}

أَعَزَاءٌ في الفلسفة أم في الوعي التراجيديّ؟

جورج كعدي جورج كعدي 27 ديسمبر 2023
آراء أَعَزَاءٌ في الفلسفة أم في الوعي التراجيديّ؟
"الملك لير والأحمق في العاصفة" لوليام دايس

الأساسان الوحيدان اللذان يوطّدان علاقتنا بالمعرفة هما الألم والشرّ، ونحن نعيش كليهما في اللحظة الفلسطينية الراهنة: الشرّ متجسّدًا في الوجه الصهيونيّ القاتل، والألم متمثّلًا في وجه طفل غزة المقتول. ما الذي ينقذنا من هذه الصورة الهجينة من شرّ وألم ويعطينا الجواب؟ هل يشفينا عزاء الفلسفة الذي قُرِّظ كثيرًا أم يعوزنا عزاء آخر ربّما نعثر عليه في الجانب المأساويّ، التراجيديّ، اليائس من الحياة التي انتصر فيها الشرّ على ما عداه من مفاهيم خير وحقّ وعدل وسلام؟

إذا لم يكن الفيلسوف مفكرًا بجمع روحه لا بعقله وحده فهو ليس بفيلسوف. الفلسفة مثل الشعر عمل تكامليّ تناغميّ، أو تكون مجرّد سفسطة وفكر نظريّ زائف. لكلّ معرفة غاية، بينما المعرفة من أجل المعرفة ليست إلّا سفسطة محزنة. الفلسفة هي اكتناه مأساة الوجود وتأمّل الشعور المأساويّ بها. لذا قد لا يكون العزاء في الفلسفة بل في الوعي التراجيديّ لوجودنا، وحتى في اليأس الذي وحده يولّد الرجاء البطوليّ (حركة السابع من أكتوبر التحرّرية انطلقت ديناميّتها من اليأس والألم المتراكمين اللذين ولّدا رجاءً بطوليًّا أو ما يمكن وصفه أيضًا بالغضب البطوليّ).

الشرّ حاضر كوسمولوجيًّا في العالم، من أقصاه إلى أقصاه، وحضوره في حياة الإنسان أكثر وضوحًا، فهو يتربّع ككائن واعٍ على "عرش" المعاناة ويتجسّد في حياته بالقدر الأكبر من الآلام. الوعي والمعاناة متصلان. يقول شوبنهاور "مع الاكتمال التدريجيّ لتمظهر الإرادة تغدو المعاناة أكثر جلاءً، ومَنْ يزداد علمه يزداد ألمه". ويثبت شوبنهاور في مؤلَّفه الأساسي "العالم إرادةً وتمثّلًا" أنّ وجود الإنسان شرّ، فهذا الوجود معادل للمعاناة، ويشكّل الألم عمق كلّ حياة إنسانية: "الإرادة ليست سوى رغبة عمياء في الحياة". وحياة الإنسان، في الوعي التراجيديّ، هي شرّ لكونها معاناة وألم وشقاء. تخوض الكائنات كلّها، والإنسان بينها، صراعًا مريرًا ضدّ الحاجة والعوز. هذا عدا ضعف الإنسان وهشاشته، فأقلّ اضطراب طبيعيّ يجرف ملايين الأرواح، ولا ينطبق على الطبيعة بحسب شوبنهاور وصف الطبيعة المعطاء أو الأم، بل هي طبيعة جشعة (يشبّهها بالغول الذي يفتح فمه لطمر البشر من دون أن يشبع). ما تعطيه الحياة للإنسان يشبه الصدقة التي تُرمى لمتسول فتنقذ حياته اليوم بيد أنّها تؤجّل شقاءه إلى الغد. وحياة الإنسان شرّ لأنّ المتع والملذات التي يمكن أن تمنحها الحياة له هي أقل من الآلام وأدنى واقعية، وكلّ إشباع هو مجرّد إيقاف لألم أو سدّ لنقص، والسعادة وهم وذات طبيعة سلبية لا إيجابية، كما أنّ خاصيّة الإشباع السلبية تجعل اللذة أمرًا عابرًا ولحظةً خاطفة بين ألم أُوقف وآخر ينطلق. والحياة شرّ أيضًا لأنّها تتأرجح في وصف شوبنهاور، مثل رقّاص ساعة الجدار، يمينًا ويسارًا، بين الألم والسأم. ولا ترتبط معاناة الإنسان بأي شرط سوى بكونه موجودًا، ما يدلّ على أنّ الحياة ليست قيمة حقيقية بذاتها. يكشف السأم عن وجودٍ بلا معنى لا يعاني الإنسان فيه من شيء محدّد بل من الخاصيّة العبثية للحياة.

