شَكَّلُ المنهجُ، منذ المُقاربات النّقديّة القديمة، دعامةً محوريّةً في مُعالجة النصوص الأدبيّة. وسواء تعلّق الأمر بالشعر، أو النثر، فإن سؤال المنهج، أو المناهج، ظلّ حاضرًا بكلِّ ثقله، الذي يَتَعَيَّنُ بوصفه وعيًا مُضاعفًا بالقراءة والتّأويل والنقد. ومع تطوُّر النّظريات النّقديّة وترحالها الدّائم بين حقول العلوم الإنسانيّة المتعدِّدة، تطوّر الوعي بقيمة المنهج في دراسة الجوانب المختلفة للأدب والنقد على حدٍّ سواء. وغنيٌّ عن البيان أن الخطاب النّقدي العربي، كمثل الخطابات الأخرى، حَاوَلَ الاستفادة من طفرة النّظريات النقدية، نظريًّا وتطبيقيًا، على النصوص الأدبيّة، كما على المُقاربات النّقديّة. ولعلّ الدّافع الأساس إلى هذا الربط بين الحس المنهجي والممارسة النّقديّة التّأويليّة هو علاقتهما التي تنطوي على أبعاد معرفيّة وقرائيّة.
ومعلوم أن الممارسة النقدية بمفهومها الواسع والمُمَنْهَج لم تتبلور في العالم العربي إلا في بداية ثمانينيات القرن الماضي، بفعل التّوسُّع الإمبرياليّ، والكتابات التُّرجميّة، والاستشراق، و"تحت إلحاح التّشبع بالمناهج النقدية الغربية"(1)، فلا غرابة أن نجد معظم المُقاربات النقدية العربيّة ما هي، في نهاية المطاف، وعلى نحوٍ كليّ، أو جزئي، إلا مجرّد "قراءات استنساخيّة" لما يمور في الفضاء الغربي من كشوفات حول النّقد والنّظريّة، وهو انعكاسٌ طبيعي، طالما أن المناهج الغربية كانت أشد وطأةً وتأثيرًا على الممارسة النقدية العربية. ومع ذلك، لا يُمكننا تبخيس جهود نُقادنا ومقدرتهم الكبيرة في تعميق النقاش حول النّظرية النقدية ومُحاولاتهم استيعابها، ومن ثم بلورتها في النقد الأدبي، وغيره.
نستطيع القول إننا أمام أزمة إبستيميّة في تلقِّي المناهج الغربيّة، ومُحاولات استنباتها في أرضٍ نقديّةٍ عربيّة لها خصوصيّات معيّنةً ومغايرة. فالممارسة النقدية الحقة لا تتم إلا وفق منظورات في القراءة والتأويل، وغير منفصلة عن الإشكالات المعرفيّة والقرائيّة في الدرجة الأولى، حيث لا بدّ من التقاء القارئ والمقروء داخل منطقة واحدة هي القراءة، وداخل زمنٍ واحدٍ أيضًا هو زمن القراءة، لأن من شأن ذلك تنسيب الفعل القرائيّ بما يتلاءم مع طبيعة النّص المقروء، وما يطرحه من إشكالات، فـ"هذه المدلولات الثلاثة تتجاوب في دلالةٍ أساسيّة لا تفارق التّصور المعاصر للقراءة، من حيث هو تصور يبدأ بتأكيد ما يقوم به القارئ من اختيار لمعنى بعينه داخل التتابع المتضام لمساق الكلمات في النص المقروء، وينتهي بأداء القارئ لهذا المعنى المختار، بما يكشف عن خصوصيّة فهم هذا القارئ، أو كيفية إدراكه النص المقروء. وفي الوقت نفسه، فإن هذه المدلولات الثلاثة تتجاوب مع المعنى الإبداعي الذي يتضمنه التصور المعاصر للقراءة، خصوصًا حين تقترن القراءة بالاكتشاف والتعرف، وإنتاج معرفة جديدة بالمقروء"(2)، وهذه المنظورات القرائيّة لا بد لها حين تتناول الظاهرة الأدبية ومُقاربتها أن تَضَعَ استراتيجية قرائية مناسبة للنص، حيث إن لكلٍّ نصٍ كينونته الخاصة... تركيبته الخاصة، وبالتالي، اختيار المنهج الملائم لقراءته ودراسته، فالأزمة، من وجهة نظرنا، هي أزمة تقاطع، أو تنافر، بين ما هو عربي وما هو غربي، وبين ما هو نظري وما هو تطبيقي، لأن هنالك من الدراسات من تُمارس على القارئ معرفةً عالمةً، مُركّبَةً، مُتوحِّشَة ومُنفصلةً تمامًا عن وعي القارئ وإدراكه من جهةٍ، ثم، عن طبيعة النًص من جهةٍ أخرى، فالمقصود من فعل القراءة، ليس النقد