}

لا نكتب رواية تشبهك

وارد بدر السالم وارد بدر السالم 24 نوفمبر 2023
آراء لا نكتب رواية تشبهك
(Getty)
(1)
لا نعتقد بوجود رواية تشبهك بقضّك وقضيضك، ترسمكَ كما أنت، تحاور داخلك وخارجك، وتنهل من عمقك، تشبه روحكَ ومزاجك الخاص؛ وتلتقي بك على نحوٍ مباشر. إذْ لا يمكن لأية سردية في العالم أن تتطابق مع شخصك بالتمام والكمال، وهذا هو الصعب في الكتابة الروائية والقصصية أيضًا. فإذا سردتكَ كما أنتَ، بما فيك من وعيٍ جزئي أو كلي، أو عيوبٍ، أو عوزٍ، أو حتى اكتمال، لن تكون أنت بصورة تامّة. ستكون مشهديتك النصية ناقصة، ووصفك السردي لا يتطابق مع (أنتَ)، لكن قد يحدث "تجميع" التقاطات سردية واعية بين شخصيات متعددة من المجتمع الذي تعيش فيه، تكون لها علاقة جزئية أو كلية بك، أو هذا ما تراه أنت في الأقل. وهي رؤية تتحكم بها نوازعك الشخصية على وجهٍ دقيق، عندها تراكَ جزءًا من سردية طويلة، كأنها منك واليك... وهذا بعض أهداف الكتابة.

(2)
عندما ترى أوجهَ الشبه بينك وبين ذلك "التجميع" العفوي، أو المقصود، المتوزع بين شخصيات روائية، ستدرك أنّ المؤلف ذاته يتوزع بين شخصياتها بطريقة أُريدَ لها أن تكون سلسة ومعقولة إلى الحد الذي يبدو فيه المؤلف داخلًا في لعبة السرد، كشخصية رئيسة في المسرود العام. بمعنى إدراكك له بأنه هاضمٌ لجزءٍ من شخصيتك الداخلية والخارجية بالقدر الدرامي الذي يتطلبه حضورك، سواء أكان هامشيًا، أو أبعد من هذا قليلًا، أو كثيرًا. وتدرك باليقين السردي بأن المؤلف هاضمٌ لشخصية غيرك أيضًا، بمستوى يقل أو يزيد على فهمه للنوازع الإنسانية. وهو فهم لا يكون عفويًا في الأحوال كلها، لأنه استخلاص لن يكون بعيدًا عن الحال الاجتماعية دائمًا التي تعيشها أنت والمؤلف في نسق واحد وحاضنة واحدة، مع جمهور واحد، لكنه متنوع النزعات والمواقف والأفكار.

(3)
أيًا كان المؤلف الروائي، وفي أية جغرافية على هذا الكوكب، لا يميل إلى التشخيص الفردي في السردية الروائية (ربما يحدث هذا في كتابة السيرة الذاتية) فالفرد إنتاج مجتمعي، يحمل هويته الاجتماعية بكل ما فيها من ماضٍ وحاضر وتطلعات بنيوية إلى المستقبل، وما فيها من وشائج صلة بينية بينه وبين الآخرين، تاريخية وتراثية وشعبية ونفسية؛ وبالتالي فإنّ الفرد هو مجتمع صغير جدًا، وليس كونًا علميًا متناهي الأطراف (ولو أنه جرمٌ صغير انطوى فيها العالم الأكبرُ)، لكننا نتحدد في هذا السياق عن الكائن الاجتماعي فيك، وليس الخلق الكوني الأبعد من هذا، ولا الجانب الفلسفي التأملي الذي يمكن من خلاله أن تفهم وجودك المادي، فهذه من مسؤولية المؤلف، فهو القارئ الاجتماعي والسيكولوجي والسياسي والفلسفي الذي يُخرجكَ منكَ، وينتجه إليكَ مرة أخرى بصيغة مترابطة مع المجموع الاجتماعي، لترى بعضًا منك، ومن سلوكك ضمن تيار بشري أنت فيه، لكنك لا تعرف ماذا تفعل على وجه الدقة. لهذا لو تأملت ذاتك في النص الروائي، لن تجدكَ كما أنت، بل ستجد نسخة منك، إما نسخة تجميلية تتمناها، أو نسخة مشوهة تنفر منها. وفي الحالتين، ستكون المشابَهة، أو الاختلاف، هي وجهتا نظر الروائي الذي يقيّدك في النص، أو يطلق سراحك فيه.

(4)
الفرد؛ أنت أو غيرك؛ يتنقل في المكان والزمن، حاملًا العبء الاجتماعي في كثافته المتراكمة، أما المؤلف حينما يكون قريبًا من الروح الاجتماعية اليومية، ومتفاعلًا مع الزمن الاجتماعي والمكان المحلي الاجتماعي، فلا تحدده كليًا مواصفات المجتمع الذي هو فيه، بقدر ما يشكّل وعيه ارتدادًا ضروريًا لفحصه وقراءته واستلال مضامينه والتنويع عليه فنيًا.




