}

شبيب الأمين: عالم يضيق على الشعر

صقر أبو فخر صقر أبو فخر 10 ديسمبر 2023
آراء شبيب الأمين: عالم يضيق على الشعر
شبيب الأمين
يباغتنا شبيب الأمين بديوانه الشعري الجديد الذي وسمه بعنوان "رجل للبيع يهزأ بالأبد"، ثم أتبعه بقسم ثان وضع له عنوانًا لافتًا هو "مصرع لُقمن" (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2023). والمقصود إلى "لُقمن" هو صديقه لقمان سليم الذي اغتيل في 3/ 2/ 2021 بصورة مأساوية بُعيد خروجه من منزل الشاعر في جنوب لبنان. وكان شبيب الأمين أصدر ديوانه الأول "أعتقد أنني سكران" في سنة 1994 وهو في الثلاثين، وها هو يصدر ديوانه الثاني هذا وهو يستعد للدخول إلى الستين. وتذكرني هذه الحال بالصديق الترشحاني سعادة سوداح، الذي نشر ديوانًا وحيدًا في سنة 1980 عنوانه "نشيد التعب"، ثم تعب من الشعر والسياسة والمنافي فانزوى في بلاد الثلج والصقيع، أي في كندا.
انهمك شبيب الأمين في جمار الشعر وحرائقه عندما أصدر نشرة "ميكروب" في سنة 1984 مع صديقه إسكندر حبش. واحتفت تلك النشرة، من بين ما احتفت به، بقصائد عادل فاخوري الإلكترونية والبصرية التي صرعنا بها في أمسياتنا في بناية بركات لدى المسرحي رئيف كرم، والتي أرغمنا عادل فاخوري آنذاك على الاستماع إلى موسيقى شتوكهاوزن كي نتمكن من تذوق "قصائده" الغريبة. أما علاقته المتينة بإسكندر حبش فقد نجمت عن صلتهما الأليفة المبكرة، إذ درسا المرحلة الثانوية معًا، وانتقلا إلى الجامعة اللبنانية معًا أيضًا. وشبيب الأمين هو الذي حمل بواكير إسكندر حبش الشعرية إلى صديقنا شوقي أبي شقرا في جريدة "النهار". وفي ما بعد ألجأه إسكندر حبش إلى نشر معظم قصائد ديوانه "رجل للبيع يهزأ بالأبد" في جريدة "السفير"، حين تولى إسكندر الإشراف على الصفحة الثقافية اليومية في إحدى المراحل.

تعب الكتابة
ينتسب شبيب الأمين شعريًا إلى جيل بدأ يعبر عن نفسه في ثمانينيات القرن المنصرم (مواليد 1964). وهذا الجيل المفعم بالأفكار والرؤى والاضطراب والقلق هجس بالشعر المختلف، وتطلع إلى صوغ قصيدة مغايرة لقصيدة شعراء الحداثة الكبار في بلاد الشام (أدونيس، محمد الماغوط، أنسي الحاج، محمود درويش)، أو مناكِفة لوارثي حضورهم الشعري والثقافي، أمثال عباس بيضون، وشوقي بزيع، ومحمد علي شمس الدين، في لبنان. وقد أتكأ بعض شعراء ذلك الجيل على التيار السريالي مقتفين أثر بعض التجارب الصاخبة مثل تجربة عبد القادر الجنابي في مجلاته الثلاث:"الرغبة الاباحية"، و"النقطة"، و"فراديس".