والتّأويل والكشف فحسب، وإنّما التّأسيس لمعرفةٍ ثانيةٍ تتماهى مع المعرفة الأولى وتُعَضِّدُها، والإنصات الجيّد لنبض المقروء، "بعيدًا عن الإسقاطات المفاهيمية الجاهزة، والتي من شأنها خنق النص ومُحاصرته بترسانتها النّظرية"(3). من هذه الزّاوية، من الجدالات حول سؤال المنهج وفعل القراءة، اللذين يُسهمان في مُقاربة النّصوص تحت هاجس المراجعات المُستمرّة التي تعرفها العلوم الإنسانيّة، ومثل هذه المراجعات قمينة بالكشف "عن حدود التّداخل بين العلم والأدب والبحث عن تجليات أحدهما في الآخر، يُشعر الناس بأن الباحث عن مظاهر التجلي يسعى إلى إكراه عُنُقَيْ المتنافرين بلزوم ما لا يلزم، وتطويع ما لا يُطيع إلا بالانكسار. ومرد هذا التّوجُس كامن، في اعتقادنا، في التعاريف البسيطة التي تختزل الأدب والعلم في مفاهيم ترفع من درجة الاختلاف بينهما، وكامن أيضًا في المراجعات المستمرة لهذين المفهومين عند كل ممارسة نقدية، باعتبار النقد أحد المسوغات الكبرى للتجسير بينهما"(4). وعلى هذا الأساس، فإن الحديث عن فاعليّة المنهج في المُقاربات النّقديّة يمَثِّلُ اختيارًا قرائيًّا يستبطِنُ رؤى وتصوُرات مُشتركة بين القارئ والمقروء، ففاعليّة المنهج وحافزيّته لا تتحقق بمفهومها الرّصين والمعرفي، إلا في حالة التحامها مع منظور القارئ، حيث ها هنا تكمن خصوصيّات القراءة وتجلِّياتها الجماليّة والدلالية والبنائيّة. لقد راهنت نظريات التّلقي مع فولفغانغ آيزر، وغيره، على تحيين استراتيجيات القراءة وتعميقها، فلا غرو، أنّها أسهمت إلى حدٍّ كبيرٍ في توجيه القراءة، واستثمار كوامنها وأسرارها من حافّةٍ، ومن حافّةٍ أخرى، في إعادة الاعتبار إلى القارئ باعتباره "مُنتجًا آخر للنص فاعلًا فيه ومُتفاعلًا معه، عوض أن يُعدَّ مجرد مُستهلك للمظاهر الجمالية في ما يُمكن أن نسميه الانتقال من انزياح النص إلى انزياح القراءة"(5)، بل يُمكن النظر إلى أن "القارئ هو المصدر النهائي للمعنى"(6). وبناء على كلِّ هذا، فإن قراءة العمل الأدبي والنقدي تسمحُ في تجسير العلاقات بين عالم القارئ وعوالم النص، بما تنطوي عليه هذه العلاقة من تمايزات واختلافات، كون عمليّة الجمع بين وقائع أدبيّة وأفق انتظار القارئ مُحاولة جديرة بالمتابعة، شرط أن تَتَمَتّعَ بالدقة اللازمة، واختيار الوضع القرائي المناسب، وإلا سقطنا في التّعسُّف والفوضى والارتجالية، أو إعمال ما يُسميه آيزر "وضعية المواجهة". وعلى غرار كل هذه الأشياء التي أشرنا إليها آنفًا تبقى القراءة شرط وجودٍ وفعلٍ، كما أنّها تتقاطع مع "ذاتيّة" القارئ ومرجعياته النّظرية.
الهوامش:
1 ـ حسن مخافي: المفهوم والمناهج في القراءات العربية المعاصرة للتراث النقدي، أفريقيا الشرق، ط 1، 2016، ص: 87.
2 ـ جابر عصفور: قراءة التراث النقدي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط 2، 2019، ص: 16- 17.
3 ـ عبد الخالق عمراوي: الذاكرة ملاذ السرد، قراءة في ثلاثية أحلام مستغانمي، ط 1، يوليو 2017، ص: 70.
4 ـ محمد عدناني: حدود العلمية في تدوين الشعر العربي القديم ونقده، مجلة البلاغة والنقد الأدبي، العدد المزدوج 4/ 5، خريف/ شتاء 2015، ص: 81.
5 ـ عبدالرحيم أبو الصفاء: حداثة التراث: شعرية التناص وجمالية التلقي (من انزياح النص إلى انزياح القراءة)، منشورات اتحاد كتاب المغرب، ط 1، 2013، ص: 13.
6 ـ روبرت هولب: نظرية التلقي، مقدمة نقدية، ترجمة: عز الدين إسماعيل، منشورات النادي الأدبي الثقافي جدة، ط 1، 1994، ص: 254.