}

تكميم الأفواه ونشر الرعب "ديمقراطيًا"

عارف حمزة عارف حمزة 28 نوفمبر 2023
تغطيات تكميم الأفواه ونشر الرعب "ديمقراطيًا"
(تظاهرة في برلين تضامنًا مع فلسطين، 18/11/2023، gettyimages)

مفارقات كثيرة ومواقف متناقضة وأسئلة كثيرة برزت منذ ما جرى في يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وما جرى ويجري بعد ذلك التاريخ. وصارت الناس تنظر إلى هذا التاريخ كما كانت تنظر إلى تاريخ الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، وخلال وقت قريب ستقول: ما قبل السابع من أكتوبر، وما بعد السابع من أكتوبر. وبسبب وجودنا في أوروبا تابعنا أشياء غريبة، ربما ليست غريبة سوى علينا، تحدث في الدول التي تعيش أنظمة ديمقراطيّة، رسّخت مبادئ تلك الديمقراطية بعد أهوال الحروب الدموية والعنصريّة في أوروبا.

في يوم السابع من أكتوبر غيّر الكثير من أصدقائي من الكتاب الألمان، أو الكتاب الأجانب المقيمين في ألمانيا، صور بروفايلاتهم، ووضعوا العلم الإسرائيلي. يُمكن فهم ردة الفعل هذه كردّ على ما قامت به حماس في ذلك اليوم. وربما كذلك بسبب انتشار فيديو سرّي، وزّعته الاستخبارات الإسرائيلية، ونوّهت له الصحف الألمانية مرارًا، ومدته 45 دقيقة، على أنه أخذ من كاميرات المراقبة من داخل غلاف غزة، وحتى عودة مقاتلي حماس والجهاد إلى داخل سياج الفصل العنصري. ذلك الفيديو، كُتب عنه ولم نشاهده، يصوّر "الأشياء الشنيعة، الوحشيّة، البربريّة، للمقاتلين الإرهابيين ضد مدنيين محتفلين أو نائمين في بيوتهم"، على حد تعبير إحدى الصحف.

قيود وشائعات

يُمكن تفهم رفع تلك الأعلام على بروفايلاتهم في مواقع التواصل الاحتماعي، كرد فعل عاطفي أو حتى غاضب. ولكن الاستبسال في إبقاء تلك الأعلام، رغم رد الفعل الوحشي من إسرائيل، الذي ما زالوا يُطلقون عليه مصطلح الدفاع عن النفس، يجعلنا نفكّر في مدى فهم أولئك المثقفين لحقوق الإنسان، وحتى فهمهم لمسألة الدفاع عن النفس قانونيًا.

بعد السابع من أكتوبر انتشرت شائعات بين الجاليات العربية والمسلمة المقيمة في ألمانيا، بأن كل من يتظاهر تضامنًا مع الفلسطينين، وليس فقط ضد إسرائيل، سيتلقى غرامة حدها الأدنى 500 يورو. ثم انتشرت شائعات تهدد أبناء تلك الجالية الكبيرة بسحب الإقامات، وحتى إلغاء قرار منح الجنسية عمّن تلقاها ولو منذ سنوات، والطرد، مع عائلاتهم، إلى خارج ألمانيا.

بقي هذا المنع الحديدي ضد التضامن مع المحاصرين في غزة متصاعدًا وساريًا حتى الآن، ناشرًا موجات متزايدة من الإشاعات. ولكن الطرف الآخر، المؤيد لإسرائيل، أو لنقل المتعاطف مع ضحاياها في ذلك اليوم، لم تطاوله هذه القيود، ولا الإشاعات، بل صار أولئك الكتاب والمثقفون ينشرون على صفحاتهم الشخصية دعوات التظاهر تضامنًا مع إسرائيل في مختلف المدن الألمانية، سواء في الشمال أو الجنوب.

وكما حصل مع أوكرانيا، رفع العديد من الأحزاب الألمانية العلم الإسرائيلي على مقراتهم، ونشراتهم، وكذلك في دعواتهم للتظاهر "ضد وحشية الإرهابيين"، وذلك تحت شعار "ليس مجددًا" في ترميز إلى عدم الرغبة مجددًا في العودة إلى زمن العنصرية وكراهية اليهود، ومعاداة السامية التي ألصقت العار بألمانيا منذ ثلاثينيات القرن الماضي ولحد الآن، ويبدو أن ذلك العار سيبقى مرافقًا الأجيال الجديدة عنوة.

الدعوة إلى الحرب

وجدت الأحزاب الألمانية حلًا لهذا الانسياق؛ بأنه وقفة مع الظلم ضد الظالم، ووقفة مع الضعيف المسالم ضد الوحشي، على غرار ما حدث في أوكرانيا، رغم أن روسيا كدولة، لا يمكن مقارنتها بحركتي حماس والجهاد الإسلامي من خلال كل الأوجه. ولكن الأحزاب الألمانية، التي أيدت إسرائيل بقوة وعنف، ارتاحت تحت هذا السقف الواهن.