اعتبارًا من النصف الثاني من القرن التاسع عشر أصبح شوبنهاور الفيلسوف الأكثر رواجًا. حين زار دوستويفسكي مدينة بادن – بادن في نهاية ستينيّات القرن التاسع عشر، على ما يروي جوزف فرانك، وجد تورغينيڨ "مثقلًا"، تحت تأثير شوبنهاور المثبّط للعزيمة، بوطأة الاعتقاد "أنّ الوجود ليس سوى مملكة للألم الذي لا يتوقف". لكنّ دوستويفسكي كان قد صارع طويلًا كي يتجاوز اليأس الذي أغرقته فيه سنوات النفي والسجن، فوجد صعوبة في التعاطف مع "الشكوك الفلسفية" التي كانت تمزّق تورغينيڨ. وفي فرنسا، نحو عام 1880، وبحسب تعبير أحد معاصري تلك الحقبة، "أضحى الناس يتعاطون شوبنهاور مثلما يتعاطون المورفين". وبين نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، بات جميع مفكريّ أوروبا ومبدعيها يجاهرون بانتمائهم إلى فكر شوبنهاور: ويسمان، موباسان، ڨاغنر، نيتشه، بروست، كافكا، ستريندبرغ، كاندينسكي، ڨيتغنشتاين... والقائمة تطول كثيرًا. لم يحظَ فيلسوف آخر من قبل بهذا القدر من التأثير الحاسم في الحياة الفكرية، في أوروبا وخارجها.

لا يظهر الشرّ، بالنسبة إلى الإنسان، على شكل آلام ومعاناة يتحمّلها طوال حياته فحسب، بل إنّه يقبع أيضًا في الألم الأخلاقيّ الذي يضغط على فكره وتشكّل فيه الأنانية والظلم والشرور العناصر الأوّلية لحياته البائسة. التناقض هو ما يحرّك الإرادة، كذلك الحروب المستمرّة بين البشر وهي ساحة النزاع بين تناقضات الإرادة. وإذا كان الألم يجد منبعه الأساسيّ في الرغبات فإنّ سائر الشرور تتأتّى من الإرادة الخاضعة لمبادئ الفردانيّة في تطلّعها الذي لا ينتهي إلى ذاك المنبع.

ليس الإنسان كائنًا يعي المأساة والشقاء فحسب، بل هو يعيش كذلك حالات العناء والعذاب. إرادته تعي، لكنّها تتألم أيضًا. هذان البعدان متلازمان، فحجم الوعي يحدّد حجم العذاب والاستعداد لتقبّل الألم. النبات المجرّد من الإحساس هو مجرّد من الألم فلا تتألّم الوردة حين نقطع عنقها. كذلك الحشرات التي لا تتمتع بجهاز عصبيّ نراها تستمرّ في الأكل حتى عندما نقتطع جزءًا منها. ولا تتألّم الحيوانات سوى في اللحظة الراهنة. وحده الإنسان يبقى ضحيّة الوعي الذي يغذّي فيه الشعور بالشقاء والألم، بالإضافة إلى العذاب الجسديّ.

