}

سياحة البطن وسياحة العقل

عارف حمزة عارف حمزة 17 أكتوبر 2023
آراء سياحة البطن وسياحة العقل
جزء من عمل للتشكيلية اللبنانية هوغيت كالان (1931-2019)

هناك اختلافات بالتأكيد بين الناس في أكثر الأمور، ومنها مفهومهم للسياحة ورغباتهم في "الترويح عن النفس" كما يُقال. ولكننا عادة، نحن سكان المنطقة العربية، نفكر في الذهاب إلى البحر، والتمتع بالسباحة والتشمّس، وخلال البحث نبحث عن أسعار الفنادق، ونظام الوجبات الذي تقدمه، إذا ما كانت وجبة إفطار فقط، أم وجبتي الإفطار والعشاء، ووجود أماكن للعب الأطفال، ووجود مطاعم عربية أو مطاعم تقدم الأكل الحلال، إذا ما كانت الرحلة إلى خارج البلدان العربية، وأسعار الرحلات الجوية، إلى آخر مستلزمات نجاح الاستجمام المنشود.

هناك تفاصيل واختلافات لم ننتبه إليها بسبب عدم اغترابنا إلى خارج بلداننا، والتعرف على أنماط عيش وثقافات مختلفة. فهنا في ألمانيا تعرفت إلى أنماط تشبه نمط مفهومنا، وأنماط تختلف عنها جذريًا.

كتب

فمن خلال عملي في مكتبة تبيع الكتب فقط، من كتب أدبية وثقافية وسياسية وتاريخية لمختلف الأعمار، ولا تبيع القرطاسية والمواد الأخرى التي تُعرف بها المكتبات عادة، تعرفت إلى زبائن يوصون على عدد من الكتب والروايات قبل مجيء موعد عطلتهم من العمل وسياحتهم. هناك سيدة تأخذ معها خمس روايات من أجل عطلتها التي تمتد لأسبوعين. وعندما سـألتها إذا كانت ستقرأ هذه الروايات الخمس خلال عطلتها، قالت لي بأن هناك ثلاث روايات لها، والأخريتان لزوجها، وفيما بعد سيتبادلان الروايات.

لأن النسبة العالية من الألمان تعمل، فهي تخصص وقتها العائلي لعطلة نهاية الأسبوع، وهي غير كافية بكل الأحوال، ولذلك نجد أن الكثير من زبائن المكتبة يأخذون معهم في عطلاتهم، روايات لهم، أو كتبًا، وكذلك لأطفالهم، لأنهم يجدون أن وقت العطلة والسياحة هو وقت مشترك للعائلة كلها، ففي العطلة والسياحة يجدون أن قراءة قصة لطفلهم من كتاب هي تعويض لنقص تلك العلاقة خلال أيام الأسبوع التي يقضونها في العمل.

مديرتي في العمل تأخذ معها الكتب إلى عطلتها من أجل أن تقرر أيًّا منها جدير بطلب نسخ عديدة منها من دار النشر، وعرضها في مكتبتنا، ونصح القرّاء بها. أي أن العطلة، بالنسبة لها، هي فرصة للقراءة والهدوء وسماع الموسيقى. في عطلتها الأخيرة ذهبت مع زوجها إلى منغوليا. ليس إلى العاصمة أولان باتور، أو أحد مدنها الكبيرة؛ بل إلى الريف المنغولي، والعيش في خيمة سياحية، ومراقبة صفاء السماء في الليل، على ضوء إنارة بدائية، من دون إنترنت، ومشاهدة الرعاة في الصباح الباكر وهم يأخذون قطيعهم.

كانت تقرأ وتقرأ، وتصوّر تلك المناطق البكر من الطبيعة الأم، لتأتي وتتحدث لنا عن الموسيقى الشخصية لكل عنصر كان من حولها، وعن الهواء النقيّ، والطعام النقيّ، والقراءة النقيّة. من أجل ذلك دفعت 3 آلاف يورو لقضاء أسبوعين فقط.

