}

"الأيام": حول أوهام شائعة عن السيرة الذاتية وتحريك الذاكرة

نجاة علي 22 أكتوبر 2023
من الأوهام الشائعة عن فن السيرة الذاتية ـ أو حتى تلك التي يشيعها بعض الكتّاب أنفسهم ـ أن أصحابها يقدمون اعترافات تحكي واقعًا مخفيًا عن أنظار القرّاء، وأن غايتهم هي التطهّر من خلال فعل الكتابة.
وفي ظني أن هذا تصور يحتاج لكثير من المساءلة، لأنه ينطوي على قصور في فهم العملية الإبداعية ذاتها، فما زال بعضهم يعتقد أن الأدب يحاكي الواقع، وكأن فعل الكتابة هو محض تسجيل للأحداث التي يعيشها المرء.
وأتصور أن الكاتب ـ أي كاتب ـ يكذب حتى وهو يقول الحقيقة، وما يقوله الكتّاب عن سيرتهم الذاتية بأنها "اعترافات" كثيرًا ما يدخل في باب الدعاية لأعمالهم، فالكاتب لا ينقل الواقع كما هو، بل إنه بالأحرى يفككه ويعيد تركيبه مرة أخرى بطريقته بعد أن يمزجه بالخيال، ومن خلال وجهة نظره التي تتحكم كثيرًا في لعبة الكتابة. هذا فضلًا عن أن الخيال نفسه عمل من أعمال الذاكرة، سواء في حفظ الصور وتنظيمها، أو إعادة تركيبها وابتكارها.
ويمكن النظر إلى السيرة الذاتية كذلك باعتبارها فن الذاكرة الأول بامتياز، ربما لأنها تعتمد في الأساس على استعادة أحداث حياتية من خلال تحريك الذاكرة. وقد ترغب الذات في استعادة ماضيها كله، أو بعضًا منه، حين تمر بلحظة فارقة، تجعلها تهرب إلى هذا الماضي، فيحدث نوع من المواجهة، والتي يقصد بها هنا تعرف الوعي ذاته واكتشافه.
لكن ينبغي علينا الانتباه جيدًا إلى أن الذاكرة يمكن أن تكون مخادعة، لا يعول عليها في معظم الأوقات، فقليلٌ من البشر في إمكانهم أن يستعيدوا بدقة تفاصيل حياتهم، هذا إلى جانب أن كل إنسان يميل إلى تذكر ما يوافق هواه الشخصي، أو حتى ما قد يكون المحرك لما تعانيه الذات من آلام في أحيان أخرى.
وينبغي أن ندرك أن بعض الأحداث التي تمر في حياة الإنسان يمكنها أن تظل رهينة دائرة التعتيم، أو الاستبعاد، لأسباب تتعلق بأشكال متعددة من القيود، أو القمع (الداخلي أو الخارجي) تمارسه الذات على الذاكرة.
ولعل هذا كله، هو بعض ما يصنع لفن السيرة الذاتية خصوصيته وتفرده، فـ"نحن لا نتحرر إلا من خلال التذكر"، على حد تعبير الفيلسوف الألماني نيتشه.




ولو أننا طبقنا هذا الأمر على سيرة طه حسين في كتابه "الأيام"، وهو عمل فريد في الأدب العربي الحديث، قَبِلَ تحدي الزمن، ليس فقط لأن مؤلفه أحد التنويريين العظام في الثقافة العربية، بل لكونه أيضًا تضمن  كثيرًا من التقنيات الحديثة في السرد، مثل الاستخدام المبتكر للسرد بالضمير الغائب، وهذا بحسب ما أشارت الناقدة الفلسطينية فدوى مالطي دوغلاس  في كتابها "العمى والسيرة الذاتية": "ما جعله معلما بارزًا في أدب السيرة الذاتية الحديثة"، إذ لا نكاد نجد من تعليق على الأدب العربي المعاصر إلا ويتضمن بعض الإشارات إليه.
ولعلنا إذا توقفنا أمام الصورة التي رسمها طه حسين لنفسه من خلال هذه السيرة، شأنه في ذلك شأن كثيرين من كتاب السيرة، سوف نكتشف أنه اختار أحداثًا معينة ليرويها، وحرص على استدعاء ما يدعمها من الأرشيف الشخصي الذي يمتلكه. وسواء كان هذا الانتقاء تم بوعي، أو لعب اللاوعي دورًا فيه، فإن علينا أن ندرك أن ما وصلنا من سيرته الذاتية في هذا الكتاب كان محمولًا على رؤية الكاتب ووجهة نظره؛ إذ إن الكتابة في كتاب "الأيام" تأتي من موقع الكاتب الذي راكم معرفة وخبرة في رؤية الأحداث التي عاشها، فهناك اختلاف بين زمن الحدث وزمن الكتابة، وهو ما يجعلنا نتأملها بشيء من التيقظ والحذر.