ومن اليقين انتقاء شخصياته بحذاقة وحذر مهما كان دور الشخصيات اليومي، لتكوين مشهد عَرضي، أو طولي، لفكرة الكتابة السردية، طالت أم قصُرت. ونعتقد جازمين أنّ الخيال يلعب دورًا جوهريًا في تكثيف جوهر المجتمع وروحه، بغية التقاط شرائحه المبعثرة بين المتن والهامش والتعامل معها في أكثر من زاوية، منها "العرض" و"النقد" و"إعادة التشكيل الإبداعي" و"النبوءة" و"الإشارة إلى..." وكل هذه الزوايا تتدخل فيها عوامل نفسية واجتماعية وتاريخية وشعبية وفولكلورية وسياسية واقتصادية، وما إلى ذلك من محدّدات لازمة في صياغة أي مجتمع... سرديًا.

(5)
أن يكتبكَ الروائي كما أنت، ستكون الرؤيا من زاوية واحدة، والرؤية مشوشة إلى حد كبير. فأنت لست المجتمع على كل حال. لكن مجموع الأنوات الاجتماعية يمكن لها أن تُظهرك بطريقةٍ ما، حتى لو كنت وحدك في المشهد السردي، لأنك حامل تركات المجتمع قديمها وحديثها. أما أن يتقصدك الكاتب وحدك كشخصية اجتماعية أو سياسية أو بهلوانية تعمل في أية حِرفة، فهذا اشتغال أحادي، لا ينفع الكتابة، ولا يجعل منها مسرودًا ناضجًا في الأحوال كلها، حتى لو اشتغلت طاقة الخيال القصوى، لأنك ببساطة لستَ موضوعًا رصينًا بذاتك، إنما أنت من القطيع والسرب والجماعة، تحمل ما يحملون. وتفكر مثلما يفكرون. وتجتهد كما يجتهدون. ولأن هذه هي الحقيقة البيّنة فيك، نرى بأنّ من أولويات المؤلف أن لا يقف عندك، بل يتشتت في أوصال الجماعة والقطيع والسرب، لغرض قراءة الوصلة الاجتماعية، لا بوجودها وكيانها الشخصي وحسب، إنما بتراثها الغائر وتاريخها المشترك بينكم... وقد تكون أنت مع غيرك النماذج المطلوبة لصناعة تاريخ السرد الذي يبدأ ولا ينتهي بطبيعة الحال.

(6)
أن تُكتب رواية يعني أن تكون حاضرة في جزءٍ كبير من المعرفة التاريخية ـ الاجتماعية في فضائها المفتوح، وحتى الغامض منه. لذلك أرى أن التسريد الروائي؛ بحسب تجربتي المتواضعة فيه؛ يكون شاملًا وماسحًا تاريخيًا عامًا، قد لا يتوقف عند حيز من المكان وحسب، لأن الحيز غير كافٍ، ولا يفي بالمصدرية الروائية، أو قد يتوقف لأسباب موضوعية وفنية، وفي الحالتين، فإنّ استمرار التسريد في طيّات ومفاصل المجتمع، وهو يلتقط الإشارات من كل حيّز شخصي، هو محاولة لترميم الصورة الاجتماعية ـ الجماعية وتقديمها للقارئ، كشاهد أو ناقد، أو عارض، أو متنبئ، وهو مسعى غير قليل، وليس سهلًا، في تقديم مشاهد سردية تسير على خطوط يتوازى فيها الواقع والخيال بغرض موازنتها الفنية.

(7)
لا يكتب الروائي عنك كفرد، لأنك لقطة فوضوية من مسرح اجتماعي وتاريخي وسيكولوجي، لقطة غير مشذّبة تحتاج إلى قراءات، ومراجعات، وصقل، وتقويم فكري، ومن ثم إعادة إنتاج فني في آخر المراحل. أي لا نكتب رواية تشبهك وكما تريد، لكن يمكن أن نستفيد من إطاركَ وقالبك لنشكّل منك ـ مع قوالب الآخرين ـ صورة غير نمطية عنك لم تعتدها في حياتك... لأنك ستكون لستَ أنتَ... مع أنه أنتَ.

ملحق: اقتباسات

  •      رواياتي تعبّر عن سيرتي الذاتية ـ ألان روب غرييه.
  •     الشيوخ والعجائز في عائلتي هم ينبوع الكتابة بالنسبة لي ـ جيروم فيراري.
  •     المبدع كاهن يلعب بقرّائه مرتين، الأولى حين لا يرونه، والثانية حين يرونه ـ توني موريسون.
  •     يستطيع الكاتب تفريغ كل ما يجول في رأسه، والمهم أن يجعل الناس يصدقون ما يرويه ـ ماركيز.
  •     الرواية ذات بنية شديدة التعقيد، متراكبة الشكل، تتلاحم في ما بينها وتتضافر  ـ عبدالملك مرتاض.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.