}

الرواية فن الإيجاز أيضًا

وارد بدر السالم وارد بدر السالم 26 أكتوبر 2023
آراء الرواية فن الإيجاز أيضًا
(GettyImages)


(1) لا نعتقد بأنّ أحدًا قال: الرواية فن الإيجاز. ولا يمكن لأي متبصّر نقدي أن يتعامل- فنيًا- مع الرواية كما يتعامل مع القصة القصيرة. فالمتداوَل أن القصة القصيرة ينطبق عليها هذا الوصف: التكثيف، الإيجاز، كونها معنية بالتقاط شريحة حياتية في المجتمع، أو ومضة إنسانية غائبة عن المتن السردي العام، لتختزل وجودها عبر شكلها الفني المكثّف. أما أن تكون الرواية موجزة ومقتضبة، وموحية أكثر من كونها دالّة، متشعبة الوجوه بأصوات متعاقبة أو ذات سرد فائض لتوصِل هدفها وأهدافها، فهذا موضوع يحتاج إلى برهنة وتأكيد. وقبل هذا يحتاج إلى فهم موضوعي لفكرة الفرضية التي نقولها بأن الرواية هي فن الإيجاز والاقتضاب والبلاغة السردية. تتشابه مع القصة القصيرة في الكثافة الفنية، لكنها تفترق عنها في التفصيل الحياتي المكثّف. وإذا ما كان الإيجاز رديفًا للموهبة بتعبير تشيخوف، وأن البلاغة هي في الإيجاز على ما قالته العرب قديمًا، والإطناب ممل يشتت الكتابة والصور والثيمة الأساسية، والدقة مطلوبة في السرديات الأدبية، فهذا أمر سارت عليه الكتابات كما نعتقد كقاعدة، ولم يقوّضها أحد (بزعمنا من أنها تشكّل عائقًا لنمو الكتابة السردية في بعض الأحيان) وأنها ليست بالضرورة قاعدة متوارثة، أو حقيقة مسلّمًا بها. فالكتابة الحرة غير معنية بالتصنيف والقواعد التي لا تثبت مع زمن الكتابة كما نحسب. وحرية الكتابة، هي في الخلق والتجاوز والإضافة والإبداع والمتعة والهدف.

(2) سنعيد الفكرة بشكل أوضح بحسابات فنية أكثر شمولية ودقة، إذ تصادفنا في القراءات السردية الأدبية قصة قصيرة من صفحة واحدة، فتشعرنا بالملل من قراءتها. وتصادفنا أيضًا رواية من 500 صفحة، فنجد المتعة فيها والانهماك في فضائها الواسع. وما بين الاثنين مسافة طويلة من الفن والإنشاء وقوة الأداء والتركيز الاستثنائي في التسريد الفني في الحالتين. ويمكن ملاحظة اختلافات في السرد الدلالي بين الاثنين، فالأولى لمحة خاطفة وشريحة ضوئية قد تكون غير موفقة، والأخرى مجموعة شرائح ضوئية وصوتية ولمحات متعاقبة. لكنها منسوجة بحكمة وثقافة وفن وإبداع، بما يمنحها الكثير من موجبات القبول المُتعوي أو النقدي.

(3) القصة القصيرة يشير اسمها إليها: اختصار واقتضاب، بدعوى تكثيف الفكرة، وتغليف النص بعباءة سردية، يكون فيها التأويل محتملًا أو غير محتمل، سوى ما تقدمه من صورة مباشرة وغير مباشرة حول موضوعة ما، قد تكون مهمة أو لا تكون، برمزية أو قناع أو تمويه، في حين تكون الرواية هي الأقدر على التكثيف وتصوير الواقع وما وراءه، وما بداخله، وما حوله من وقائع متعددة. ويمكن في الأحوال كلها أن تقدم الرواية على إيجاز الوقائع تفصيليًا، لكن بطريقة التسريد الفنية اللمّاحة.