بحسب تعبير أحد معاصري تلك الحقبة، "أضحى الناس يتعاطون شوبنهاور مثلما يتعاطون المورفين"


لو وضعنا في الميزان "أفراح" حياتنا مقابل أحزانها لرجحت كفّة الأحزان بالتأكيد. يكفي أن نجول في المستشفيات حيث العمليات الجراحية والأمراض المستعصية، وأن نلقي نظرة إلى ضحايا الحروب وجرحاها، وأن نحصي ضحايا الكوارث الطبيعية، لنوقن الحضور الدائم للألم في حياة البشر. السجال عقيم حول الشرّ والخير في العالم إذ أنهاه وجود الشرّ الذي لا يمكن محوه من الوجود، حيث ألوف ملايين البشر الذي يكابدون قلقًا مميتًا وعذابًا مؤلمًا أكثر بألف مرة من شعورهم بفرح وسعادة عابرين سرعان ما ينزلقان إلى الماضي بلا عودة، فلحظة ما قبل لم تبقَ موجودة، واللحظة الآتية طواها الماضي، أمّا السعادة والحياة الهانئة فبالكاد نراهما وراء طيف الألم الذي يتراءى لنا دونما انقطاع، وهذا الطيف قد يأخذ شكل ذكرى أو ضياع الأشياء التي نحبّها.

حتى شخصية دون كيخوته، التي أبدعها العبقريّ ثرڨانتس، يمكن النظر إليها من زاوية الوعي التراجيديّ للوجود. بل لعلّ إنسانًا حيًّا وحيويًّا مثله يساوي كلّ النظريات الفلسفية. حارب وحيدًا، مع مرافقه الطيّب سانشو، وارتكب يائسًا الحماقات المجنونة (أشهرها محاربة الطواحين التي خالها كائنات عملاقة) ولم يبرأ من جنونه بل بدّله، وكان موته آخر مغامرة فروسية اقتحم بها السماء الحصينة. مات دون كيخوته بطلًا يائسًا مجنونًا، ونزل إلى الجحيم شاهرًا رمحه ومحرّرًا المحكوم عليهم بالعذاب جميعًا ثم أقفل أبواب الجحيم الذي رآه دانتي ووضع عليه لوحة أخرى تقول "عاش الرجاء!"، وعرّج من ثمّ إلى السماء يرافقه المحرَّرون وهم يهزأون به، وأطلق الله ضحكة أبويّة فملأت الضحكة الإلهية روح دون كيخوته سعادة أبدية... صورة استعاريّة معبّرة فيها وجها الشخصية الخالدة، الغنية، المملوءة ثورة وغضبًا وجنونًا ومواجهات يائسة، إنّما الظريفة واللطيفة التي تُمتعنا وتعزّينا بعمقها التراجيديّ وإدراكها حقيقة الوجود وأوهامه. وأعظم ما في دون كيخوته أنّه كان مهزومًا على الدوام، بيد أنّه في الوقت نفسه عبثيّ، ضاحك، ساخر، حاول الانتصار على العالم بمعاركه "الدونكيخوتيّة" التي لا تستكين وإنّ ظلّت محكومة باليأس والفشل. هي صورة البطل الغاضب الراجي اليائس الضاحك معًا. يريد هذا البطل المسكين عقلنة اللا معقول وجعل المعقول لا معقولًا. الغضب البطوليّ من سمات ذوي الطبائع المتفوّقة المسمّاة "معتوهة"، ليس لأنّها لا تعرف، بل لأنّها فائقة المعرفة. ما عساها تكون رسالة دون كيخوته في عالمنا اليوم؟ الصراخ في الصحراء؟ لكنّ الصحراء تسمع وإن لم يسمع البشر.