لم يتوقف الأمر عند سهولة الحصول على ترخيص للمظاهرات المؤيدة لإسرائيل، واستحالة الحصول عليها من المتضامنين مع المحاصرين في غزة، بل وصل الأمر لدعوة أعضاء من حزب مثل حزب الخضر، القائم أصلًا على أفكار السلام ونبذ العنف والمحافظة على البيئة والتخلص من الأسلحة النووية والذرية، إلى ضرورة القتال إلى جانب إسرائيل إذا دعت الضرورة!!.

قد يقول أحدنا بأنها شجاعة من فيليب ساندز ضمن هذه الأجواء المرعبة المصنوعة بقوة من السياسيين والأحزاب، ولكنها جعلت الحضور ينظرون إلى بعضهم البعض، ويهزون رؤوسهم، وكأنهم يهتمون بظهور أحد ما، أخيرًا، بهذه الشجاعة (gettyimages)


الخوف المتزايد

لا أحد يرغب في نقاش ما جرى بعد السابع من أكتوبر من قبل إسرائيل بحق المدنيين الفلسطينيين. بل ربما لا يريد أحد أن يراه لكي يتناقش فيه، وكأن الأمر بدأ وانتهى في السابع من أكتوبر، وإذا حدث شيء بعد ذلك فهو صفارات الإنذار التي تطلق في تل أبيب أو عسقلان وغيرها، وتصوير هلع المدنيين في الهرب إلى الملاجئ.

ليس لا أحد يرغب في النقاش حول ذلك، بل الخوف من النقاش حول ذلك. الخوف من الآخر، الذي قد يكتب تقارير به، كما في الدول الديكتاتورية ذات الحزب الواحد المستمر، أو كما حصل في ألمانيا الشرقية نفسها، عندما كان المواطنون يتطوّعون لكتابة تقارير للأمن والاستخبارات، حتى في حق أبنائهم أو زوجاتهم، ناهيك عن الجيران والغرباء.

عندما يتصل بي أحد الأصدقاء من الكتاب الألمان يتهرب من الخوض في هذا الموضوع، في قول الرأي عن العقاب الجماعي لأهل غزة، عن مقتل آلاف الأطفال والنساء والمرضى. عن الحصار الحديدي ومنع الماء والكهرباء والغذاء والأدوية من الوصول إلى بشر تحت القصف. يخاف من الخوض في ذلك. بل ربما يُحاول أن ينصحني بتجنب المجاهرة بالتضامن، خوفًا عليّ، وحرصًا على عائلتي، واتقاء شرّ مَن يمكن لهم مراقبة الاتصالات الهاتفية، كما حدث مع انتشار إشاعة يوم 18 أكتوبر بإرسال رسائل من الأصدقاء، بأنه بدءًا من يوم الغد، 19 أكتوبر، سيكون كل شيء مراقبًا، ويوحون بأنه قرار من وزارة الداخلية الألمانية، والرسالة مكتوبة باللغتين العربية والألمانية لكي يتم رشّ توابل الحقيقة على صحن هذه الإشاعة. بدءًا من يوم الغد، قالت الشائعة، ستكون المكالمات مسجلة، بمعنى أنها سيُأخذ بها كدليل، ومحادثات الواتس أب وتويتر وماسنجر وجميع التطبيقات المرتبطة بمواقع التواصل الاجتماعي، ستكون مسجلة ومحفوظة.


الشك المتزايد

ولكن مع استمرار رد الفعل الوحشي، والتجرؤ، أخيرًا، على متابعة قنوات تنقل وقائع المجازر اليوميّة، بدأ الخوف يضعف بشكل ما. ولكن من يتجرّأ من المثقفين والكتاب والمبدعين والصحافيين والحزبيين الذين وضعوا علم إسرائيل على بروفايلاتهم، أن يُغيّره أو يزيله؟ من يتجرأ من هؤلاء أن يفعل ذلك؟ سيخاف من أن يبدو الأمر وكأنه قد تخلّى عن تأييد "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، وتبرير مجازرها، وصار ليس في الطرف النقيض، بل حتى في الطرف الذي يصمت عند "تصاعد الكراهية ومعاداة السامية"، وهذا مما يعني تعريضه لتهمة صارت فضفاضة وجاهزة في الدول الديمقراطيّة في أوروبا.