ماركيز مثلًا أطال في رواياته، لكنه أوجز أيضًا. فالواقع التفصيلي للبلاد الديكتاتورية، هو ما قدمه ماركيز، لكن بإيجاز محسوب فنيًا. بالرغم من تفصيلاته الكثيرة وتداخلات الوقائع فيه. ومثل هذا برأيي لا يُحسب تناقضًا في الفكرة، فالإيجاز الماركيزي، إحاطة نوعية، وليست تفصيلية بعالم الديكتاتورية. والنوع هو الذي يتحكم بالتسريد الروائي عند الكاتب الحاذق. أما التفاصيل الدقيقة فمرهقة قطعًا. وتكون أبعد الأمثلة نسبيًا هي رواية "الحرب والسلم" لتولستوي الشائكة بالكثير من تفصيلاتها، لكن تولستوي أمام الواقع الروسي في فترة حملة نابليون بونابرت، لم يتقيد بواقع طبقات النبلاء في تلك الفترة البعيدة، بل ساوى الواقع مع الخيال بابتكاره بعض الشخصيات المضافة إلى واقع الرواية، بمعنى تمكنه من اختزال الواقع وتكثيفه عبر أجزاء غير قليلة من الخيال السردي.

(4) هذا يعيدنا إلى المادة الخام في الواقع. وكيف تكون البلاغة وافية في تقديم الأثر الفني الإبداعي. فمعطيات القصة القصيرة مقولبة، تحت تأثير ضغط المساحة، وتحديد وجهتها إلى هدفها مثل السهم المنطلق، وممتثلة للشروط التعسفية التي وُضعت لها؛ على أساس الدقة والاختصار والتكثيف. فلماذا يتطلب من القصة أن تكون موجزة، بينما الرواية لا تقع تحت هذا الشرط الغريب؟

(5) الواقع رافد نهائي للكتابة كحقيقة فنية. وإذا ما خضعت القصة القصيرة لشروط قديمة، فإن الرواية تمددت بشكلها وموضوعاتها، فهي الأقدر على إشغال مساحات عريضة من تكثيف الواقع، بمعرفيتها الجديدة وانتشارها بين الفنون أخذًا واستلالًا وعطاءً باذخًا، من دون اشتراطات مسبقة. أي أنّ تكثيف الواقع هو حصره بموجبات سردية، وإن طالت الصفحات وتعددت؛ فالبلاغة هنا هي في التعامل الفني مع تلك الجزئيات من الواقع، وصولًا إلى جوهره، أو الإحاطة الممكنة به. وكثير من الروايات التي قرأناها، تجاوزت حتى الواقع الموصوف بقوتها السردية - الفنية وطوت المادة الخام في الواقع، إلى خيال السرد، وخيال الواقع، لتمضي إلى إنشاء جسر عابر إليها. وتنوير اللحظات القادمة من الواقع إلى الفن، وبالتالي يتحقق شرط الإبداع، مثلما يكون الفن هو المسطرة التي نقيس بها أبعاد تلك السردية التي نتكلم عنها. وأن لا يكون القِصَر أو الإطالة أعمدة موضوعة لتحديد وجهات القصة والرواية.

ماركيز أطال في رواياته، لكنه أوجز أيضًا. فالواقع التفصيلي للبلاد الديكتاتورية هو ما قدمه ماركيز، لكن بإيجاز محسوب فنيًا (الصورة: Getty)


(
6) كثير من القصص القصيرة يمكن أن تكون روايات. وكثير من الروايات لا تعدو كونها قصصًا مُطّت- بقصد- سرديًا، فخرجت من خيمة القصة إلى غيرها من أجناس الأدب. يسمونها نوفيلّا "رواية قصيرة - Short novel" لكنها بقيت في جوهرها قصة قصيرة، بلا كثافة فنية مطلوبة كما أرادتها الاشتراطات القديمة، مع أنها أدّت شروط الفن والإبداع والمهارة الكتابية (رواية صمت البحر- فيركور مثالًا) وبالتالي نجد الفجوة النقدية قائمة حتى اليوم في مسمياتها النقدية التي لا تتطور مع تطور الأجناس الأدبية، كما حصل مع قصيدة النثر، التي تجاوزت الواقع الشعري العمودي، لتصبح لاحقًا كيانًا مستقلًا لا شائبة فيه.

