍ يحبُّ تُرابَهُ الندي وإنْ تأخر عن صلاة سقياه دهرًا!
ربما تكون العلاقة لديَّ بين الشِّعر والبكاء ملتبسة ومختلفة وعكسية. فالبكاء يأتي – في أغلب الأحيان - أولًا، ثم أجدني أبحث لاهثةً عن نصٍّ شعريٍّ يعطيني سببًا وجيهًا لبكائي! أعترف أنها حالةٌ عصية على الفهم حتى عند أعتى الأطباء النفسيين وأقدَرِهم! أضحكُ الآن في سرِّي، وتنهمرُ الدموع. وبينما أتابعُ البحثَ عن قصيدةٍ تسدُّ رمقي، وتُنسيني أسبابَ انهمار دموعي، تُراقبني وحدتي من قريب. هكذا هي علاقتي بالشِّعر! دموعي تأخذني إليه، إلى مفرداته وثيماته، إلى الدهشة التي تُرتِّبُ تدفُّقَ العاطفةِ فيه.
لطالما أحببتُ قصائدَ بعينِها لأنَّ صدى قائلِها يتردّد في ردهات عقلي وقلبي إلى ما لانهاية! فإلقاؤها يُتيحُ لي متعةَ تأمُّلِها والتبحُّرِ في أجوائها وبواطنها. فها هو سركون بولص يروي قصةً كاملةً لشعبٍ أنهكه الحريق وأضناه التعب، حين يُلقي قصيدته "آلهة الزقوم" بصوته:

"قال: لا تسألني، أرجوك.
قال: إنّهُ الدمار.
قال: جئتُ إليكَ من هناك.
قال: لا أنا. لا. لستُ أنا.
لا أنت.
لا، لستَ أنت.
هُم،
وآلهة الزَّقُّوم.
هُم، وصاحبُ الموت الواقفُ في الباب:

اللاجئونَ على الطُّرُقات
الأطفالُ في التوابيت
النساءُ يَندُبنَ في الساحات

أهْلُكَ بخير
يُسَلّمونَ عليكَ من المقابر

بغدادُ سُنبُلةٌ تشبَّثَ بها الجراد

جئتُ إليكَ من هُناك

إنّهُ الدَّمار

قالَ لي

وسارَ مُبتعدًا، واختفى

في كلِّ مكان".

يؤثر فيَّ الصوتُ المُتفاعِلُ مع السُّطور الشعريَّة، في أحايين كثيرة، سواء كان هذا صوتَ مؤلّفها أو مُلقيها أو قارئها، إلى الحدِّ الذي يجعلُني أرتعشُ لفرط جزالتِها، وعُزلةِ الإنسان فيها، ووحدانية كينونته الصارخة المتولّدة عن شقاء الهجرة، والحروب المتوالية، والظلم، وفساد الأنظمة، ومجاعات الأطفال، والموت المُبَرمَجِ في عالمٍ يعجُّ بالتقدّم، والحضارة، والتكنولوجيا، وأثرياء يتداولون الملايين فيما بينهم كما لو أنها كأس ماء! أحاولُ جاهدةً أن لا أتطفَّلَ على القصيدةِ بإلقائي حزنًا إضافيًّا على كاهلِها، لكنّني أخطفُ منها الأسبابَ الكافيةَ لتجعلَني أشهقُ بـ "يا الله"، ثمَّ أُدركُ أني لستُ وحدي في المَسرح، فلا أذرفُ الدموعَ بين كلِّ هذه الحُشودِ المُنصتة. بل أعتني بعينيَّ جيدًا قبل خروجي من البيت، بأنْ أضعَ ما يكفي من الكحلِ حتى لا تخذلاني حين أستمع إلى الشِّعر يلقيه على مسامعي كاتبه. بوسع الكحل أن يمنعني من البكاء حين أكون بين الناس. وعندما أعودُ إلى البيت، لا أعود بمفردي، بل أرجع مُحَمَّلَةً بأنهارٍ سوداء سرعان ما تتدفّق تحت مُقلَتَيَّ وعلى وجهي فور انزوائي في حجرتي، قريبةً من المرايا؛ فأقرأُ القصيدةَ ثانيةً، لكنْ في وجهي المُعلَّقِ في المرآةِ هذه المرّة.
يقول إلياس فركوح في كتابه "سهوة السماء عنّي"، الصادر عام 2020، في ما أسمّيه أنا قصيدة، ويسمّيه هو "نصًّا" أو "كتابة" عنوانه "لمعة الانطفاء":

"كلَّما مررْتُ عليَّ

أنسى.

