}

في مفهوم النّقد ومهمّة النّاقد

رشيد الخديري 21 أكتوبر 2023
ما النّقد؟
سؤال يتردّد باطّراد في عالم القراءة والأدب والمعرفة، فهو يحضر بالقدر نفسه الذي يحضر فيه الأدب. إن النقد توأم الروح للأدب، لا يتطوّر الأدب من دون نقد، ولا يستقيم نقد من دون معرفة... وهكذا، هي سيرورة في بناء الفكر في أعمق تجلّياته، فالنقد في علاقته الجدليّة مع القراءة والأدب والمعرفة يكشفُ عن أسرار الكتابة، ويربطها بحركة التاريخ ومُتغيّرات الفكر.
إن أيّ سؤال يَتَعَلَّقُ بالنّقد هو سؤال يدخل في صلب النقاش عن جدوى النقد، فوائده وتوليداته. لذا، فإن أسئلة النقد تتجدّد، تتّصل بمنظورات المعرفة من دون أن نَتَمَلَّكَ أجوبة يقينية، وتلك هي أحوال العلوم الإنسانيّة، تبقى مفاهيمها نسبيّة ومؤقتة. نتصوّر أن النقد يُوقعنا في شَركَ المؤقّت والنسبي، ويجعل من العمليّة النقدية مجرّد تمارين مفتوحة على التّحقق النّوعيّ. من هذه الزّاوية، لا مبرّر للنقد إن كان شرحًا، أو تفسيرًا، أو تأويلًا، أو قراءةً للأدب، من دون أن يلمس في العمق هذا الأدب... أن يَتنزَّلَ فيه منزلة العارف بأسرار الكتابة ومكنوناتها. يُمكننا القول ببساطة إن النقد هو دراسة للنصوص الأدبية، لكن، عن أيّ قراءة نتحدث؟ ما أفقها، وما أسسها؟ وما مرجعياتها النظرية والأيديولوجيّة؟ وغير ذلك من الأسئلة التي تتناسل عند كلّ مُقاربة نقدية.
إن هذا الإشكال المُعقّد والمُتقلّب يجعلنا نتساءل من جديد: ما النقد؟
في هذا السّياق، يؤكد الناقد المغربي محمد برادة أن النقد: "خطاب ينتج في سياق معين، ويتفاعل مع سجلات معرفية، ويستثمر الخبرة الذاتية والشعورية لينتج بدوره معرفة تتوخى تنسيب الحقيقة وفتح النص على التأويلات الممكنة"(1). هذه الرؤية للنقد تنطلق من المعرفة، وتنتهي إلى التأويل، فكلّ نص هو قابل للتأويل باعتباره مُنتجًا للمعرفة وحاملًا رؤيةً للعالم لا تقلُّ أهميّة عن المعرفة التي تُقدّمها النّصوص. إن برادة يُشدّدُ ها هنا على دور الذات كجسر يصل الأدب بالنقد، وعلى أساس هذه العلاقة الملتبسة، يَتَخَلّق التأويل بما هو أفق وهاجس وتأمّل وقراءة.
إن برادة يبني مفهومه للنقد من خلال المعرفة وذوبانها مع التّجربة الذّاتيّة، ألا يمكن أن نبنيَ معرفة خارج هذه الذات، أم على هذه المعرفة أن تغتنيَ بالذات وتوطد الصلة بها؟ قد نتفهم مسألة أن الأدب ظلّ مقترنًا بنوازع الذات وتقلّباتها وتموجاتها، إما ذاكرةً، أو تخييلًا، أو أفقًا إنسانيًّا، أو محاكاةً، للتعبير عن الكوامن والأسرار، لكن، أن يقترن النقد بالذات وهو المرتبط بالمفاهيم والعدّة النقدية والبناء المنهجيّ والنّظريّ، فذاك محلّ نقاش وجدال.
قد يكون "نقدًا" بمعنى ما، لكنّه نقدٌ مبنيٌّ على النوازع والميولات، شأنه في ذلك، شأن ما انطبع في الذّاكرة الشّعريّة العربيّة من نقد مبني على الأهواء والانطباعات الشخصيّة للناقد، فيستحسنُ قصيدةً، أو بيتًا، أو يَحُطُّ من تلك القصيدة، أو ذاك البيت تبعًا للأهواء الذاتيّة، من دون أن يُكَلّفَ نفسه عناء إبراز مواضع الحسن فيها/ فيه، أو مظاهر القبح، فلم "يكن الحكم يصدر دومًا عن نزعة علمية، أو معرفية، وإنما كان أحيانًا يبتعد كثيرًا عن الحياد لجملة من العوامل تتعلق إما باختلاف المرجعية الثقافية والفكرية لكل من الناقد أو الشاعر، أو لحسابات ذاتية لا علاقة لها بالفكر والأيديولوجيا"(2)، ووجب التشديد، هنا، على أن بدايات النقد الأدبي العربي لم تتحرّر من إسار "الانطباعات الذوقيّة"، بل ظلّ الكثير في مُحاولات رهين نقد ذاتي لا يخلو من مُجاملات لا علاقة لها بالنقد الحق وشواغله.