وعلى هذا الغرار ظهر "المانيفستو الجنائزي رقم صفر"، الذي صاغه الصديق القديم الصافي سعيد (وهو ليس بشاعر في أي حال)، ووقّعه صديقنا الراحل رسمي أبو علي، الذي لم يكن شاعرًا بدوره، بل إن الصافي ورسمي رغبا في كتابة نصوص مختلفة وواخزة، وهذا كل ما في الأمر. غير أن شبيب الأمين خطا خطوة أبعد في مملكة الشعر، حين أسس مقهى "جدل بيزنطي"، الذي تحوّل إلى ملتقى ثقافي للشعراء الجدد من جيل الثمانينيات (مع أن لا تخوم زمنية بين الأجيال الشعرية، بل تداخل واشتراك وافتراق).
لم يلبث شبيب الأمين أن ودع الشعر كما لاح لي. لكنه كان، في الحقيقة، يعود إلى الكتابة كمن يتسلل إلى مكانه الأول، أو إلى حبّه الأول. وتبين أنه لم ينقطع عن الشعر، وحوّل منزله في الجنوب اللبناني إلى مضافة لأصدقائه الشعراء والمثقفين والكتاب والحالمين. ولا أجازف في الاستنتاج، في هذه القراءة، إذا قلتُ إن شبيب الأمين يبدو كأنه يهرب من الشعر، أو كأنه يراوغ الكلمات حتى تفلت منه، أو كأنه لا يريد أن يكون شاعرًا، وهو الشاعر الذي ما برح يكتب ويمحو ويختزل ويشطب الكلام الفائض في نصّه كأنه منهمك في استكشاف الدروب التي تقوده إلى الشعر المصفّى. يقول: "كتبتُ ما كتبتُ، إلا أنني محوت" (من قصيدة "هجرة رضوان الأمين" ص 42). ونعثر في هذا الديوان على تنقّل رشيق بين السريالية والوجودية: "عشتُ أرنبًا في مَسْكَبة جزر" (من قصيدة "هجرة رضوان الأمين"، ص 44)، و"وجودي بلا طائل" (من قصيدة "عربة الشتاء، ص 23).
تعكس بعض قصائد الديوان ارتعاشًا في معنى الشعر جراء خيبات كثيرة تسربل بها ذلك الجيل الشعري. فما الشعر إذًا؟ الشاعر لا يجيب، وليس عليه أن يجيب قط، بل أن يكتب الشعر، وهذا أمر بدهي. لكن الشاعر هنا لا يتردد في الإفصاح: "هامد كحجر. ميت كصديق يدوّن أشعارًا في قرية" (من قصيدة "جثة خلفي"، ص 20)، ولا يتورع عن وصف كلماته بأنها "كلمات كأنها ماعز، كـأنها دجاج، كأنها بيض بلدي" (من قصيدة "العربة تحطمت" ص 35).

العالم الشعري
عاش شبيب الأمين ردحًا من أيامه في مدينة بيروت التي كانت قد كفّت، إلى حد كبير، عن أن تكون المدينة التي تعلق بها الكتّاب والشعراء والمفكرون والمثقفون والمنفيون العرب؛ مدينة كانت قد أدارت ظهرها لتاريخها المتوثب الذي لم يدم طويلًا في أي حال (من 1950 أي ما بعد النكبة الفلسطينية مباشرة، حتى 1982 أي إلى الخروج الفلسطيني من لبنان). ومن الغرابة حقًا أن ينثني شاعر، بوعي كامل، إلى مغادرة المدينة إلى الريف؛ فقلما نعثر على شاعر، أو مفكر، أو فنان، عاد إلى "ضيعته" ومّد لسانه للمدينة غير شبيب الأمين، والصحافي العتيق أمين الأعور، صاحب مجلة "بيروت المساء"، التي كان يصدرها في ذروة ازدهار الصحافة اللبنانية، وربما هناك غيرهما وهو قليل.
العالم الشعري لشبيب الأمين في ديوانه الجديد هو الريف، وبالتحديد ريف لبنان الجنوبي. فالأماكن هي قرى الصوانة، وتولين، ونيحا، والنبطية، ومرجعيون، ووادي الحُجير، وفلسطين، علاوة على بقايا المدينة، مثل شارع بلس، ومخفر حبيش. أما الأصحاب فيتذكر منهم لقمان سليم، وعبد الأمير عبد الله (الساخر دائمًا)، وشوقي حمزة، ومروان حمام، وحسين نجدي، ورضوان الأمين، ومحمد الأمين، وديما الجندي، ومحمد شمس الدين، وحبيب الشرتوني، ومعهم محسن إبراهيم، وياسر عرفات، وأدورنو، وغلغامش، وحتى أنطوان لحد، ودايفيد شنكر. أما المدى فهو مفتوح على حقول القمح وأعشاب الأرض وشجرات الحور والنبع وطاحونة الأجداد والثلج والغيمة والناي.

لقمان سليم 

لعل شبيب الأمين أصاب في هجرة المدينة التي أتعبته، ولعل هجرته تلك أورثته بدورها حيرة ووجيف قلب، وها هو يبوح بحسرة وخيبة: "أضجرني العالم، وها أنا أنهرم كمئذنة، أنطفئ انطفاء حيرة في زقاق، كنرد يتهاوى في بئر" (من قصيدة "هجرة رضوان الأمين"، ص 43)، ثم يصيح: "على هذه اليابسة خسرتُ بيادقي كلها، وعليّ الآن أن أُدير الكارثة، أن أرتق ثقوب أيامي بقصائد مبتذلة" (من قصيدة "فقمة على شاطئ"، ص 26).
كلنا خسرنا بيادقنا وبنادقنا وخيولنا، وها نحن نستغيث، ولا أحد يسمعنا، أو يُنجدنا، أو يدفعنا إلى عماء الأيام الآتية. أما شبيب الأمين، في ديوانه هذا، فهو لا يُطلق صرخات الاستغاثة قط، بل يحتج على الموت والقتل والاغتيال، ويهزأ بالأيام ويسخر من الماضي والحاضر والأبد.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.