أبو العلاء المعرّي (Getty)

هذا إذا وضعنا في الاعتبار أيضًا أن "الأيام" قد صدرتْ في ثلاثة أجزاء منفصلة على فترات زمنية متباعدة، لكنها متصلة زمنيًا، كما أن أسلوب السرد واستخدام الضمير الغائب يكاد يكون عاملًا مشتركًا بين الأجزاء الثلاثة، وحتى الجزء الثالث الذي صدر أول مرة تحت عنوان "مذكرات" عن دار المعارف، ليس سوى استكمال لهذه السيرة.
وما يلفت الانتباه هو أن توقيتات كتابة هذا بأجزائه كانت بمثابة فترة أزمات ومحن تعرض لها طه حسين، وهو ما ألمح له في افتتاحية "الأيام" (1954): "هذا حديث أمليته في بعض أوقات الفراغ، ولم أكن أريد أن يصدر في كتاب، وإنما أمليته لأتخلص من بعض الهموم الثقال والخواطر المحزنة التي كثيرًا ما تعتري الناس بين حين وحين. ولست أدري لماذا رجعت إلى ذكريات الصبا لأتحدث بها إلى نفسي لأنسى بها أثقال الشباب".
وقد أشارت سوزان زوجة طه حسين في كتابها "معك" إلى الأجواء التي أحاطت بهذا العمل، عقب أزمة كتاب "في الشعر الجاهلي"، الذي عَرّض طه حسين لكثير من الهجوم العنيف على صفحات الجرائد، وصل إلى حد تلقيه تهديدًا بالقتل، حتى ساءت صحته. ولكي تهدأ نفسه قليلًا، سافر إلى قرية سافوا في فرنسا بصحبة زوجته، وهناك كتب الجزء الأول من عمله "الأيام": "لقد اشتغل عليه في النهار، وحَلَمَ به في الليل، وقد بدأ كتابة هذا العمل في يناير (1926)، وانتهى منه في مارس في العام نفسه".
نجد كذلك في افتتاحية "الأيام" إشارة طه حسين إلى عمل الذاكرة وقصورها في فعل التذكر الكامل للأحداث التي يسردها داخل هذا العمل، ويزداد الأمر التباسًا كلما تقدمنا في قراءة الافتتاحية؛ وبخاصة مع استخدام أفعال تتضمن معنى الاعتقاد.
فالراوي لا يكتفي بنقل ما يذكر، وما لا يذكر، بل إنه يتدخل في النص بشرحه في أحد المواضع، ويؤكد إمكانية وقوع الذاكرة في الخطأ، وهو ما يشكل فجوة بين الحقيقة وسردها.

أشباح أبي العلاء وعاهة العمى
يكاد يكون الانشغال بعاهة العمى التي عانى الكاتب منها هو المهيمن على استدعاءات الذاكرة، وقد شكل محركًا مهمًا  في سرد ما مر به من أحداث مؤثرة.
والمتأمل لهذه السيرة سوف يلحظ حضورًا كبيرًا لأشباح شاعر الدولة العباسية أبي العلاء المعري؛ الذي يحضر طيفه كلما مر الفتى بموقف أو حدث يتعلق بعاهته، حتى إن تعليقات الراوي المُتدخلة تعكس خبرة ووعيًا معرفيًا تاليًا زمنيًا على الحدث الذي مر به بطل "الأيام"، لكن الراوي يختار موضعًا في السرد يراه مناسبًا كي يطرح  فكرة حضور أبي العلاء المعري كقرين دائم يلازمه منذ إصابته بعاهة العمى التي كانت مصدر شقائه، لكنه مع هذا لا يجد المرء أثرًا لأي تعاطف مع أحد من العميان الذين يأتي على ذكرهم في الجزأين (الأول أو الثاني)؛ بل إننا نجده ينظر إلى بطله نظرة مختلفة تحمل إعجابًا، فهو لم يكن، كغيره من فاقدي البصر العاديين:




"لم تكن تظهر عليه تلك الظلمة التي عادة ما تغشى وجوه المكفوفين" (ج1 ـ ص149).
ولعل الراوي هنا يلمح لشيء آخر، أو يُهيئنا لنبوءة خاصة مفادها أن هذا الكفيف ليس كمثله من العميان، وسيكون له شأن عظيم، فنكتشف كذلك أن الراوي الذي اتخذ مسافة من البطل، وجعل السرد بضمير الغائب، حاول أن يبدو في هيئة الراوي العليم (المبصر) جاعلًا من الخيال بصيرة تصف حال البطل، وهو ما نراه يذكره في أكثر من موضع:
"إن قميص الشاب قد اكتسب العديد من الألوان من كثرة ما سقط عليه من الطعام). (ج1 ـ ص148).
وقد يتوقف القارئ كثيرًا أمام مقطع مهم يقرن فيه بطل "الأيام" نفسه بالشاعر أبي  العلاء وطعامه المراق مستدعيًا مقولته المعروفة "أَكْلُ الأعمى عَورةٌ وسَترُه واجب".
في الجزء الثالث من "الأيام"، تبدأ رحلة تمرد طه حسين على شبح أبي العلاء الذي ضلله: "لأنه ملأ نفس الفتى ضيقًا بالحياة وبغضًا لها". لكنه تجاوز هذه الأمور التي جمعت بينهما، مثل العزلة والاكتئاب، والاعتماد على الآخرين، وقوانين المجتمع، وهذا التغير كان مرجعه سفره إلى أوروبا، ولقائه بصاحبة "الصوت العذب"؛ تلك الفتاة الفرنسية التي أحبها وتزوجها فاستطاعت إخراجه من سجن أبي العلاء: "ومنذ تلك الساعة التي سمع فيها ذلك الصوت العذب لم يعرف اليأس إلى نفسه سبيلًا". (ج3 ـ ص85).
ولعلنا نكتشف أنه ضمن ألاعيب الذاكرة الكثيرة داخل السيرة إلحاحها المتكرر على استدعاء واقعة قاسية من الأرشيف الشخصي للبطل، يذكرها الراوي أكثر من مرة، ربما لأنها تركت مرارة في نفسه، وهي منع الغلام المرافق له من دخوله غرفة الدرس معه؛ إذ كانت لوائح الجامعة تمنع من دخولها من لا يمتلكون بطاقات انتساب، واضطر الفتى أن يلجأ إلى السكرتير العام للجامعة آنذاك أحمد زكي بك شاكيًا وبصحبته بعض الطلاب المتعاطفين معه. لكن السكرتير العام حين علم بالأمر قال للطلاب في هدوء "النظام هو النظام". ولما أراد أحدهم مناقشته رد عليهم ردًا غليظًا يخلو من الرحمة: "ماذا نفعل وقد أراد الله لصاحبك ألا يشهد هذه المحاضرات". ("ج3 ـ ص 344).
وبالرغم من مساندة الطلاب للفتى إلا أن هذا استدعى من الذاكرة مواقف قاسية واجهها من قبل حين أراد أن ينتسب إلى الأزهر، فقال له أحد ممتحنيه: "اقرأ يا أعمى سورة الكهف"، ثم موقف آخر أثناء دراسته في الجامعة بفرنسا، حين دخل المحاضرات لأول مرة، فسأل البروفيسور مرافقه إن كان رفيقه أعمى، فرد بالإيجاب، فأخبره البروفيسور بأنه رآه يدخل القاعة من دون أن يكشف رأسه؛ لأن من التقاليد هناك أن الناس يرفعون قلانسهم حين يدخلون مكانًا مسقوفًا، وأن يحضروا الدروس حاسري الرؤوس.
ومن هنا يمكننا تأويل عنوان هذه السيرة في أكثر من اتجاه، فقد يكون المقصود هنا بـ"الأيام" الإشارة إلى الحروب، أو المعارك، التي خاضها طه حسين، سواء بالمعنى الحقيقي، أو المجازي، ضد عاهة العمى، وضد الفقر والجهل وتخلف مجتمعه، ولكن استطاع أن ينتصر فيها جميعًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.