إن مهمة الناقد الأساسية، كما تتصوّرها الناقدة المصرية نجاة علي "هي إضاءة وكشف روح النص، وطرح ما يخفيه من التباسات مسكوت عنها، وبراعة الناقد المحترف تتجلى في قدرته على كشف ما قد لا يظهر للقارئ غير المدرب عند القراءة الأولى للنص الإبداعي"(3). من هذه الزاوية، يصير النقد وعيًا وممارسةً وإبداعًا يَتَخَلَّقُ فوق أنقاض إبداع آخر، لنقلْ إنه كتابة فوق الأنقاض بالمفهوم الهايدغريّ، حيث النقد يَتَنَزّلُ منزلة الأدب، بعيدًا عن "السلطة الأبويّة" التي تمنح الناقد "حق التوجيه، وتجعل من النقاد أوصياء على الإبداع، مما يؤدي في النهاية إلى تقييد حرية الأدب"(4)، وربما لقرون طويلة، ظلّ النقد يلعب دور الرّقيب على الأدب، بدل أن يصير هو الآخر إبداعًا ثانيًا.
ولعلّ ما نلاحظه بصدد المحاولات التي سعت إلى تقديم تعريفات للنقد، أنها لم تخرج عن إطار "قراءة النصوص الأدبية" باعتباره إبداعًا سابقًا للنقد، فهذه العلاقة التراتبية هي التي تَتَحَكمُ في سيرورة الإبداع أدبًا كان أم نقدًا. إن الأدب يعيش ديناميّة كبيرة، وعلى النقد أن يبذل جهودًا مضاعفة من أجل مواكبة هذه السيرورة الأدبية تقصيًّا وبحثًا وسبرًا، لأن ذلك سيلقي مزيدًا من الضوء على سؤال الإبداع، وسيسهم في إعادة تشكيله وقراءته وإخراجه من المجهول إلى المعلوم، ومن الوجود إلى العدم. ومن المهم في الممارسة النّقديّة أن نَتَعَمّقَ أكثر في النص، أن نستجلي أسراره، ونكشف عن دلالاته الكامنة في المعاني، بُغية الإضافة والمحاصرة المعرفية والإدراكية لسيرورة المعرفة واستثمارها في مقاربة النصوص وقراءتها، فـ"النقد إن لم يكن علمًا، فهو ضرب من المعرفة، أو التحصيل"(5)، وهو ما تمّ التّشديد عليه في كتابي: "المعرفة من منظور نقدي"، من حيث التّجاور القائم بين النقد والمعرفة، في مسعى لـ"ترسيخ ثقافة السؤال والحوار مع تيارات النقد في مختلف تجلياتها وصيروراتها: إن تطور المادة النقدية رهين بطرح الأسئلة وسجال وموقف ووعي. نعم، إنه وعي بقيمة المنجزات الإنسانية وتحققها، بعيدًا عن الأجوبة الجاهزة ومنطق الدوكسا"(6). ولعلّ سؤال: ما النقد؟ سؤال قديم، تناولته مُدونات النقد العربي، لكنّه يبرز اليوم، لا سؤالًا يتعلّق بالممارسة النقدية فحسب، وإنما في علاقته بالمعرفة، أو ما يُمكن تسميته بـ"المعرفة النقدية"، لأن التّخوم الإبستيمية ها هنا، تتداعى، تنهار في أثناء الدراسة والتّحليل، وعليه، "فالنقد كممارسة فكرية يتصل بجملة أمور تشكل حدودًا يتقاطع معها، فمثلًا الحديث عن النقد من دون الحديث عن موضوعه، سيكون حديثًا ناقصًا إن لم نقل عديم الجدوى، كما أن النقد يقف إلى جانب مفاهيم كثيرة لا تفصل بينه وبينها سوى حدود تكون شفافة وعلى رأس ذلك القراءة"(7).



وعليه، فإن الأسئلة التي يتم صوغها حول النقد، هي أسئلة واقعة في صميم المعرفة، وفي علاقته بالأدب على وجه الخصوص، ووجبت الإشارة في هذا السياق إلى أن ممارسة النقد عمليّة مركبّة ومعقّدة، فلا يكفي أن نَمْتلكَ المفاهيم والكفايات الإجرائية فحسب، وإنما على الناقد أن يكونَ قريبًا من النّص مُتذَوّقًا وقارئًا وناقدًا، فـ"الوقوف على أسرار هذا النص مهمة تستدعي في المتلقي خبرة فنية ومعرفة واسعة بأسرار الجمال"(7)، وهذا ما تنبّه إليه الناقد العربي القديم عبد القاهر الجرجاني حين قال: "إن النص لا يكشف أسراره ما لم يتهيأ له متلق كالغوّاص الماهر"(8)، ومن ثم، فإن الناقد مُطالب بالتّفاعل مع كينونة النّص والنفاذ إلى جوهره، وعدم الاكتفاء بـ(قراءة سطحية) تجزيئية، لأن النّص يظلُّ دائمًا وأبدًا مُجَلَّلًا بدكنة الباطن والغموض والمجهول والمعلوم، وعليه، فإن الأفق النقدي المُشتهى لا يتم إلا عن طريق الاستجابة للنداءات المحتملة لباطن النصوص لا ظاهرها المرئي المُتاح للجميع.

هوامش:
(1) محمد برادة: محمد مندور وتنظير النقد العربي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط 3، ص: 8.
(2) عبد الحكيم الشندودي: نقد النقد، حدود المعرفة النقدية، أفريقيا الشرق، ط 1، 2016، ص: 12.
(3) نجاة علي: حول أفول سلطة النقد الأدبي وأوهام "البيست سيلر"، موقع ضفة ثالثة، الجمعة 14 أكتوبر 2022.
(4) نجاة علي: المرجع السابق.
(5) رينيه ويليك/ أوستن وارين: نظرية الأدب، ترجمة: محيي الدين صبحي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط 3، 1985، ص: 13.
(6) رشيد الخديري: المعرفة من منظور نقدي، منشورات دائرة الشارقة، ط 1، 2022، ص:12.
(7) عبد الحكيم الشندودي: نقد النقد، حدود المعرفة النقدية، مرجع سابق، ص: 40.
(8) الموسى خليل: آليات القراءة في الشعر العربي المعاصر، الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، ط 1، 2010، ص: 145.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.