إنها تبحث مع زوجها عن مثل تلك المناطق لتعيش عطلتها بعيدًا عن الصخب والضجيج والتلوّث. ولكن ربما يعود سبب مثل هذه الخيارات إلى أنهما، هي وزوجها، ليس لديهما أطفال، وإلا كانت الأمور تغيرت بالفعل، فالطفل لن يحتمل هذا "النقاء الممل"، ولن يذهب لعطلة تمتد لأسبوعين دون لعب أو سباحة أو مطاعم لوجبات سريعة أو حتى إنترنت.

لذلك تختلف عطلات المتقدمين في السن، الذين لا أطفال عندهم، أو ما عاد عندهم أطفال، عن الرحلات العائلية التي تبحث عن أكثر الإمكانيات لإسعاد أطفالهم، لكي يتذكر أولئك الأطفال تلك الأوقات التي اخترعها الأبوان، ويسردونها على الآخرين.

صاحب البيت الذي كنتُ مستأجرًا عنده، وهو ألماني أيضًا، وأصبح متقاعدًا، كان يبحث عن رحلات إلى تركيا واليونان ومصر وتونس وإسبانيا. يحب مناطق تاك الدول ولا يملّ من زيارتها عامًا بعد عام. ويحب مبدأ تعدد الوجبات، ونظام البوفيه المفتوح سواء للطعام أو المشروبات الكحوليّة.

مرة حجز رحلة لمدة أسبوع إلى اليونان، مع البوفيه المفتوح. وكلفه الأمر دفع 550 يورو فقط، تشمل تذاكر السفر. يبدو الأمر كأنها رحلة مجانية، خاصة مع اشتمالها على نفقات السفر. في اليوم الثالث قالوا له بأنهم سيطردونه من الفندق!!

الطرد من الفندق لم يتعلق بإزعاج الآخرين، أو بخرق الأنظمة أو ارتكاب مشاجرات ناجمة عن السكر، بل لأنه كان يشرب المشروبات الكحولية بكميات كبيرة.

اعترف لي بأنهم لديهم حق في طرده. ولو كان هو صاحب الفندق لطرد شخصًا يتصرف مثله. كان كلاوس يفطر من الساعة السابعة صباحًا حتى العاشرة. كان يفطر لمدة ثلاث ساعات! ثم يذهب إلى طاولته بجانب حمام السباحة ويبدأ بشرب البيرة. ويذهب إلى غرفته للنوم ساعتين. ثم ينزل ويتعشى من الساعة السادسة مساء حتى العاشرة مساء. ثم يذهب إلى البار ويشرب الويسكي حتى يأخذوه نائمًا إلى غرفته.

كنتُ أشرب في اليوم الواحد ما قيمته 500 يورو، هكذا كان يقول لي ويضحك.

نحن أيضًا، كسكان المناطق العربية، نحب بطوننا والموائد المفتوحة، ولكن ليس لدرجة قتل النفس، أو النقل للمشفى لغسيل المعدة بسبب التخبيص في الأكل، رغم وجود أشخاص انتحاريين، في الطعام والشرب، بيننا بلا شك.

عطلة الأم والأولاد

هي سُميت عطلة وسياحة، عطلة للأم من الطبخ والجلي والغسيل، وللأب الذي يساعد زوجته في هذه الأعمال المنزلية، وعطلة للأب والأم من أعباء العمل، وعطلة للأولاد من الواجبات المدرسية. وسياحة لاكتشاف مناطق وثقافة ووجبات جديدة. ولكنها، قبل كل شيء، هي لتدعيم العلاقات العائلية التي يضربها روتين العمل والمال والتفكير بالمستقبل. هي عيش اليوميّ من خلال عيش شخصية الأب والأم، والزوج والزوجة، مع أبناء يعيشون حرمان دفء العائلة. هي العطلة من الشخصيّة التي تعيش خارج البيت. لذلك يشعر الطفل بأنه استعاد توازنه خلال أسبوع واحد لعلاقة كاد يفقدها، وربما فقدها، بسبب الواجبات والعمل وضغط المستقبل، سواء كانت العطلة سياحة للبطن أو سياحة للعقل.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.