}

"فوضى": في الحوار المفيد بين الكتابة والرسم

فيصل درّاج 24 يونيو 2023

"فوضى"(*) كتاب يثير الفضول شكلًا ومضمونًا ورسالة. انطوى على جهد مشترك بين الأردني هشام البستاني، والمصري محمود حافظ، الأول منهما كتب القصة والشعر والمقالة، وله اجتهاد نظري ـ سياسي متميّز عالج "وظيفة الأنظمة العربية" في صفحات واسعة، وتُرجم كتابه "الفوضى الرتيبة للوجود" إلى الإنكليزية، وينتظر ترجمة فرنسية في عام 2024. والآخر رسام يهوى الكتابة، ويحوّل النصوص الأدبية إلى قصص مصورة. انتهى الطرفان إلى عمل أدبي ـ فني حواري، وبقيا متمايزان، لا الأول التحق بالثاني، ولا الثاني تنازل عن فنه، تحاورا وتكاملا وأنجزا عملًا يتجه إلى "قارئ" يكمله ويضيء ثغراته ويملأ فراغاته حرًا. لم يعطِ الأديب والرسام قولًا أخيرًا، ولم يقصدا إلى ذلك، ذلك أن "فوضى" العالم، والعالم العربي بخاصة، تأبى الإجابات الجاهزة.
ولعل بحث الطرفين عن "إبداع" جديد ألزمهما بكتاب مختلف الشكل، غلافه من ورق مقوّى مختلف الأبعاد عن الكتب المألوفة. نرى على الغلاف الخارجي رسم امرأة تعزف على قيثارة، ووجه كاتب مندهش يحمل قلمًا يحدّق في فضاء يكتنفه الرعب، تشرف عليهما "فوضى" حمراء الأطراف تجاورهما كتابة لا تكاد تقرأ، كما لو كان في الغلاف "أحجية"، التي هي تعريفًا ما لا يُدرك من النظرة الأولى. وزّع الكتاب قوله على "سبعة فصول" متصلة ـ منفصلة، تُقرأ متكاملة، وتقبل بقراءة تنظر إلى الفصول فرادى. وهي: عُزلة، نقلة نوعية، غبار النجوم، ورق على الطاولة بجانب الكرسي المقلوب، المثقفون، عقدة قضيبية، كأس من الفودكا على شاطئ البحر. توحي العناوين إلى ما غادره السواء وبقي معلقًا في فضاء سديمي، فلا "العزلة" تشير إلى عالم أليف، ولا النجوم زاهرة مضيئة متحررة من غبار يعوّق التواصل، مثلما أن الكرسي المقلوب تعليق على كتابة غاضبة تضيف الرسوم إليها غضبًا إضافيًا.... أما المثقفون فموضوع سخرية ضافية، كتاباتهم لا تُقنع، وخطاباتهم أقل إقناعًا، وسلوكهم موبئة منذ أن جعلوا الفصل بين الثقافة والممارسة قاعدة جارية... وفي فصول "الفوضى" ما يصرّح بواقع عربي لا يحسن الوقوف، يسقط  قبل الوقوف وبعده. ترجم المؤلفان، إن صح القول، الواقع العربي وما فيه بجملة من كائنات شائهة معتمة أقرب إلى "المسوخ" تطاردها "سيارات الشرطة"، لا ضوء، ولا مساءلة، ونوافذ السجون محكمة الإغلاق.
أخذ الكتاب في فصوله السبعة، باستثناء ما يخص المثقفين، بمجاز: الاختناق والوجوه المبعثرة، فلا حواس الإنسان في مواقعها، ولا الهواء الضروري للحياة له وجود. ولهذا يبدو "دماغ الإنسان" طائرًا في الهواء، بقدر ما تبدو "عيونه المكسوة بالموات" مفقودة، أو مليئة بالتراب. نقرأ في الكتاب، بلغة هشام البستاني، عن "ضوء شحيح ملوّن يتقلّب باستمرار،..... الحيطان كلها عارية سوى ذلك الحائط المقابل يَتَبَرْوز عليه تلفزيون الكريستال السائل كلوحة متقلّبة...". يعدم الضوء الشحيح الرؤية، ويحوّل التلفزيون العقل إلى استطالة زائدة. يوسّع الرسام محمود حافظ ما كتبه الأديب بإشارات فنية خاصة به، إذ "الأدمغة" حجارة أخرى والإنسان الذي فقد المحاكمة واسع الرضى، والمسلسل التركي، كما الفيلم الهوليودي، يكاثر الضجيج والمنتهى تشظّي الحواس وتصادم الأشياء العمياء الذي يبدّد المعنى.
لا يمتد ما قاله الأديب في ما اقترحه الرسام، فهما فعلان مستقلان لا يعيد أحدهما إنتاج الآخر، بل هنالك واقع مستقل عنهما يقترح له كل منهما قراءة خاصة، قراءة بالكلمات أقرب إلى "المفاهيم النظرية"، وأخرى بإشارات اللون الأسود تكاد أن تكون "لوحة مستقلة". إنه حوار العقول المتكاملة المتباينة المتطلعة إلى قارئ يحاورها أيضًا. ففي مقابل التلقين السلطوي الذي تنتجه المدرسة الرسمية ورجل الأمن والإعلام السمعي ـ البصري، ويعطّل، تاليًا، عقل الإنسان وحواسه يقدّم "المؤلفان" كلامًا بالصور، أو صورًا "يحاورها" كلام، ينهى عن الاستظهار المغلق، ويدع لفكر القارئ وعينيه ومتخيّله مساحة "تقرأ" الموضوع وتعاينه مندهشة.
لم ينشد البستاني وحافظ كتابًا تعليميًا محرّضًا، وزاجرًا في تحريضه، سعيًا، كل على طريقته، إلى فن ديمقراطي يعلم بديمقراطيته الغائبة عن المناهج المدرسية، يجلوه حوار الرسم والكتابة، هذا الحوار الذي تغيّبه العقول الصامتة، المحصنّة الصمت وترى في المساءلة رذيلة.