لدينا نموذج كبير للوعي التراجيديّ متمثّل في الشاعر والمسرحيّ العبقريّ الخالد وليم شكسبير. إنسانيته العميقة جدًا جزء من فتونه الدائم. في أعماله التراجيدية الكبرى نظرة تشاؤمية إلى البشر ونزعة شك. ففي "ترويلوس وكرسيدا" نظرة محبطة تمامًا على أشهر حرب في التاريخ وتأثيراتها البشعة على كلا الجانبين المتحاربين. ويدرك "هاملت" أنّ العالم الذي يعيش فيه ليس سوى "تجمّع مهلك من الأبخرة"، ويدفعه تخلّي أمّه عن ذكرى زوجها الميت إلى اتهام النساء عامة بالهشاشة والانغماس في الملذّات الحسّية. والنهاية المثبطة في "يوليوس قيصر" تُبرز الحقيقة المحزنة عن البشر بكونهم أسوأ الأعداء لذواتهم، وفي تحوّلات التاريخ غير المتوقعة غالبًا ما تفضي المساعي النبيلة إلى تدمير المثاليات الحقيقية التي يصارع الأبطال التراجيديون من أجلها. وفي "عطيل" و"الملك لير" نظرة سوداء على الأنذال الذين لا يجدون سببًا لإطاعة مبادئ الأخلاق التقليدية. ولا يخفف عمق التشاؤم في "تيمون الأثيني" و"كوريولانوس" من الذعر الوجودي. حتى لو لم يكن شكسبير فيلسوفًا صاحب نهج فلسفيّ، إلّا أنّ وعيه الفلسفيّ التراجيديّ يتجلّى بأعمق معانيه في مسرحياته وقصائده. لم يناقش شكسبير الفلاسفة كثيرًا، وربما لم يقرأهم على نحو مستفيض (يستشهد بأرسطو مرتين في تعليقات عابرة، ويذكر إسم سقراط مرة في مسرحيته "ترويض الشرسة" كزوج خانع سيئ الحظ لكانتيب المتسلطة، ويشير أربع مرات لفيتاغورث كصاحب أفكار غريبة، وسنيكا ككاتب مسرحيّ فذّ...). هذا في حين وُضعت مؤلفات كثيرة عن شكسبير "فيلسوفًا" في مسرحياته، بينها على سبيل المثال "فلسفة شكسبير" لكينيث سبالدينغ و"شكسبير فيلسوفًا" لفرانز لوتجينو. كيف لا يكون فيلسوفًا من نسمعه يقول على لسان هاملت "أكون أو أكون"، أو على لسان إيرل غلوستر في "الملك لير": "نحن للآلهة مثل الذباب للأولاد المستهترين، يقتلوننا لتسلية أنفسهم"، أو على لسان مكبث في خلاصته العدمية أنّ "الحياة ليست سوى ظلّ يمشي"، وأيضًا على لسان بوك في "حلم ليلة في منتصف الصيف": "يا إلهي، أيّ حمقى هؤلاء الفانون!". وكثيرًا ما تحوّلت أقوال شكسبير إلى كلام مأثور بفضل قوّتها وروعتها.

نظرة شكسبير التراجيدية التشاؤمية عزّزها موت ابنه الوحيد هَمْنِت عام 1596، وكان موته صفعة مرعبة لشكسبير، فكانت مسرحياته التي كتبت بين 1599 و1601 أكثر تحرّرًا من الوهم وأكثر ميلًا إلى الاستدلال الفلسفيّ ممّا سبقها، فاتحة للكاتب العبقريّ أسئلة جديدة أكثر شكًّا في الطبيعة الإنسانية. يكتب في مسرحية "ترويلوس وكرسيدا" (1601) عن حرب طروادة: "أوه، حين ترجّ المنزلة،̸  وهي سلّم كل التصميمات السامية̸  يختلّ المشروع ...̸ وينضمّ كلّ شيء إلى السلطة،̸ والسلطة إلى الرغبة، والرغبة إلى الشهوة،̸  والشهوة ذئب كاسح، تناصره الرغبة والسلطة،̸  ولا بدّ من أن يصبح العالم فريسة̸  ويلتهم نفسه في النهاية". يقدّم فنّ شكسبير المسرحيّ عزاءً عظيمًا عن عالم وضيع كُتب على أبطاله التراجيديين أن يكافحوا بلا هوادة... وبلا طائل: "ليست الحياة إلّا ظلًّا سائرًا، ممثلًا بائسًا̸ يختال وتتآكل ساعته على المسرح̸ ولا يُسمَع بعد ذلك. حكاية̸ٌ  يحكيها معتوه، ممتلئة صَخبًا وضراوة ̸  ولا معنى لها" (من "مكبث").

سؤال ختاميّ برسم التفكير والتأمّل: لِمَ تمنحنا التراجيديات، قراءً أو مشاهدين، شعورًا بالمتعة، رغم حزنها المأساويّ؟!

*ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.