(7) تشيخوف، وليم سارويان، ناتالي ساروت، يوسف إدريس، زكريا تامر، أدغار ألن بو، غوغول، وبورخيس، مبدعو الفن القصصي، أعلام واضحة في تأكيد المعنى القصصي بالتقاط شريحة ضوئية من الواقع والتنويع المتقشّف عليها لحدث واحد. فالكثافة اللغوية مقروءة عند هؤلاء، والسرد الدلالي عندهم ذو أفق مفتوح على التأويل. والرمزية معقولة جدًا في تكييف اللغة إلى قناعها الفني. ويمكن القول، مع مئات من كتّاب القصة القصيرة في العالم، بأن لا شرط يتقدم على الكتابة، غير شرط الإبداع، لذلك نجد حتى في جائزة نوبل العالمية (الكاتب الصيني مو يان - جائزة نوبل للآداب لعام 2012) أن هناك كتّابَ قصة قصيرة مُنحوا الجائزة، من دون تحديد معايير لكتاباتهم سوى الشرط الفني القادر على تثوير هذا الفن وإيقاد جمالياته الكثيرة. أي أن الفعل الإبداعي تقدم على شرط الطول والعرض، العمودي والأفقي.

(8) لا نعتقد أن الرواية تحتاج إلى إطالة كثيرة وهي تقتفي أثر الواقع. الإيجاز الروائي هو ضغط الواقع عبر منفذ الخيال المفتوح. ومنهجته بطريقة غير تقليدية من دون الحاجة إلى مونتاج لغوي. بل إلى مونتاج آخر يحجّم امتداد الواقع وتفرعاته الكثيرة، ويضغط عليه كثيرًا، للكتابة عنه ومنه، بينما يلجأ مبدعون آخرون إلى التخلي عن هذا الكم الواقعي، والكتابة عن الزوائد الناتجة عن الضغط، فهي الهوامش التي تغذّي السردية الطويلة، وتعطيها ألقًا وبقاءً من الخيال الواجب تمريره، لإعادة خلق الواقع من جديد.

(9) قد تحتاج القصيدة إلى التكثيف اللغوي، فهذا زيُّها وثوبها وخيالها. لكن الرواية تحتاج إلى تكثيف حياتي موضوعي، مهما طالت واستطالت وتعددت فيها منافذ السرد. فشعرية الرواية - برأيي- تستند إلى هذا المفهوم... إيجاز الحياة... ولكن بتفصيل فني.


هوامش:

(*) أنطون تشيخوف: طبيب وكاتب مسرحي ومؤلف قصصي روسي كبير. ينظر إليه على أنه من أفضل كتاب القصص القصيرة على مدى التاريخ.

(*) وليام سارويان: كاتب قصة قصيرة أميركي من أصل أرمني. حصل على جائزتي بوليتزر والأوسكار لأفضل قصة عن فيلم مقتبس من روايته "الكوميديا الإنسانية".

(*) ناتالي ساروت: روائية وكاتبة مسرحية فرنسية من أصل روسي.

(*) " صمت البحر" أولى روايات فيركور. واسمه الحقيقي (جان  مارسيل برولنر) كتبها عام 1942 عندما كانت فرنسا تحت الاحتلال الألماني. مُنح عام 1957 وسام الشرف بسبب دوره أثناء المقاومة للاحتلال النازي.

(*) تولستوي: من عمالقة الروائيين الروس. مصلح اجتماعي وداعية سلام. يعد من أعمدة الأدب الروسي في القرن التاسع عشر والبعض يعده من أعظم الروائيين على الإطلاق. أشهر أعماله روايتا "الحرب والسلام" و"آنا كارنينا" وهما يتربعان على قمة الأدب الواقعي.

(*) زكريا تامر (سورية): أحد أبرز كتاب القصة القصيرة في العالم العربي.

(*) يوسف ادريس (مصر):  كاتب قصصي، مسرحي، وروائي . بكالوريوس وتخصص في الطب النفسي.

(*) إدغار آلان بو: كاتب قصة قصيرة أميركي. وهو من أقدم الممارسين الأميركيين لفن القصة القصيرة. اشتهرت حكاياته بالأسرار والترويع. أشهر أعماله القصصية "القط الأسود".

(*) غوغول: كاتب روسي. من أعماله الأكثر شهرة رواية "النفوس الميتة" وقصته القصيرة "المعطف".

(*) خورخي لويس بورخيس: كاتب أرجنتيني.  من أبرز كتاب القرن العشرين. ترجمت أعماله إلى الإنكليزية والسويدية والعربية والإيطالية والألمانية والفرنسية والدنماركية والبرتغالية.

ملاحظة: تعريف الأعلام من الموسوعة الحرة- ويكيبيديا.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.