*

لا لومَ على المرايا

تلك التي في ردهاتِ

المقاصف،

تلك المعتمة بغَبَشِ

الأنفاسِ

والدُّخانِ الصغيرِ

ودُكنةِ الأيام.

 

لا لومَ على المرايا

تلك التي،

كلَّما مررتُ عليها،

تُنسى.

وكلَّما نأيتُ عن ردهاتِها

في الدُّخانِ الصغيرِ

وغَبَشِ الأنفاسِ

أراها تشرَّخَتْ

متصدِّعَةً

بعتمةِ اسمي.

 

لا لومَ علينا

فالعجائزُ كالمرايا

كلَّما فاضتْ لمعتُهُم

انطفأوا".

 

تُبكيني قراءةُ هذه الكتابة الشّعرية لأنّها تفعلُ فيَّ مفاعيلَها. إنها لا تُنسيني شيئًا مُطلقًا، بل على النقيض من ذلك، تُصيِّرُني آلة تسجيلٍ تحفظُ كلَّ ما مررْتُ به من عمرٍ وأوجاعٍ ومسرَّات.

المتكلمُ في كتابة إلياس يرغبُ في النسيان، لكنه لا يستطيع. إذ أنَّ المرورَ على النَّفْسِ والجسدِ والرُّوح لا يمكنُ أن يُنسيَنا أخطاءنا التي اقترفناها متعمّدين، أو مُكرَهين، أو حتى راغبين! نمرُّ على أخطائنا كلّما نسينا! فنتذكّرها موقنين أنّنا ما كنَّا لنصلَ إلى ما نحن عليه الآن لولاها! تدفعني هذه الكتابةُ إلى البكاء في كلَّ مرّةٍ تقع عينايَ عليها؛ إنها تُنْجيني منِّي ومن حواسِّي. تتلقَّفُني عندما ترحلُ أمِّي، ويرحلُ رفيقي الذي حطَّ عليَّ لعنَتَهُ وغاب، وبضعة مسافرين ومسافرات في رحلة عُمري ممَّنْ تحيَّنوا الفرصَ كلَّها كي يلوكوني في غيبتي، ويقرصوني في نقطةِ ضعفي: "وحدتي"!
تُبكيني الأمومةُ غير المتحققة والحبُّ الناقص والعمقُ الخالصُ في أغلب قصائد الشاعرة التشيلية غابرييلا مسترال. وربما يكون البكاءُ واحدًا من الأسباب التي دفعتني إلى اختيارِ وترجمةِ عشرين قصيدة لهذه الشاعرة المتمكّنة في كتابٍ أطلقْتُ عليه عنوان: "من خوابي نبيذي: حالاتُ امرأةٍ في عشرين قصيدة"، الصادر عن دار أزمنة الأردنية، عام 2017. تقول مسترال في جزءٍ من قصيدة "المرأة المنبوذة":

"الآن سأعرفُ

وأعتادُ لذعةَ الحياةِ

وأنسى حُبَّكَ

ذاك الذي كان لغتي الوحيدة،

مثلَ نهرٍ ينسى

جَرَيانًهُ، قاعَهُ، وضفّتيْهِ.

 

لِمَ أتيتَني بكنوزِ حُبِّكَ

إنْ لمْ تُغلِّفْها بطَوْقِ النسيان؟

كلُّ شيءٍ مُهمَلٌ وأنا متروكةٌ

مثلَ ثوبِ حفلةٍ لنْ تُقامَ؛

أُقسِمُ إنَّ حياتي كلَّها

مُهمَلَةٌ منذُ يومِها الأوّل"!