ربما ينتظرون أن يكسر أحد ما، شجاع، هذا الانحياز الصارخ، وأن يُعرّي الساسة وألاعيبهم، لكي يتجرأوا على قول رأيهم الحقيقي، حتى ولو كان ضد الفلسطينيين وما يجري في غزة، ولكن المبني على رؤيتهم وأفكارهم الخاصة. وربما لن يكسر ذلك الجليد سوى الكتاب أو المثقفون اليهود أنفسم، كما جرى قبل أيام في مدينة كريمس النمساوية. فخلال حفل تسليم  جائزة اتحاد الناشرين النمساويين، في ختام مهرجان أيام الأدب الأوروبي، من 16 – 19 نوفمبر 2023، للكاتب والمحامي الدولي البريطاني فيليب ساندز، سألته المُحاورة روزي جولدسميث عن رؤيته للوضع الحالي في غزة، ملمّحة إلى ما جرى يوم السابع من أكتوبر، وما يجري لحد الآن، وهو سؤال فاجأ الحضور الكبير، خاصة ضمن حالة تكميم الأفواه في وجه انتقاد إسرائيل في الدول الناطقة بالألمانية (وهي ألمانيا وسويسرا والنمسا ولوكسمبورغ وليختنشتاين وبلجيكا)، ولكنه كان سؤالًا مهمًا ليس فقط لساندز كيهودي، بل كذلك لساندز كمحام يُعتبر خبيرًا في القانون الدولي ويمثل أمام العديد من المحاكم الدولية، مثل محكمة العدل الدولية في لاهاي، والمحكمة الدولية لقانون البحار، ومحكمة العدل الأوروبية، والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان والمحكمة الجنائية الدولية، والذي أجاب بهدوء وشجاعة عن هذا السؤال الذي صار يُثير الرعب في كامل أوروبا، تحت تهديد "الكراهية" و"معاداة السامية".

قال ساندز بأنه ضمن ثمانية محامين يهود في بريطانيا نشروا رؤيتهم حول هذا الأمر، والذي يمكن تلخيصه في ثلاث نقاط. النقطة الأولى وهي واجب إدانة ما قامت به حماس وأدى إلى "قتل المدنيين وخطف المدنيين وتعريض حياتهم للخطر والموت".

أما النقطة الثانية فتتلخص في أن "رد الفعل من إسرائيل كان وحشيًا، ولا يُمكن تبريره، خاصة مع مقتل آلاف المدنيين، وأكثرهم من الأطفال والنساء والمرضى"، وما قامت به كذلك من هدم وتدمير البنية التحتية، "ومنع الحاجات الأساسية للعيش، من ماء وكهرباء ووقود وأدوية، في الوصول إلى المحاصرين في غزة". واستطرد ساندز، وهو ما يشكل النقطة الثالثة، في أن الفلسطينيين "يجب أن يتمتعوا بحقوق كاملة، مثلهم مثل أي بشر على هذه الأرض، ويجب حماية هذه الحقوق، إذ لا يُمكن لنا، كمحامين كذلك، وكدعاة لحقوق الإنسان، أن نحمي حقوق طرف ما، ونفرّط بحقوق طرف آخر". وكرر ساندز عدم ارتياحه للنظر إليه كلندني أو بريطاني أو يهودي، كما قال في مقابلة شهيرة مع صحيفة الغارديان البريطانية، بل "يهمني أن يُنظر إليّ كفرد يُدعى فيليب ساندز، كواحد من هؤلاء البشر الذين يودّون أن يُصبحوا سواسية يومًا ما".

قد يقول أحدنا بأنها شجاعة من فيليب ساندز ضمن هذه الأجواء المرعبة المصنوعة بقوة من السياسيين والأحزاب، ولكنها جعلت الحضور ينظرون إلى بعضهم البعض، ويهزون رؤوسهم، وكأنهم يهتمون بظهور أحد ما، أخيرًا، بهذه الشجاعة. وربما هزوا رؤوسهم لأنه يهودي ولا يخاف من التهم الجاهزة بحقهم لو تكلموا.

ولكن في المطعم والمقهى، الملحقين بفعاليات المهرجان، كنت أسأل بعض الكتاب المدعوين عن رأيهم لما قاله ساندز في هذه الأجواء. وكان أكثرهم موافقًا ومتألمًا لمقتل آلاف الأطفال الفلسطينيين والمدنيين البريئين والعزّل. ولكن كانوا يقولون ذلك بصوت منخفض، ربمًا خوفًا من أن تكون حتى هذه الحوارات بيننا مسجّلة، وستشكل دليلًا مستقبليًا ضدهم!

والسؤال الذي يجب طرحه، وربما طرحه الكثيرون، هو إذا كان المثقف أو الكاتب، أو أيًا من أصحاب المهن الإبداعيّة الأخرى، يشعر بالخوف والهلع والمراقبة في دولة يقوم نظامها الأساسي على مبادئ الديمقراطية وشرعة حقوق الإنسان، فكيف كانت حال زملائهم أيام الحكم النازيّ البغيض؟  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.