شجب كتاب "فوضى" الحدود الفاصلة بين أنواع الإبداع كما لو كان كل فن جنسًا مستبدًا مكتفيًا بذاته، حال الأحزاب السياسية "الفولكلورية" الموجودة، أحيانًا، في العالم العربي. فلا وجود لفن يولد من ذاته، فقبل الرسم تأتي الصورة الشعرية، وقبل حكاية الأدب تراكمت الحكايات الشعبية في متخيّلها المطلق السراح. والمقصود وراء هذا المنظور، فلسفيًا، إلغاء مفهوم الجوهر، الذي يستولد الأشياء من عدم، حال حاكم  يستبد بشعبه ووطنه، ويضع ذاته المريضة فوق الشعب والوطن معًا، محوّلًا الأول إلى "رعية"، ومصيّرًا الثاني إلى أرض لها علم.
حقّق الكتاب، بلا ادّعاء ولا تقصّد، وحدة الثقافة والسياسة، إذ الثقافة بلا سياسة مهنة تتوسل الرزق، والسياسة بلا ثقافة تمارين فاسدة للمستبدين ودعاة الفساد. ولهذا أفرد المؤلفان للمثقفين والمثقفات، إذا جاز التذكير والتأنيث، فصلًا طويلًا في عملهما. فالمثقف الذي رآه الرسام في أوراق متطايرة وكلمات جوفاء وشعارات سياسية يلوذ "بخنزير رأسمالي" باحثًا عن ريع مجاني ـ عنوانه الأكبر "المنظّمات غير الحكومية"، أو "يتصاغر" أمام سلطة يهجوها ويقدسّها وتقبض يدها على عنقه كما تشاء، كما جاء في رسم بالغ السخرية والنباهة. والحال لا تختلف في مثقفي "الخيارات الأيديولوجية الموسمية"، حيث المثقف "المستجير بالفوضى والشذوذ" يغيّر فكره مثلما يغيّر تسريحة شعره، منتهيًا إلى "ولع الكم" الذي يتعرّف به مثقفون على صورة حكامهم، ينشدون الراحة والشهرة والموالاة والمعارضة واللباس الرسمي والغطاء الشعبي، قبل أن يصلوا إلى شهوة عليا قوامها نساء متعددات مختلفات الأعمار. أوغل محمود حافظ في هجاء المثقفين وتركهم "عرايا" يثيرون السخرية والضحك والاحتقار. احتفى ضمنًا، كما البستاني، بمثقف وطني ديمقراطي متسق يقرأ المسافة بين الحاكمين والمحكومين بلا تزيّد ولا إضافة.
صوّر كتاب "فوضى" العلاقة بين مثقفين و"أسطورة المرأة"، بمتواليات من "الكاريكاتور" قوامها الخداع الذاتي، ومخادعة "بنات حواء" المتوّهمة، أو "بكوميكس" بلغة المؤلفين، يبدأ وينتهي بما يستثير الضحك ويهجو ثقافة تبدّد دلالة الحب والعلاقات الدافئة. ثقافة من خواء قائمة على "العقد النفسية"، إذ المثقف يخترع المرأة قبل التعامل معها، وإذ "المرأة المتحرّرة الوهمية" تقاسمه عقده وتختصر "الوصال"، في لعبة مشتقة من "أغاني السوق"، وسينما الاستهلاك السريع. ينطوي كتاب "فوضى" على الضحك الأسود، يوغل فيه ويحوّله إلى أسئلة جادة، ففي الظاهر الساخر ما يبكي، والضحك المتوالد تتلوه السخرية، فصاحب العقل يعي أسباب الضحك، بينما الجاهل يلهو بما يجهله، ولعلاقات الوجود المحتشدة بالأسئلة الصعبة، ولهذا يستهل الكتاب بما قال به "الفلكي الشهير" كارل ساغان: "من نحن؟ نعيش على كوكب ضئيل يتبع نجمًا رتيبًا ضائعًا في مجرّة مدسوسة داخل زاوية منسية ما من كون فيه من المجرّات عدد أكثر بكثير مما فيه من البشر". صدر "الكوميكس"، وكل ما يسلّي، وليس له علاقة بالتسلية، من المتعارض بين كون غير محدود ورؤوس "مثقفة" تتوّهم أنها بدء الكون ونهايته، ومن "مدارس سلطوية" تذيب الأسئلة الجادة في جهل مقدس، فكلما استقر الجهل نَعِم الاستبداد بحياة طويلة.
تأمل كتاب "فوضى" صورة السياسة مرتين: مرة أولى تعبث ببشر يظنون السياسة كلمات معقدة كبيرة، تأتي مع الصباح وتتساقط في الغروب، ومرة ثانية توحّد بين المثقف و"سياسات الإبداع" التي تواجه المألوف المبتذل بواقع حياتي يشكو الإنسان العربي فيه من القهر والفقر والضجيج الفارغ. بهذا المعنى، يكون كتاب البستاني وحافظ جديدًا جديرًا بالقراءة، وبأكثر من مراجعة.

(*) صدر الكتاب عن دار "نول" في القاهرة، يناير/ كانون الثاني 2023.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.