ما يُبكيني هُنا هو أنَّ شعرَ مسترال فائضٌ بالحنّية، وممسِكٌ بتلابيبِ الأمومة، ومليءٌ بالعواطف الجياشة، وشجيٌّ، وبسيطٌ، ولاذعٌ في بساطته. وفي قصائد أخرى يظهرُ أنَّ الشاعرة لم تنجب، لكنَّ قصائدَها شاهدةٌ على أمومتِها المتحقّقة فيها؛ فقد أنجبت فيها الكثيرَ من الأطفال، ورسمتْ فيها أكوانًا تعجُّ بالخصب الروحي، والرُّؤى الخلَّاقة، والحياة بكلِّ ما فيها من حبٍّ، وقلقٍ، ولوعةٍ، وفراقٍ، وفقدٍ، ورغباتٍ معلنة وأخرى مختلسة، ومعاناةٍ، وانعزال.
ومع أني لا أميلُ إلى كتابة الشِّعر، إلّا أنني أتذوَّقُهُ بحسرةِ العارف، ومتعته. فعندما تجود به قريحةُ الشّعراء، تستعرُ أسبابُ البكاء لديَّ.

 




قصيدتان للشاعرة التشيلية غابرييلا مسترال

ترجمة: هيفاء أبو النادي

 

 

الأُخرى

 

قتلْتُ امرأةً فيَّ:

تلك التي لم أكنْ أُحبُّها.

 

كانت زهرةَ صبَّار الجبلِ

المُستعِرَة؛

كانت جدباءَ ومُتأجِّجَةً،

دون أنْ يفتُرَ جسدُها قط.

 

حجرٌ وسَماء

عند قدمَيْها، وعلى كتفَيْها،

لكنَّها لمْ تهبطْ أبدًا

لتبحثَ عن عينِ الماءِ.

 

أينما حطَّتْ رِحالَها واستراحتْ

انحنى العُشبُ

من النَّفَسِ الطَّالِعِ من فمِها،

والجمْرِ المُتَّقِدِ في وجهِها.

 

كما الصَّمْغ سريع التصلُّبِ

يتصلَّدُ حديثُها،

بهيَّةً تقفُ للأبدِ

مثلَ أسيرٍ مُحرَّرٍ.

عُشبة الجبلِ

لمْ تعرفْ كيف تنحني،

وإلى جانبِها

انحنيْتُ أنا وانحنيْتُ..

 

تركْتُها تموتُ،

نضوْتُ عنها دمَ قلبي.

ذَوَتْ كنسْرٍ

ماتَ لفرْطِ جوعِهِ.

 

شَبَّ الجَناحُ المُضطربُ خامدًا؛

هي انحنَتْ، هي قَضَتْ،

ثمَّ سقطَتْ في يدي

جذوةُ موتِها..

 

 

 

أولئك الذين لا يرقصون

 

قال طفلٌ مُقعَدٌ:

-         "كيف أرقص؟"

-         دعْ قلبَكَ يرقصُ

قلْنا.

 

ثم قال عاجزٌ:

-         "كيف أغنّي؟"

-         دعْ قلبَكَ يغنّي

قلنا.

 

ثم تكلم الشوكُ الهزيلُ الميتُ:

-         "وأنا، كيف لي أن أرقص؟"

-         دعْ قلبَكَ يطيرُ صوبَ الرِّيحِ

قلنا.

 

ثم تكلَّمَ إلهٌ في الأعالي:

-         "كيف أهبطُ من السماء؟"

-         تعالَ ارقصْ لنا هُنا في النُّورِ

قلنا.

 

كلَّ مَنْ في الوادي يرقُصُ

سويًّا في ظلِّ الشمسِ،

وقلبُهُ الذي لا يُرافقُنا

يتحولُ تُرابًا، تُرابًا.

# قصيدة "آلهة الزقوم" بصوت سركون بولص:

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.